إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

في ذكرى وقفة الأستاذ محمود (٣٦) - الحلقة الأخيرة

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


١٧ يناير ٢٠٢١

بسم الله الرحمن الرحيم
(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)
صدق الله العطيم


فلنذكّر أنفسنا برجولة الرجال وعزة الأحرار وصمود أصحاب الأفكار

في يوم الجمعة الثامن عشر من يناير ١٩٨٥م، بدا الأستاذ محمد مبتسما فوق المقصلة، وقدم روحه فداء للشعب السوداني من فتنة الهوس الديني التي أشعلتها مايو، فسقطت مايو بعيد ذلك.. وقد نهض الشعب السوداني، في ثورة ديسمبر، ٢٠١٨م، ضد سلطة الهوس الديني في الإنقاذ، مسترشدا بأقوال الأستاذ محمود وتنبؤاته لمستقبل البلاد المشرق، وقدم الشهيد تلو الشهيد حتى أسقطها.. ولكن لا بد من أن نقتلع الهوس الديني من جذوره في النفوس، بإبراز البديل من الإسلام، فإزالة الهوس الديني من السلطة وحدها لا تكفي، فالدين لا يمكن تجاوزه في أي تغيير في السودان، ولذلك فإن من يتبنون فكرة فصل الدين عن الدولة، ويظنون أنها الحل الجذري للتخلص من الهوس، إنما يرقصون خارج الحلبة، وبصنيعهم هذا، سيكتبون عمرا جديدا للهوس الديني ما كان سيحلم به في حالة تبني البديل من الدين..
لقد وظف الأستاذ محمود حياته لإبراز فكرة البديل من الدين، بما عرف بالرسالة الثانية من الإسلام، وهي بعث السنة النبوية، لتقوم مكان الشريعة السلفية، لتربية الفرد ولتنظيم المجتمع.. والسنة هي عمل النبي في خاصة نفسه، وهي أصول الدين، التي استمر النبي يدعو لها مدى ثلاثة عشر عاما في مكة، وعمدتها الآيات المكية، وهي أصول القرآن.. وقد أسست تلك الآيات الحقوق الأساسية، وهي حق الحياة وحق الحرية، وطبقها النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، في ممارسته للدعوة، فلم يكره أحدا، بل لم يرد على العنف.. وعندما بادر المشركون برفع السلاح في حادثة يوم الهجرة المعروفة، تبيّن عمليا أن مستوى مجتمع القرن السابع غير مؤهل لتلك الحقوق الدستورية، فنسخت من ثم الآيات المكية التي أسستها، ونزلت بدلا عنها الآيات المدنية، وهي فروع القرآن، تنزلت من الأصول بمقتضى حكم الوقت، وللضرورة، فأذن للنبي الكريم بالجهاد، وقامت الشريعة السلفية المعروفة.. فالسنة هي المستوى العلمي من الإسلام، أما الشريعة فتمثل المستوى العقائدي..
نحن اليوم، في مرحلة ارتفعت بها البشرية، بالتطور خلال الصراع الاجتماعي بين البشر بالعقل، وصارت الحقوق الأساسية مطلب كل الشعوب، ولذلك فقد وجب على المسلمين بعث السنة بإحياء الآيات المكية (الأصول) التي ما نسخت إلا لقصور المجتمع حينها، فهي مراد الدين بالأصالة، ثم نسخ الآيات المدنية (الفروع).. والبشارة النبوية واضحة في أن بعث الدين، إنما يكون ببعث السنة لا الشريعة: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ.. فطوبى للغرباء!! قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها)..
هذا باختصار شديد، الأساس الذي تقوم عليه، فكرة الرسالة الثانية من الإسلام، وللاستزادة والتوثيق أرجو قراءة مؤلفات الأستاذ محمود في الموقع alfikra.org..

في ختام هذه المقالات، أهديكم كلمات الأستاذ محمود حول معاني الفداء في الدين، فقد تحدث لتلاميذه بعد إطلاق سراحه، وفي اجتماع عام، عن أن البلاد تمر بفتنة دينية شرها مستطير، وأشار إلى أن هذه الفتنة لا يمكن أن تزول إلا إذا تصدى لها عارف بالله بنفسه، وقُتل، وفدى الناس.. ثم قدم نماذج لعارفين من السادة المتصوف، فدوا الناس من مصائب الأوبئة الفتاكة، وقال إن منهجية الفداء عتيدة في الدين، لكن العلمانيين تصعب عليهم.. وفيما يلي نص هذه الكلمة المعروفة في أوساط الجمهوريين "بحديث الفداء":

حديث الفداء:


