إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

في ذكرى وقفة الأستاذ محمود (٣٦) - الحلقة الثانية
لماذا أيد مايو في بداياتها ولماذا عارضها أخيرا؟!

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


١١ يناير ٢٠٢١


عندما قامت مايو، كان الدستور الإسلامي المزيّف في طريقه للإجازة في الجمعية التأسيسية، وقد مرّ في القراءة الثانية، وبذلك كادت الأحزاب الطائفية أن تجمع بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية.. وقد قاد الأستاذ محمود التوعية بخطورة ذلك الدستور المتخلف عن روح العصر، وكانت حركته على أشدُّها بالحوار الفكري، لإخراج البلاد من هذه الجهالة التي تلتحف قداسة الإسلام، وتنذر بالفتنة الدينية..
على هذه الخلفية قام انقلاب مايو وكان بمثابة إنقاذ للبلاد، فمزّق الدستور المزيّف، وأنهى تلك الفتنة الدينية.. ولذلك أيّده الأستاذ محمود، لا لأنه أفضل نظام حكم وإنما لضرورته في المرحلة كحائل بين الشعب والفتنة الدينية.. ولذلك عندما سألته مجلة الجامعة بتاريخ ٤ يناير ١٩٨٥م وكان ذلك قبيل اعتقاله الأخير بيوم واحد:
(تأييدكم لهذا النظام علي أي أساس كان؟ أجاب: نحن ما عندنا فرصة لنجد المستوى اللي نحن عايزنو للدعوة للفكرة وكان علينا اختيار أخف الضررين: الطائفيــة والهوس الديني أو مــايو!!)..

لم تعترض مايو نشاط الجمهوريين، لأنهم أيدوها، فاستمرت التوعية بالفهم المستنير للإسلام، وكان الأستاذ محمود يدعو الأحزاب التي تعارض مايو بالسلاح، أن تعود وتنزل بأفكارها لساحات الحوار لتحدث غربلة، تنتهي بأن يجتمع الشعب على فكرة للتغيير بديلة للهوس الديني ومن الإسلام نفسه..
ولذلك عندما أعلنت المصالحة الوطنية عام ١٩٧٧م، أخرج الأخوان الجمهوريون كتاب "الصلح خير" في أغسطس من نفس العام، ودعوا السلطة والأحزاب المتصالحة إلى إقامة تنظيمات فكرية لإثراء الحوار حول المذهبية، حتى لا تتخذ فترة ما بعد المصالحة نفسها وسيلة للانقضاض على السلطة باسم الدين مرة ثانية، فتخرج المصالحة عن مسارها الصحيح.. وقد اشتمل الكتاب على خطاب الى رئيس الجمهورية بتوقيع الأخ عبد اللطيف عمر حسب الله، يقترح تأسيس ميثاق عمل وطني على فكرة قيام المنابر الحرة خارج الاتحاد الاشتراكي "تنظيم السلطة" كضرورة لغربلة الأفكار لتتضح المذهبية المستنيرة.. لكن لم تحدث استجابة لهذا الميثاق، وانحرفت سلطة مايو، بغفلة مستولية، في اتجاه الأحزاب الطائفية والأخوان المسلمين في سباق جنوني لإقامة حكم إسلامي بتطبيق للشريعة السلفية بالبلاد، والسبب هو فعالية استغلال الدين في جذب التأييد الشعبي العام.. فكُوّنت لجنة لتعديل القوانين لتتمشّى مع الشريعة، فكانت هذه بداية اختلاف الاخوان الجمهوريين مع نظام مايو.. فقد جاء في كتاب الأخوان الجمهوريين "الصلح خير" حول هذه النقطة:
(والآن، فإننا ندق ناقوس الخطر بمناسبة الحديث عن القوانين، وعن تعديلها مما يجعلها تتمشى مع الشريعة الإسلامية، لا سيما وقد دخل على عضوية اللجنة حسن الترابي وجعفر شيخ ادريس، وهما من قادة الأخوان المسلمين ومن زعماء جبهة الميئاق الإسلامي المتحالفة مع الطائفية لفرض الدستور الإسلامي المزيف على هذا الشعب المنكوب بأدعياء الدين، وبأدعياء الوطنية.. واليوم تعود مايو بإدخالها لزعيمي الأخوان المسلمين في لجنة تعديل القوانين إلى موقف يشبه من الناحية النظرية على الأقل، ما كان عليه الحال قبل مايو ١٩٦٩م.. ونحن في مثل هذا التقدير نختلف مع مايو) انتهى..

