إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

مصطلح العقل الباطن بين سيجموند فرويد والأستاذ محمود محمد طه!

د. جعفر احمد محمد الماحي



أحد أهم المصطلحات في علم النفس الحديث التي رشحت اوائل القرن العشرين هو مصطلح العقل الباطن. تكمن أهمية المصطلح في أثره على سلوك الفرد، ودوره المفترض في تشكيل الشخصية الإنسانية. غرضي من هذا المقال، إجراء مقارنة لمفهوم العقل الباطن عند سيجموند فرويد- أول من روج للمفهوم بين علماء النفس- والاستاذ محمود محمد طه. تجئ المقارنة من الرمزية التي يمثلها فرويد في الفكر الغربي الذي تناول الموضوع، بينما تشكل رؤى الأستاذ محمود، الشرق الاسلامي. فالاستاذ محمود، عندي، هو المفكر الاسلامي الوحيد، الذي قال بوجود عقل باطن في الإنسان.

يستعرض المقال أوجه الشبه والأختلاف بينهما في طرحهما للمصطلح. ويتتبع نشأة العقل الباطن كما يراها الرجلان، والعوامل التي ساهمت في تكوينه، والمدى الزمني الذي استغرقه ليتكون، وأثره على الشخصية الانسانية. وأختم المقال بمناقشة لرؤيتهما لمستقبل الانسان في ظل وجود العقل الباطن.

العقل الباطن عند فرويد



سيجموند فرويد، أحد أشهر علماء النفس في القرن العشرين، نمساوي الجنسية، ينحدر من أصول يهودية. له إسهام فكري مرموق، وباقٍ، تجاوز حدود علم النفس الحديث، فامتد الى الفنون، والأدب، وتربية الأطفال. وفوق هذا وذاك فهو الأب الروحي، والمؤسس لمدرسة التحليل النفسي الشهيرة psychoanalysis. وهي طريقة علاج للأمراض العقلية والنفسية، ونظرية لتفسير السلوك الإنساني في نفس الوقت.

يحسب لفرويد أنه كان أول من طور مفهوم العقل الباطن أو اللاشعور (the subconscious)، ليصف به مخزون الفرد repository من الرغبات، والنزوات، والمخاوف، ونوازع العدوان وما إلى ذلك مما يخشى معه أن يطلع عليه الناس. وبسبب من ذلك، وقع عليها الكبت، وحبست في قرار مكين، مظلم، لا ينفذ إليه هواء، أو ضوء، مقفول عليها بالضبة والمفتاح. ومع هذا فقد ظلت مكنونات هذا القمقم حية ً تركل، لا تذهب ولا تموت، تنتظر وتتحين الفرص لتعبر عن نفسها. فتطل برأسها بين الفينة والاخرى، لتظهر في الرؤى المنامية للفرد، وزلات لسانه، وأحلام اليقظة عنده. وهي على حالها هذه، ذات تأثير كبير وهام على سلوك وحياة الفرد.

مفهوم العقل الباطن عند فرويد يعني لدى التحليل الأخير، أن الشخصية الانسانية ليست صماء، وإنما هي مجموع أضداد متنافرة، في حرب ضروس مستمرة ومستعرة بين أطرافها المختلفة، لا تهدأ ولاتنتهي. وتكون بالتالي معظم أسباب ودوافع السلوك الأنساني مجهولة وغير معروفة حتى لصاحب السلوك نفسه. واصبحت شخصية الفرد طلسم من الطلاسم. فهي في ذلك أشبه بجبل جليد an iceberg، لا يرى الآخرون منها سوى رأس الجبل the tip of the iceberg. يؤثر هذا الصراع الذي يجري داخل عقل الإنسان، في نهاية الامر، على صحته العقلية والنفسية.

ينقسم العقل في الانسان عند فرويد إلى ثلاثة مكونات. تحديداً: الهو ( ID)، الأنا العليا (superego)، والأنا (ego).

الهو (ID) أو النفس السفلي، أو النفس الحيوان، تعمل في مستوى اللاوعي؛ هي مستودع الغرائز البدائية، من رغبات ونزوات جنسية، وعدوان، وطمع، وشره وما إلى ذلك من الموبقات. هذا المكون اناني بطبعه، غير منطقي، غير واعي، وغير منقسم في أمره هذا. قانونه البحث عن اللذة الآنية، غير المؤجلة، والهروب من الألم (pleasure principle). يرى فرويد أن ID يشكل أهم جزء في الشخصية الانسانية واقواها وأكثرها تأثيراً . فهي المحرك الرئيس لمعظم صور السلوك الإنساني the motor.

