إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

في ذكرى وقفة الأستاذ محمود (٣٦) - الحلقة الأولى
كيف واجه استغلال الدين في الكيد السياسي!؟

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


٩ يناير ٢٠٢١

في البداية أحب أن ألفتُ نظر القاريء إلى أن الهوس الديني دائما يحاول بخطة أن يوحي للشباب بأن محاكمة الأستاذ محمود كانت على تهمة الردة، وبسبب معتقداته الدينية، ثم ينتهي إلى القول بأن على الجمهوريين الذين يريدون العمل في الميدان السياسي أن يقروا بهذه الفرية ويتوبوا، ليتسنى لهم ممارسة النشاط من جديد..

والخطل في هذا التنظير يأتي من جهتين:
الأولى هي أن تهمة الردة لم توجه أصلا إلى الأستاذ محمود ومعتقداته ولم تذكر قط في المحاكمة الأخيرة، فقد صدر الحكم على قانون أمن الدولة (المادة ٩٦ ط، د) وإثارة الكراهية ضد السلطة (المادة ١٠٥) فالمسألة ببساطة كانت استعمال لجهاز القضاء أداة لقتل معارض سياسي لحماية السلطة من فعالية معارضته وقوتها..
أما الثانية فهي أن تكوين الأحزاب السياسية في كل العالم، وفي السودان بخاصة لا يشترط الإسلام كمصدر للأفكار، والواقع يشهد حضور فاعل لأحزاب علمانية برنامجها الدستور العلماني وفصل الدين عن الدولة..
إذن هؤلاء المهووسين إنما (يرقصون خارج الحلبة) فهم قد أعماهم الحقد عن أن يعرفوا أبسط الحقوق الدستورية التي كفلها الإسلام في أصوله لجمبع الناس بلا تمييز بينهم بسبب العقيدة، أو اللون، أو الجنس أو العنصر.. يضاف إلى ذلك، أنهم يعلمون في دخيلة أنفسهم فعالية دعوة الأستاذ محمود الإسلامية الجديدة، في إضعاف الهوس الديني والدفع في اتجاه اجتثاثه من جذوره، في النفوس.. ولذلك ما إن تظهر الفكرة في أجهزة الإعلام، أو يتولى أحد معتنقيها موقعا في الحكومة، حتى يصابوا بهلع، ويتجهون إلى إثارة العاطفة الدينية لدى جمهور محبي الدين، ليتخدوهم مطية نحو الحاكم ليقرر لهم إقصاء من يختلف معهم، وخير دليل على هذا الصراخ والعويل الذي شاهدناه من الوهابي د. محمد الامين اسماعيل في مسجده في قضية المناهج ثم ما تبع ذلك من ضعف لموقف السيد رئيس الوزراء..
لقد واجه الأستاذ محمود في عهود الحكم الوطني محكمة الردة 1968م، والمحكمة الأخيرة أواخر سلطة مايو، والأولى كانت بسبب مواجهته القوية لتعديل مواد الحقوق الأساسية في دستور 56 المعدل 64 من جانب الأحزاب الطائفية والأخوان المسلمين، والتي أفرزت حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان، ثم لمناهضته الدستور الإسلامي المزيف ١٩٦٨م.. فقد أقام المهرجانات والأسابيع والمعارض لكشف خطورة الهوس الديني على البلاد والعباد.. وكمثال: (مهرجان الحقوق الأساسية)(أسبوع مناهضة الدستور الإسلامي المزيف)(أسبوع تصفية المحاكم الشرعية)، وكرد فعل لهذا النشاط المكثف دبرت الطائفية مهزلة محكمة الردة لإسكات صوت الأستاذ محمود، عن طريف استدراج الحاكم كما حدث هذه الأيام.. على كلّ، يمثل الأستاذ محمود أمام تلك المحكمة لأنها من الناحية القانونية كانت تعمل خارج اختصاصها.. لكن نحب أن نسلط الضوء على كيف نجح المدّعي في استدراج وتوريط الحكام في تبني تلك المحكمة.. لقد كشف الشيخ الأمين داؤد المدّعي الأول الذي فتح البلاغ تآمر السلطة الطائفية معه، بقوله إنه تلقى الخطاب التالي من مجلس السيادة، ننقل نصه من كتابه الذي أسماه (نقض مفتريات محمود محمد طه ) :ـ
(القصر الجمهوري ـالخرطوم ـ 3 نوفمبر1968 صاحب الفضيلة الأستاذ السيد الأمين داود..
تحية طيبة وبعد
فقد وصلتني هديتكم العظيمة المفيدة وقد تصفحتها وسررت بما قمتم به فيها من دفاعكم عن الحق، بدحضكم لمفتريات محمود محمد طه هذا وأرجو أن يتخذ ضده الإجراء الرادع .. هذا وأرجو أن يجزيكم الله خير الجزاء على عملكم هذا مع احترامي و سلامي..
المخلص: الفاضل البشرى المهدي
عضو مجلس السيادة


