إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

في ذكرى وقفة الأستاذ محمود (٣٦) - الحلقة الرابعة
من وصايا الأستاذ محمود إلى تلاميذه

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


١٥ يناير ٢٠٢١

في ميدان الإسلام اليوم، الدعوة الإسلامية الجديدة التي قدمها الأستاذ محمود تحت اسم الرسالة الثانية من الإسلام، وهي الدعوة الحقيقية التي ينتظر على هداها أن يبعث الإسلام من جديد، لينفخ الروح في البشرية المعاصرة.. يقابلها من جانب عامة المسلمين الهوس الديني الذي يجمع السلفيين عموما.. فكأن الجمهوريون صاروا وحدهم في كفة الميزان وعامة المسلمين في الكفة الأخرى.. ولقد ظل الأستاذ محمود يدعو عبر المنابر الحرة، ويشرح بالكتب والمنشورات منذ عام ١٩٥١م، لتتضح للناس معالم فكرته.. ولكن الهوس الديني كان على الدوام، يواجه الحوار بالتكفير والاتهام بالردة، وهو يظن أنه سيقضي على هذه الدعوة نهائيا، بالمحاكم والتحريض على القتل العمد، ولكن هيهات..
وقد أشرنا إلى محاولات فقهاء السلطان في مهزلة محكمة الردة ٦٨، وكيف ردّ الأستاذ محمود عليها بالمنشور رقم (١)..فهي محكمة شرعية في الأحوال الشخصية، خرجت من اختصاصها لتحكم في ردة مواطن، في مخالفة صريحة لقانون تأسيسها ١٩٠٢م، الذي وضعها تحت إشراف القانون المدني.. ولأنها غير مختصة، عجزت عن إحضار الأستاذ محمود للمثول أمامها.. فعندما أرسلت ضابط الشرطة، ليحضر الأستاذ، لم يكن ذلك مسنودا بالقانون، وإنما خطأ وقعت فيه قيادة الشرطة المتواطئة.. ولكن الأستاذ محمود وضح للضابط رفضه للمثول قانونيا، وسأله: (إنت بتنضر بي شنو بموقفي هذا).. أجاب الضابط: (ما بنضر بأي حاجة).. فتناول الإكرام وانصرف مشكورا.. فانعقدت المحكمة لمدة ثلث ساعة، وحكمت غيابيا بردة محمود محمد طه.. وقال الأستاذ محمود، بعدها، إن هؤلاء الفقهاء كانوا ينتظرون من الشعب أن يتولى تنفيذ الحكم!! ولكن جعل الله كيدهم في نحرهم، وحدث العكس، فقد دفعت تلك المحكمة العديد من الشباب لالتزام الفكرة الجمهورية، وهم الذين ملأوا الميادين بأركان النقاش فيما بعد، خلال فترة مايو..
أما محاكمات مايو، فلم تقدم فيها تهمة الردة إلى الأستاذ محمود قط، لا في محكمة الموضوع ولا في محكمة الاستئناف.. وكان الحكم بالإعدام قائما علي قانون أمن الدولة والمادة ١٠٥ في القانون الجنائي (إثارة الكراهية ضد الحكومة)، وخرجت الردة من المعادلة.. لكن لما كانت الردة عند نميري أهم من الإعدام نفسه، كما أسلفنا في الحلقة السابقة، وذلك لدورها في التضليل الديني، وتمرير الجريمة، في عقول محبي الدين من عامة الناس، فقد زجّت محكمة الاستئناف بالردة بعد فوات الأوان، وبطريقة كلها مخالفات للقانون..

إذن يمكننا أن نقول أن الأستاذ محمود عبر تاريخه، لم يتهم بالردة في أي محكمة، ولم يحكم عليه في المحكمة الأخيرة على تهمة الردة، وكل من تفوت عليه هذه الحقيقة، يحتاج إلى مراجعة الوثائق في هذه الحلقات.. فهناك من المثقفين من يكتب بغير وعي منه (محمود أعدم بتهمة الردة) أو (ذكرى الحكم بردة محمود رقم خمسين)، وهو يظن أنه بهذا الاسلوب سيستدر عطف عامة الناس، للدفاع عن الأستاذ محمود.. لكن هذه التقريرات التي تفتقر للدقة، إنما تدعم الهوس الديني في زعمه الباطل بأن أفكار الأستاذ محمود قد حكم عليها بالردة، في محاولة بائسة منه أي،الهوس، لإبعاد الشباب عنها.. فالأستاذ محمود هو القائل: (إن السودانيين قوم يؤذيهم، أن يطمع طامع، فيما يحمون، كما يؤذيهم أن يبالغ في العطف عليهم العاطفون)..
وفي قضية المناهج الأخيرة، اتجه المهووسون لاستدراج الحكام في القصر، وفي مجلس الوزراء، لإقصاء الجمهوريين وهو نفس الأسلوب القديم.. فكيف نسي، هؤلاء القوم، بهذه السرعة أن ثورة ديسمبر قد أسقطت الهوس الديني وأقصته من السلطة تماما!!؟؟
أتركك الآن عزيزي القارئ مع إرشادات الأستاذ محمود لتلاميذه قبل أيام من المحاكمة الأخيرة، بلغة الكلام:

دعوة الجمهوريين


(الحاجة اللي الإنسان قوي الثقة بي الله فيها، أنّو الجمهوريين ما يلقوا إلا ما يقوّيهم، ويزيدهم، ويجهزم لأمرهم، بالمرة.. زيما حصل، الاعتقال، الناس مشوا لِيهُو مسرورين وفرحانين، وعاشوهو مسرورين وفرحانين، وخرجوا منه مسرورين وفرحانين.. لكن، من المؤكد أنُّو، نحن مقبلين على حركة عايزة تشمير أكتر.. بنقصّرها بقدر ما نشمّر.. نحن خرجنا في وكت، برضو، الشعب واقع عليه شيء كتير جدًا من الاضطهاد، ومن الظلم، ومن «الجوع»، من الجوع بصورة محزنة!!
بعدين، السلْطة في أضعف أوقاتها، حاجة مربوكة – السلْطة مربوكة، ما عارفة تعمل شنو.. الهوس الديني، لضعف السلْطة، افتكر أنُّو هو قريب من السلْطة.. والهوس الديني، من المؤكد، أنه بيستهدف الجمهوريين – ما عنده أعداء غير الجمهوريين، حتى ولا السلْطة!!
ولذلك، أنا بفتكر أنُّو الأيام المقبلة راح تكون أيام عراك.. لكن، العراك ما بيضركم بأيّ حاجة.. راح يقوّيكم، ويزيد قاماتكم..
بس لأنُّو المشوار طويل.. المشوار مش بحساب الزمن، بحساب القامة الروحية.. القامة الروحية المطلوبة كبيرة جدًا.. إذا كان نحن أيقنا بأنُّو الفكرة الجمهورية هي الدين؛ وأنُّو الدين عائد بغرابة، وغرابة شديدة.. وأنو عائد ليكون في قامة هي قامة كوكبية، زي ما المجتمع البشري مجتمع كوكبي، وكلو محتاج للدين.. لا بد أنُّو الناس البيرفعوا المشاعل دي يكونوا قامات عالية جدًا..
كل العوامل بتتضافر لترفع القامات دي.. لكن، بقدر ما نجوّد – بقدر ما نغيّر أنفسنا – نحن بنقصّر المشوار دا.. واحد من مشايخة الأحمدية – الشيخ البشير، في الحقنة – أدّى واحد من تلاميذه إسم عشان يكرره في سبحته.. قال لِهُ: أعملو كم، يا مولانا؟؟ قال لِيهُو: إن كنت من أهل التوحيد، أعملو مرة واحدة!! الناس بيعملوا عدد السبعين عشان يكون في واحد صاح..
هسع الجمهوريين أمامهم المشوار دا، إما الحكاية تبقى سبعين ألف، أو بتبقى واحدة، حسب التجويد.. وإذا كان كل واحد عرف مسئوليتو؛ وعرف خطورة القامة المطلوبة منو، والمقام المطلوب أن يملأهو؛ وعكف على نفسه، أفتكر المشوار قصيّر.. لكن، لا بد من أنه يكون في تغيير جوّه..
المعركة الجمهورية هي كلها معركة روحية.. انتوا بتنتصروا انتصار روحي.. زيما بنقول أنُّو، «معركة الجمهوريين في سجادة التلت».. دي كان بتقال دائمًا.. بطبيعة الحال، الناس كلما يمشوا لقدام، زي البيجمعوا قوة، وسرعتهم بتبقى أكتر، لأنُّو في أنوار استجمعت.. بيجيئكم وقت أنُّو، الأنوار الاستجمعت دي فجأة تشتعل.. زي حكاية «ثم أنشأناه خلقًا آخر».. بعد الستة أطوار «ثم أنشأناه خلقًا آخر».. فإنتوا، هسع، الناس الخرجوا من المعتقل، والناس المعتقلين في البيوت، وفي المكاتب، وفي كل جهة.. كل جمهوري هو، في الحقيقة، في المعتقل – كل جمهوري «غريب» على المجتمع دا.. والغربة، بطبيعة الحال، بتخلي الإنسان ينظر لداخلو أكتر مما ينظر لخارجو، هو.. بيشعر بأنُّو هو مقصود بالعداوة، وأنُّو ما عنده لمواجهة العداوة غير الالتصاق بالله..
المسألة، البتحوجكم لي الله، هي مسألة لخيركم.. ما في أي كلام.. وأنا أفتكر أنُّو في الأيام المقبلة راح تشعروا بالحاجة لي الله أكتر مما شعرتوا بِها في أي وقت.. وأنا مستبشر للمسألة دي، تمامًا!!
نحن في منعطف جديد.. أفتكر أنُّو الناس ياخدوه بالجد اللازم، والعمل اللازم.. ما بتلقوا أنُّو العمل دا نار، بتلقوه نور، نور أخضر بارد، ولذيذ، وممتع!!فالناس أحسن يعكفوا، فعلًا، بالصدق، في مواجهة أمرهم.. وخيركم قريب، أصلُ ما في أدنى شك.. وما يجري لِكم إلا ما يزيدكم قوة، وقرب، والتصاق بالله..
(من جلسة للجمهوريين أمسية 19 ديسمبر 1984، بمدينة أمدرمان)