وهكذا انحرفت مايو عن مسارها، وعادت بالبلاد إلى نفس الهوس الديني الذي انقلبت عليه، وصارت تنافس الأخوان المسلمين في التوجه لتطبيق الشريعة السلفية لتفوِّت عليهم فرصة احتوائها من الداخل، لإنهاء سلطتها تحت غطاء الدين.. ولكن الجمهوريين واصلوا التوعية بمعارضة فكرية، فأصدروا العديد من الكتب التي تنتقد سياسات مايو مثل: "بنك فيصل الإسلامي"، "التكامل"، "الهوس الديني يهدد أمن ووحدة الشعوب ويعوق بعث الإسلام" الخ.. وعندما استغل أحد شيوخ السلفيين وهو محمد نجيب المطيعي مسجدا تابعا لرئيس جهاز الأمن الذي يشغل أيضا منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية، ليشوّه أفكار الأستاذ محمود إرضاء للسعودية، أخرج الجمهوريون كتاب "الهوس الديني يثير الفتنة ليصل إلى السلطة" في الرد عليه.. وانتقد الكتاب تآمر رئيس الجهاز حينها عمر محمد الطيب إذ إن حديث هذا الشيخ تم تحت سمعه وبصره.. وكان الرد من مايو هو أن شرعت في اعتقالات واسعة للجمهوريين من أركان النقاش بالجامعات، وكان ذلك في النصف الأول من عام ١٩٨٣م، ثم اعتقل الأستاذ محمود بتاريخ التاسع من يونيو من نفس العام، وامتدّ الاعتقال لحوالي عام نصف في معتقلات أمن الدولة.. هذا وقد رفع الجمهوريون قضية جنائية ضد عمر محمد الطيب لأنه اعتقل الجمهوريين بدون سبب دفاعا عن نفسه، فالكتاب كان كتابا أمنيا من الدرجة الأولى فقد حذر من خطورة الهوس الديني على الأمن..
وفي إجابة على سؤال للأستاذ محمود من مجلة الجامعة:
قبل فترة سمعنا بإمكانية إخراجكم من المعتقل وكان في رفض بالخروج.. ما هو السبب؟
كان رده: (في أوائل مارس ١٩٨٤م عرض عليّ الإفراج وقلت ليهم الأمر ليس بهذه البساطة وأنا اللى أدخلت أولادي في السجن وأنا اللي برسلهم لقيادة الأركان.. والمنطق يقول انو تخرجوهم وتتركوني أنا ومكثت حوالي عشرة شهور، فجاء الإفراج الشامل دون قيد أو شرط بتاريخ ١٩ ديسمبر ١٩٨٤م.)...

