إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

تعقيب على مقال د. غازي العتباني مستشار السلام في حكومة الانقاذ
الحكومة هي المسؤول الوحيد عن فشل محادثات السلام !!

د. عمر القراي


٢١ يوليو ٢٠٠٣

بعد كل هذه السنوات الدامية، من عمر حكومة الانقاذ، وبعد تحويل الحرب في الجنوب، الى جهاد في سبيل الله، وتوجيه الاعلام الى "ساحات الفداء"، واقامة "عرس الشهيد " على الحور العين، واعادة الرق في السودان ببيع الاسرى، وبعد تدمير قرى بأكملها في جبال النوبة، وتعذيب المعارضين السياسيين في بيوت الاشباح، وتجويع الشعب، وفصله، وتشريده، وجمع الثروة في ايدي تجار الجبهة الإسلامية، والموالين لهم، وبعد ان ساد جو من الهوس الديني، فرّخ جماعات التكفير المتخلفة، التي تنعق كالبوم، بفتاوي التقتيل والاعتداء على الطلاب العزل، دون ان تحرك الحكومة ساكناً، جاء د. غازي صلاح الدين العتباني، مستشار حكومة الانقاذ للسلام، ليحدثنا عن العدل والإخاء والمحبة، التي ستسود في السودان، إذا وقع الاتفاق، وتم السلام، وقبلت الاطراف جميعاً، ان يحكم شمال السودان، بما فيه العاصمة القومية، بقوانين الشريعة الإسلامية!! ثم اخذ يحدثنا، كيف اننا بتطبيق الشريعة سنحقق الدولة الإسلامية، التي قامت في الماضي و(رفعت الظلم عن القبطي في مصر والمجوسي في فارس والمسيحي في الشام واليهودي في الأندلس وعدلت بينهم)[1]!! ولم يكتف السيد مستشار السلام بذلك، بل ذكرنا كيف ان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ضرب داهية العرب ووالي مصر عمرو بن العاص، انصافاً لرجل من غير المسلمين، من عامة الرعية!! وكأننا إذا طبقنا الشريعة اليوم، سينزل د. غازي العتباني، أو عمر البشير، أو علي عثمان، من قصورهم العالية، وعرباتهم الفارهة، فيعيشوا مثل عمر بن الخطاب، الذي لم يجمع بين الخبز والإدام في طعام، منذ ان ولي الخلافة!!
على ان المتتبع للسياسة الدولية، لا يعجزه ان يلاحظ التغيير الذي طرأ على حكومة الجبهة، منذ ان شنت الولايات المتحدة وحلفاؤها حملة دولية على الارهاب، بعد أحداث 11 سبتمبر، وضربت مراكز "القاعدة" في افغانستان.. فقد قطعت حكومة الجبهة علائقها مع بن لادن، وسلمت أمريكا المعلومات عن حركته، وتغير خطابها في الداخل، فسمحت بقدر من الحريات، ما كانت تطيقه من قبل، وقللت عدوانيتها تجاه المعارضة، وصعدت من ادعاء رغبتها في السلام!! وبالرغم من ان الخوف لا يحترم، ولا يعتمد عليه كدافع للسلام، الا ان اتجاه د. غازي لمحاولة إعطاء موقف الحكومة تبرير فكري، يناقش اطروحاتها بإزاء آراء المعارضة، اتجاه محمود، لو كانت المعارضة تجد فرصة متكافئة في وسائل الاعلام!!
ومع ان د. غازي صلاح الدين مهتم بالكرسي، أكثر من المفاهيم الدينية التي يذيعها هنا وهناك، وهو في ذلك – رغم الخلاف الطارئ - يمثل صورة مصغرة، من التواء ومراوغة شيخه د. الترابي، الا ان مناقشة مقاله هذا، تهدف في المقام الأول، الى توعية الشعب، ثم توعية جماعة الجبهة الإسلامية، المنقسمة على نفسها، بسبب المصالح، علها تجد في ذلك متكأ دينياً وفكرياً للاختلاف، يكون بديلا للاصطراع المحموم على المناصب الزائلة بين شقيها الشعبي والوطني..
لقد حاولنا خلال سنوات عديدة، ان نجر الجماعات الإسلامية الى ساحة الحوار الفكري، حيث المناخ الذي تموت فيه موتاً طبيعياً.. وكنا في ذلك نبغي بها الخير، لأن موتها في ساحة الفكر هو حياتها الحقيقية، على هدى مفاهيم جديدة. ولكنها من منطلق الفهم الخاطئ للدين، كانت تجنح للعنف والاعتداء والتآمر والتكفير، وتهرب من ساحات الحوار، ما لم يكن وعظاً أو خطباً سياسية.. فاذا جاءت اليوم، يمثلها أحد قادتها، الى تلك الساحة مدفوعة بالتخويف الأمريكي، والضغوط الدولية، والفشل الداخلي، والخسائر المتتابعة امام الحركة الشعبية لتحرير السودان، فإننا نعتبر هذه خطوة ايجابية، ذلك ان ساحة الفكر والحوار، تبقى الملاذ الأخير، الذي نحن جميعاً بفضل الله، اليه مسيرون..