بهذا الخطاب شهد الشيخ الأمين بقلمه على تورط مجلس السيادة في تدبير هذه المكيدة السياسية، وقد تبعهم السيد الصادق المهدي الذي كان رئيسا للوزراء هذه المحكمة، إقرأ إن شئت ما نشرته عنه صحيفة " أنباء السودان" بتاريخ 29/11/1968م:
" علق السيد الصادق المهدي علي آراء الأٍستاذ محمود محمد طه الأخيرة بقوله: إن أفكار رئيس الحزب الجمهوري خارجة عن نطاق الدين والشريعة الإسلامية وإن التفكك والانحراف الذي تعيشه بلادنا هو الذي سهل من قبل لدعاوى الكفر والإلحاد أن تتفشّى، وإذا أردنا حقا القضاء على الردة والإلحاد فيجب أن نسعى جميعا لإقامة دولة الإسلام الصحيحة، وأضاف: بأن الوضع الحالي كله خارج الشريعة الإسلامية، وهذا ما مهد قبلا لإعلان مثل هذه الأفكار والدعاوى الغريبة دون ان تجد من يردعها ..) انتهى....

هذا وقد رد الأستاذ محمود على المحكمة بمنشور سدد ضربات موجعة لهؤلاء القضاة، ولأشياعهم من السلفيين، فلنستمع إليه:

المنشور رقم (1) :-
(أوردت صحيفة الرأي العام الصادرة اليوم، بالعنوان الكبير، عبارات: المحكمة الشرعية العليا تحكم بردة محمود محمد طه وأمره بالتوبة عن جميع أقواله!!
أقرأ مرة ثانية: وأمره بالتوبة عن جميع أقواله!!
هل سمع الناس هوانا كهذا الهوان؟ هل أهينت رجولة الرجال، وامتهنت حرية الأحرار، واضطهدت عقول ذوى الأفكار، فى القرن العشرين فى سوداننا الحبيب، بمثل هذا العبث الذى يتورط فيه القضاة الشرعيون!؟ ولكن لا بأس، فإن من جهل العزيز لا يعزه.. ومتى عرف القضاة الشرعيون رجولة الرجال، وعزة الأحرار وصمود أصحاب الأفكار؟؟
إن القضاة الشرعيين لا يعرفون حقيقة أنفسهم.. ومن الخير لهم وللإسلام، ولهذا البلد الذي نفديه، أن نتطوع نحن ، فنوظف أقلامنا ومنبرنا لكشف هذه الحقيقة..
أما الآن، فإني وبكل كرامة، أرفض هذه المهانة التي لا تليق بي، ولا يمكن أن تُوجَّه إليَّ ، ولا يمكن أن تعنيني بحال.. فقد كنت أول وأصلب من قاوم الإرهاب الاستعماري فى هذه البلاد.. فعلت ذلك حين كان القضاة الشرعيون يلعقون جزم الإنجليز، وحين كانوا في المناسبات التي يزهو فيها الاستعماريون يشاركونهم زهوهم، ويتزينون لهم بالجبب المقصبة المزركشة، التي سماها لهم الاستعمار(كسوة الشرف) وتوهموها هم كذلك، فرفلوا فيها واختالوا بها وما علموا أنها كسوة عدم الشرف..
أما إعلانكم ردتي عن الإسلام فما أعلنتم به غير جهلكم الشنيع بالإسلام.. وسيعلم الشعب ذلك مفصلاً في حينه.. وأما أمركم لى بالتوبة عن جميع Hقوالى، فإنكم أذل وأخسأُ من أن تطمعوا فىَّ.. هل تريدون الحق أيها القضاة الشرعيون؟
إذن فاسمعوا: إنكم آخر من يتحدث عن الإسلام.. فقد أفنيتم شبابكم فى التمسح بأعتاب السلطة، من الحكام الإنجليز الى الحكام العسكريين.. فأريحوا الإسلام وأريحوا الناس من هذه الغثاثة...) انتهى..
محمود محمد طه
رئيس الحزب الجمهوري
أمدرمان