أثناء فترة هذا الاعتقال الطويل صدرت قوانين سبتمبر ١٩٨٣م، لتبدأ معركة بالفكر من جانب الأستاذ محمود، وبالتآمر الجنائي من جانب مايو لإسكات صوته باستغلال القضاء، لأن نميري كان يعلم يقينا أن الأستاذ محمود لن يتركه يتلاعب بالدين، ليستمر حاكما أبديا حسب ما تسوّل له نفسه..
وفي أمسية نفس يوم الإفراج قال لتلاميذه: (نحن ما خرجنا لنرتاح..
نحن أخرجنا من المعتقلات لمؤامرة!!
نحن خرجنا فى وقت يتعرض فيه الشعب للإذلال والجوع، الجوع بصورة محزنة.. ونحن عبر تاريخنا عرفنا بأننا لا نصمت عن قولة الحق.. وكل من يحتاج أن يقال ليهو في نفسه شئ قلناهو ليهو!! ومايو تعرف الأمر دا عننا!!
ولذلك أخرجتنا من المعتقلات لنتكلم لتسوقنا مرة أخرى ليس لمعتقلات أمن الدولة، وإنما لمحاكم ناس المكاشفى!!
لكن نحن ما بنصمت!!
نميري شعر بالسلطة تتزلزل تحت أقدامو فأنشأ هذه المحاكم ليرهب بها الناس ليستمر فى الحكم.. واذا لم تكسر هيبة هذه المحاكم لن يسقط نميرى، واذا كسرت هيبتها، سقطت هيبته هو وعورض وأسقط!!
نحن سنواجه هذه المحاكم ونكسر هيبتها، فاذا المواطنين البسيطين زى الواثق صباح الخير لاقوا من المحاكم دي ما لاقو فأصحاب القضية أولى!!).. انتهى..

واستمرت المواجهة، ففي يوم ٢٥ ديسمبر ١٩٨٤م أخرج الجمهوريون منشور "هذا.. أو الطوفان"، وطالبوا فيه بإلغاء قونين سبتمبر ٨٣ لمخالفتها الشريعة وتشويهها الإسلام، وإيقاف الحرب والعمل على حل مشكلة الجنوب سياسيا، ثم إقامة المنابر الحرة بأجهزة الإعلام المختلفة لإيجاد المذهبية الرشيدة.. فردّت السلطة من جديد باعتقالات واسعة بحراسات الشرطة، لكل من يحمل المنشور، وكذلك الكتب.. ثم تداعى الأمر لاعتقال الأستاذ محمود الأخير بتاريخ ٥ يناير ١٩٨٥م، تحت تهمة إثارة الكراهية ضد الدولة..
وفي رد على سؤال المتحري حول هل المنشور معارضة للشريعة قال الأستاذ:
(أولا: أنا المسئول الأول والأخير عن كل ما يدور حول حركة الجمهوريين داخل السودان وخارجه..
ثانيا: إذا في إنسان قال قوانين سبتمبر مخالفة للشريعة، لا يتهم بأنه ضد الشريعة وإنما يفهم أنه ضد قوانين معينة، بل هو يدافع عن الشريعة.. ويمكن أن يسأل عن برهانه على تلك المخالفة..
ولكننا نقول إن الشريعة الإسلامية على تمامها، وكمالها، حين طبقها المعصوم في القرن السابع لا تملك حلا لمشاكل القرن العشرين، فالحل في السنة وليس الشريعة..) انتهى..
ثم قال كلمته المعروفة أمام محكمة الموضوع..
ولكي تجد جريمة القتل التبرير الديني، لاستدرار تأييد الشعب لتستمر السلطة، حاولوا الزج بتهمة الردة، لكن فشلت محكمة المهلاوي في حبك هذه المكيدة، فسارعوا إلى إدخالها في محكمة المكاشفي من غير أن توجه التهمة إلى المتهم، لا في محكمة الموضوع ولا في محكمة الاستئناف، فصارت المحاكمة كلها مخالفات لأبسط قواعد العدالة..

ولتوضيح هذه النقطة، قال السيد خلف الله الرشيد رئيس القضاء الأسبق، لصحيفة "الأهرام اليوم" بتاريخ ١٨/١٢/٢٠١٠م: "نعم محمود أعدم بسبب خصومة سياسية وحتى اليوم لم توجه إليه تهمة!!"

إن تاريخنا في الحكم الوطني بكل أسف، مخجل فقد شهد استغلال الدين للسلطة وشهد قتل المفكرين والتنكيل بالمعارضين السياسيين، كما شهد استباحة أموال الدولة في عهد الإنقاذ بصورة لم تحدث قبلا في السودان، لا في فترات الديمقراطية ولا في عهود الإنقلابات العسكرية، وكل ذلك السبب الأساسي فيه التضليل باسم الدين، واستغلاله للدنيا بأيّ سبيل..