المكون الثاني هو ال superego الأنا العليا.وهو بمثابة العقل الاجتماعي فينا أو الضمير. ويرمز لمجموعة القيم، والمعتقدات، والتقاليد والعادات الاجتماعية التي اكتسبها واستبطنها الفرد باكراً في طفولته. وذلك خلال تنشئته الاجتماعية في الاسرة والمؤسسات الإجتماعية المختلفة كالروضة، والمدرسة، وغيرها. يشكل هذا الجزء الجانب الاخلاقي عند الفرد ويعمل ككابح على رغبات ونزوات ال ID. فهو في صراع مستمر معها، يحاول ضبطها بما يملي به العرف الاجتماعي.

المكون الثالث والاخير يرمز له بالأنا ( the ego) الذي يتطور من الهو ID أثناء الطفولة. هو واسطة الخير بين رغائب النفس السفلى ومطالب العقل الاجتماعي superego المتشاكسين بطبيعتهما. يحاول ال ego ان يجد حلاً وسطا يرضي الطرفين. مبدأه في ذلك مبدأ الواقعية reality principle. يدرك معها أن للنفس السفلي حاجات يجب أن تشبع، شريطة أن يتم ذلك بصورة مقبولة اجتماعياً. ال ego واقعي، عقلاني ومنطقي. ونجاحه في دوره المرسوم له يحفظ للشخصية الانسانية توازنها وصحتها النفسية.

وكخلاصة لما ذهب اليه فرويد، يمكن أن نقول الآتي:

١. المكونات الثلاث التي خرج بها فرويد لا تشير إلى أجزاء منفصلة في المخ وإنما هي مصطلحات تعبر عن وظائف بعينها للعقل. هذه المكونات في تفاعل مستمر interacting وحوار لا يتوقف ongoing مع بعضها البعض.
٢. إن الصراع بين مكونات الشخصية الثلاث التي اقترحها فرويد هو قدرها المقدور. وتحدد مآلات هذا الصراع نمط الشخصية، وأعتلالها أو صحتها النفسية.
٣. الشخصية الانسانية هي نتاج أزمات تمر بها عبر مراحل حياتها المختلفة. اهم هذه المراحل هي مرحلة الطفولة. على وجه التحديد الخمس سنوات الاولى من عمر الفرد.
٤. ويعني هذا، أن الشخصية الانسانية تتشكل باكراً في حياة الفرد، ويصعب بعد ذلك أن تتغير.
٥. الشخصية الانسانية السوية هي التي يسيطر فيها المكون الثالث، الأنا (the ego)، على بقية مكونتها. فالشطط في اتجاة أي من ال ID أو ال superego، هو حالة مرضية عند فرويد. فالشخصية التي يسيطر عليها الSuperego (الأنا العليا) هي شخصية كبلتها عقدة الدونية، واقعدها الذنب، وتلك التي لمكون الهوا (ID) فيها الكلمة العليا هي شخصية أشبه بالسائمة المسترسلة في ملذاتها ..

العقل الباطن عند الاستاذ محمود



يتفق الاستاذ محمود مع فرويد في وجود ما اصطلح عليه بالعقل الباطن عند الانسان، وفي اهميته ومدى تأثيره على شخصية وسلوك الفرد. غير أن ثمة فروقات جوهرية تظل تفصل بين الطرحين. يشمل ذلك، الكيفية التي تكون بها هذا العقل، والعوامل التي تسببت في تطوره وتكوينه، ومدى تأثيره على حياة الفرد، ومآلاته مستقبلاً.

قدم الاستاذ محمود تصوراً وافياً لتطور العقل الباطن في الانسان في مجموعة من مؤلفاته. اكثرها تفصيلاً ما جاء في مقدمة كتابيه "رسالة الصلاة" و "تعلموا كيف تصلون". اورد هنا ملخصاً لأهم ما ذهب اليه الاستاذ محمود من نقاط في الموضوع.