(الزمن اضطرنا لنوقف الحديث.. الكلام القيل طيب جدا .. أفتكر مؤتمرنا دا لابد أن يؤرخ تحول عملي فى موقف الجمهوريين.. زي ماقلنا قبل كدا: الناس سمعوا مننا كثير، الكلمة المقروءة، والمكتوبة.. نحن عشنا زمن كثير فى مجالات عاطفية: الإنشاد، والقرآن، والألحان الطيبة.. وجاء الوقت لتجسيد معارفنا، وأن نضع أنفسنا فى المحك ونسمو فى مدارج العبودية سمو جديد..
الصوفية سلفنا ونحن خلفهم.. كانوا بيفدوا الناس، الوباء يقع يأخذ الشيخ الكبير، الصوفى الكبير وينتهى الوباء.. دى صورة غيركم ما يعقلها كثير..
الجدرى فى قرية التبيب تذكروها؟ كان فى كرنتينه فى القرية لا خروج ولا دخول.. الشيخ الرفيع ود الشيخ البشير أخو الشيخ السمانى مات بالجدرى فى القرية ..
شيخ مصطفى خال خديجه بت الشريف، هو صديقنا وبزورنا كثير قال: حصلت وفاة ومشيت أعزى.. مر على الشيخ الرفيع ، (أخو الشيخ السماني ، شيخ المقاديم الهسع بيعطروا ليكم حلقات الذكر ديل) .. قال لى بمشى معاك.. قال: مشينا سوا إيدو فى إيدى كان فيها سخانة شديدة.. وصلنا محل الفاتحة واحد قال ليهو يا الشيخ!! المرض دا ما كمَّل الناس!!؟؟ 
الشيخ الرفيع قال ليهو: المرض بينتهى، لكن بشيل ليهو زولاً طيب!!
قمنا من المجلس وصلنا البيت والسخانة كانت الجدرى، ومات الشيخ الرفيع ووقف الجدرى!!
السيد الحسن أيضا مات بوباء وانتهى الوباء..
وفى سنة 1915م الشيخ طه مات فى رفاعة بالسحائى، وكان مستطير بصورة كبيرة وما عندو علاج وما كان بينجو منو زول، الما يموت يتركو بى عاهة.. مات الشيخ طه بالسحائي والمرض انتهى..
الحكاية دى عند الصوفية مطَّردة ومتواترة، العلمانيين تصعب عليهم ..
انتو هسع لابد تفدوا الشعب السودانى من الذل، والمهانة الواقعة عليهو والجلد.. واحد من الأخوان لاحظ قال: القيمة من المسيرة أن تشاهدوا الجلد الواقع.. واحدة من الأخوات قالت : العسكرى شاب والمجلود شيخ كبير والقاضى واقف يستمتع!! وهى مسالة أحقاد، وضغائن، ونفوس ملتوية تتولى أمور الناس!!
قد تجلدوا..
ما تنتظروا تسيروا فى المسيرة وتحصل معجزة تنجيكم.. هى بتحصل لكن ما تنتظروها.. خلوا الله يجربكم ما تجربوا الله.. تعملوا الواجب العليكم، تنجلدوا ترضوا بالمهانة.. ومن هنا المحك البيهو بتكونوا قادة للشعب العملاق.. ويكون فى ذهنكم قول الله تعالى : (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين) وآية ثانية: ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه: متى نصر الله؟ ألا أن نصر الله قريب.)..
ما أحب أن تصابوا بخيبة أمل من العقبات البتلاقيكم فى الطريق.. ويكون مؤكد الأمر النحن بنواجهو محتاجين ليهو فى الداخل.. كل أمر يساق ليكم يقويكم وهو عناية من الله ولطف.. 
لكن الناس يسوقوا أمرهم بالجد، وكل واحد يدخل فى مصالحة ورضا بالله.. تواجهوا أمركم لتفدوا شعبكم وبعضكم بعض لترتقوا درجات فى واجبكم وعبادتكم.. أمركم قريب ومعنيين بيهو.. انتم محفوظين.. لكن ماتفتكروا الطريق مفروش أمامكم بالورود!! استعدوا فى قيامكم بالواجب المباشر تكونوا دائمى النعمة وموضع نظر الله وعنايتو.. ثقوا بيهو.. إن شاء الله أمركم قريب والله ادخركم للأمر دا.. وانتم اليوم الغرباء بصورة كبيرة..
كل المجتمع السودانى فى كفة والجمهوريين فى كفة، الجمهوريين مطلوبين ، الناس الطالبنكم فداية ليكم، وظلماتكم نور.. أنتم موضع عناية، تقبلوا العناية، وسيروا راضيين بالله، بالصورة دى يكون ختام مؤتمرنا).. انتهى.. 


والمؤتمر المذكور كان مؤتمر عيد الاستقلال، في يناير 1985م، أي قبل تنفيذ حكم الإعدام بأسبوعين!!