يقول الاستاذ محمود ان الانسان منقسم بين عقل باطن وآخر واعي، بحكم النشأة. فهو انقسام قديم قدم الحياة ذاتها. ولنفهم عنه ما يقول، استعرض لنا الاستاذ محمود تاريخ تطور الانسان. وهو تاريخ بدايته في الازل عندما تأذن الله، سبحانه وتعالى، أن يجعل على الوجود خليفة، يكون له كالمرآة، فيه يرى نفسه، وفيه تتجلى كمالات أسمائه، وصفاته؛ خلق الانسان الخليفة -آدم الكامل-في الجنة/ في الملكوت، وهو مقام "احسن تقويم" الوارد ذكره في القرآن. ولما ادركت آدم الخطيئة بإغواء الشيطان له طرد من الجنة وأبعد. وابعاده هذا تم بأن رد في سلم التطور الى أسفل سافلين .. الى ذرة من غاز الهايدروجين. وهو في مقامه هذا كان يمثل نقطة بدء الخليقة والتجسيد الاول الذي جاءت منه مادة الكون. وقبيل الابعاد، كان آدم قد ادرك خطأه وطلب المغفرة. فاستنقذه الله بالتوبه عليه، وهداه الى طريق الرجعى ليسترد الخلافة التي فقدها بالمعصية. بدأت أوبة آدم حين انفتقت ذرة غاز الهادروجين تلك لينتج عنها ما يعرف في علم الفلك بالانفجار الكبير the big bang والذي كان بمثابة الاذن من عند الله بافتتاح دورة الوجود الحالي، وبداية رحلة العودة الملحمية لآدم من اسفل سافلين الى وطنه القديم في احسن تقويم. قطع آدم في رحلته من اغترابه، مراحل عدة. كان في اولها مادة غير عضوية (ميتة)، وفي ثانيها مادة عضوية (حية)، بدايتها في حيوان الخلية الواحدة ونهايتها عند أعلى الثديات. اطلق الاستاذ محمود على هاتين المرحلتين، مرحلة التطور الجسدي الصرف. وأخيراً انساناً بظهور العقل في المسرح .

فانقسام الانسان عند الاستاذ محمود كانت بدايته في ظهور المادة العضوية من المادة غير العضوية، ذلك الظهور الذي يؤرخ بدء الحياة في صورها البسيطة. وهو ظهور يمثل انقسام المادة بين لطيف وكثيف. ثم أخذ الكثيف يلطف، واللطيف يزداد لطافة، حتى بلغا، في مرحلة الانسانية، ان اللطيف يمثل العقل، والكثيف يمثل الجسد. بهذا التصور اصبح الانسان، عند الاستاذ محمود، جامعاً للنشأتين: السفلية ( الشياطين) والنشأة العلوية الملائكة، فركب فيه الشهوة، وركب فيه العقل وأمره ان يسوس شهوته بعقله ..فهو في صراع لا يهدأ، بين دواع الشر، ودواعي الخير، وبين موجبات الشر، و الخطأ، وموجبات الصواب.
بتعبير آخر، صار الانسان عند الاستاذ محمود برزخاً بين الملائكة من أعلى، والابالسة من أسفل.. بين عقل وشهوة..
فقد مر على الانسان، وقت طويل، كان أثناءه يتقلب في مراحل الحيوانية السفلى.. وقانونها اتباع اللذة، حيث وجدت، والفرار من الالم، حيث أمكن..الى أن ظهر فيه العقل وقانونه الحرام والحلال، وقانون الامر والنهي.. وهو، في جملته، يعني بالمأمورات، واجتناب المنهيات.. وبدخول هذا القانون - قانون التكليف- إنقسم الانسان بين عقل كابت ورغائب نفس مكبوته.

ثم بالتجافي عن اللذة الحرام العاجلة، استجابة لما أوجب الشارع، وابتغاء اللذة الحلال الآجلة، قوي عقل الانسان، وقويت ارادته.. قوي عقله لحاجته الى التمييز بين ما ينبغي ومالا ينبغي.. وقويت إرادته لحاجته الى السيطرة على دواعي نفسه الى الاندفاع نحو اللذة الحاضرة، كما هو العهد بالحيوان.. ثم تعقد هذا الانقسام، وتشعب، وترسبت طبقاته، طبقة فوق طبقة، بظهور المجتمع الانساني، وأعرافه، وعاداته، وتقاليده..ثم إزداد تعقيداً، بظهور الأديان، في صورها المعقدة..وبتوكيد فكرة الغيب فيها، وبالدعوة الى الايمان..

ختاماً، تشكل النقاط التالية ملخصاً سريعاً لأبرز ما جاء به الاستاذ محمود في موضوع العقل الباطن عند الانسان:

١. إن الكبت وانقسام الشخصية في الانسان، هي لازمة من لوازم تطوره من حيوان الى إنسان وذلك حينما برز فيه العقل. وبظهور العقل بدأ الانسان يسيطر على شهواته، ونزواته وبداوته.. ومن هذه السيطرة جاء الكبت ، وانقسم بالتالي الانسان الى عقلين؛ عقل باطن ، وآخر واعي.

٢. لعب الكبت دوراً هاماً في حفز الانسان نحو انسانيته، واسترجاع ملكه المفقود. فحوجة الانسان للكبت كانت في المرحلة. فالكبت من ثم ليس شراً، وإنما يجئ الشر، في رأي الاستاذ محمود، من افامتنا عليه، وقعودنا عن السعي للتخلص منه.

٣. انقسام الفرد البشري الى عقل وجسد كان بسبب الخوف الذي ترسب في اعماقه. فالعقل هو الابن الشرعي للخوف.. والخوف هو وسيلة النفخ الالهي في الوجود الحادث، الذي حشد الحياة في المراقي، حتى استخلص منها العقل. فالعقل لم يأت من خارج المادة، وإنما كان كامنا فيها كمون النار في الحجر، فمخضته الحوادث، شأنه في ذلك شأن بقية الحواس المعروفة.. فالتخلص من الكبت والانقسام عند الاستاذ محمود، لا يتم الا بالتخلص من الخوف.. ولا يكون التخلص من الخوف الا بالعلم= الا بمعرفة الاشياء المستورة عنا باستار الغيب- فانا لو إطلعنا على الغيب، لهزمنا الخوف. ومن أجل مساعدة الانسان ليتحرر من الخوف دعا الاستاذ محمود الى تنظيم المجتمع الانساني على أساس من الاشتراكية، والديمقراطية، والمساواة الاجتماعية. ففي النظام الاقتصادي الاشتراكي يأمن الانسان على رزقه، وما يضمن له العيش الكريم. وتوفر له الديمقراطية حرية اختيار من يمثله لادارة شئونه العامة وحرية رأيه. كما تضمن له المساواة الاجتماعية عدم التمييز ضده على أساس من العرق او اللون او النوع او العقيدة. ثم اقترح الاستاذ محمود الطريق النبوي كمنهاج حياة يعين الفرد على تصحيح علاقته بالكون، وبالاحياء والاشياء. ساعتها، ينتفي الخوف؛ آفة السلوك الانساني، والاب الشرعي للكبت والانقسام.

أوجه الشبه والاختلاف بين فرويد والاستاذ محمود في رؤيتهما للعقل الباطن في الانسان

تناقش هذه الجزئية من المقال اهم ما يجمع ويفرق بين الاستاذ محمود وفرويد في تصورهما للعقل الباطن.

لقد ظلت فكرة العقل الباطن طوال تاريخها، فكرة غريبة، مثيرة للجدل، وعصية على الفهم. ولعل هذا ما يفسر لنا المعارضة الشديدة التي ووجهت بها الفكرة، من مفكري الغرب ، ورجال الكنيسة، بل وحتى من رجل الشارع العادي. ولا يزال الكثير من الناس، الى يومنا هذا، ينكرون علي فرويد ما ذهب اليه من آراء وأفكار. ومما زاد من شدة الرفض لاسهامات فرويد، وقتها، شخصيته. فقد كان فرويد رجلاً شديد الاعتداد بنفسه، الى حد الغرور، معجباً بارائه، ومستفزاً للآخرين. فكثر أعداؤه وسط رصفائه من العلماء. كان هذا من اهم الاسباب التي حجبت عنه جائزة نوبل، رغم أنه كان قد رشح لها ثلاثة عشر مرة. لكنه لم يفز ولو لمرة واحدة بها. حيث رأت لجنة التحكيم في حيثيات رفضها، ان اعمال فرويد قد بنيت على افتراضات لا تسندها حقائق علمية رصينة. ومن عجب الامر ان يكون احد المعترضين على ترشيح فرويد لنيل الجائزة، صديقه، وأحد اهم معاصريه، العالم الكبير ألبرت أنشتاين، الذي كتب ناصحاً اللجنة بان لا تمنحه الجائزة. عليه، يجب ان يحمد للاستاذ محمود محمد طه، بأنه كان المفكر الاسلامي الوحيد، الذي حفظ الفضل لفرويد فيما أتى به، وأمن معه على وجود العقل الباطن في الانسان، وعلى أهميته في حياته، وإن اختلف معه في الكيفية التي نشأ بها، والعوامل التي ساهمت في وجوده وتكوينه. إذ يرى فرويد ان العقل الباطن يتشكل في الانسان بعد الميلاد من عوامل تتعلق بالتنشأة الاجتماعية للفرد، وما اطلق عليه بالازمات (crisis) التي يمر بها في مراحل حياته المختلفة. اهمها على الاطلاق، طفولته. بينما يرى الاستاذ محمود، ان العقل الباطن، هو، الى حد كبير، نتيجة لتطور الحياة عبر الزمن، وتقلبها في الصور. حتى اذا انقسمت الى عقل وجسد في الانسان، صار الصراع داخل الفرد البشرى، وبشكل رئيسي، بين هذين المكونين المتناقضين في نشأتنا؛ الملائكي فينا (العقل)، والشيطاني (الجسد). ونتج الكبت عندنا، بالتالي، من سعي عقولنا لضبط شهواتنا، والسيطرة عليها، توطئةً لاسترداد ما فقدناه بالمعصية، بداية. لكن الاستاذ محمود لا يلغي، مع هذا، تأثير حياة الفرد ونشأته بعد ميلاده في تكوين عقله الباطن. فتتداخل في نظره جميع العوامل- قبل وبعد الميلاد- الموروث منها والمكتسب، لتخلق في نفس كل واحد منا عقله الباطن. إسمعه يقول في ذلك "أن من الكبت، ما هو نصيب أحدنا من التراث البشري الطويل، ومنه ما هو كسبه الخاص أثناء ممارسته حياته في بيئته الطبيعية، الاجتماعية، في عمره القصير هذا".

وأخيراً، يرسم الاستاذ محمود وفرويد صورتين مغايرتين تماماً لمستقبل الانسان في ظل الكبت والانقسام الذي عانى منه الفرد البشري طوال تاريخه .

فقد عرف عن فرويد نظرته المتشائمة لمستقبل الانسان، والتي كثيراً ما صرح بها علناً بقولهi am a pessimist، أنا متشائم . فهو لا يرى شيئاً مدخراً للانسان في ظل الصراع الدائر في دواخله بين العقل الاجتماعي والثقافي المكتسب بالتنشئة، والعقل الحيوان الكامن فيه، سوى المزيد من الآلام، والشقاء، والعذاب. وعلى العكس من ذلك ، كان الاستاذ محمود محمد طه، متفائلاً ومؤمناً بقدر الانسان وبغده المأمول الزاهر، ومبشراً بأن الكبت والانقسام في حياتنا الى زوال. فهو عنده قد خدم غرضاً مهماً في المرحلة. وسيجئ اليوم الذي سيتمكن فيه الانسان من الانتصار على الخوف الذي قسم الشخصية الانسانية الى ظاهر وباطن وكان سبباً في الكبت. حينها، سيدخل الانسان مرحلة جديدة من حياته في ترقيه نحو مقامه المحمود. هذه المرحلة هي مرحلة العقل والجسد المتسقين، ويترك وراءه وللأبد مرحلة العقل والجسد المتنازعين، كما بشر بذلك الاستاذ محمود.

وبعد

لقد تطرق هذا المقال لموضوع أحسبه هام، أثر ولا يزال يؤثر على حياة الانسان تأثيراً بالغاً. ذلك هو موضوع العقل الباطن في الانسان. تتبع المقال اوجه الشبه والاختلاف في طرح الاستاذ محمود محمد طه، وفرويد فيما يلي المصطلح. فهما يتفقان على وجود العقل الباطن لدى الانسان وفي تداعياته المهمة على حياة الفرد، ويختلفان في المدى الزمني الذي استغرقه العقل الباطن ليتكون، وفي العوامل التي دخلت في تكوينه. لقد أسهم الاستاذ محمود وفرويد، كل على طريقته، في تسليط الضوء على موضوع ظل مادة للتفكير الانساني لعقود من الزمان. غير أن ما قدمه الاستاذ محمود محمد طه في هذا المجال، هو، في رأيي، اعمق، وأشمل، وابعد مدىً في طرفي البداية والنهاية مما قدمه سيجموند فرويد.