إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

مشكلة الشرق الأوسط

الفصل السادس



ترسيخ قواعد إسرائيل


فى ليلة الرابع عشر من شهر مايو عام 1948م، أعلنت دولة إسرائيل قيامها في الجزء الذي خصصه لها قرار التقسيم من أرض فلسطين، ولم يمض على هذا الإعلان إلا دقائق قلائل حتى ابتدرت الولايات المتحدة الاعتراف بها، وتابعها في ذلك معظم الدول، وفى مقدمتها الاتحاد السوفيتى، وبريطانيا، ومن يومئذ أصبح كل وقت يمر، وكل عمل يعمل، سواء كان من جانب المقاومة العربية، أو من جانب المساعدة الغربية، يساعد في ترسيخ قواعد دولة إسرائيل في أرض فلسطين..
كل اشتباك تم بين العرب وإسرائيل لا يكاد يبدأ حتى يتوقف، ويتوقف بتدخل من مجلس الأمن يصادف تردداً من العرب، وضعفاً وميلاً إلى الهدنة.. وكل اشتباك يتوقف يقوِّي إسرائيل.. فلكأنه يكون لها بمثابة المبيد الذي يُعطي في مقادير أقل من الجرعة القاتلة فهو يقوِّي ولا يقتل، ويُعطي مناعة، فوق ذلك.. وكل هدنة تعقب أيِّ اشتباك تستثمرها إسرائيل في زيادة التدريب، وزيادة التسليح، وزيادة استدرار العطف الإنساني العام، ويبددها العرب في التنابز بالألقاب، وفى توزيع الاتهامات بينهم، ثم إن بقي وقت سعى بعض عقلائهم فاقترح إيقاف الشتائم، من أجل ضم الصف العربى.. فإذا تم اشتباك جديد بخرق الهدنة من جانب إسرائيل، وهو أمر كثيراً ما يحدث، أو من جانب العرب، تقدمت إسرائيل في أرض جديدة من أرض العرب.. وعندما يتوقف القتال، بعد زمن قصير في العادة، تكون إسرائيل قد وقفت فوق الأرض الجديدة التي اكتسبتها في آخر جولة.. وهذه صورة تضطرد ولا تتخلف، حتى بلغت مداها في الحرب المشئومة الأخيرة.. وحتى أصبح العرب يتحدثون طوال وقتهم عن إزالة آثار العدوان، بجلاء قوات إسرائيل عن أرض العرب، وقد أصبح الآن بينهم وبين قضية فلسطين، في إطارها الحقيقي مرحلتان: مرحلة إزالة آثار العدوان، ثم مرحلة اللاجئين، الذين ظلوا، لمدة طويلة، هم المظهر الوحيد الذي يطالع العالم من قضية فلسطين، كما أسلفنا القول في ذلك..
أما قضية فلسطين المتمثلة في وجود إسرائيل في أرض فلسطين، كما كانت في أول عهدها، فذلك أمر قد غاب حتى عن أذهان العرب حين تبدو لهم الحقائق فتخرجهم عن أحلام اليقظة.. والدليل على هذا القول يلتمس في أن العرب اليوم ينتظرون الحل السياسي من مجلس الأمن تارة، ومن الجمعية العامة تارة أخرى، وفى الجمعية العامة فإن دولة إسرائيل عضو، مثلها في ذلك مثل أيِّ واحدة من الدول العربية، وقد ختمنا الفصل الخامس من هذا الكتاب بالقرار الذي اتخذته الجمعية العامة بقبول إسرائيل في العضوية، بعد عام واحد من قيامها، وفى ذلك القرار تذكير((بقرار التقسيم)) و((قرار إعادة اللاجئين)).. وفى الحق إن كل قرارات مجلس الأمن منذ ذلك اليوم الذي اتخذ فيه قرار التقسيم كانت ترمي إلى ترسيخ قواعد دولة إسرائيل.. ففى اليوم الحادي عشر من شهر أغسطس من عام 1949م، أي بعد ثلاثة أشهر من قرار قبول إسرائيل في هيئة الأمم، اتخذ المجلس قراراً يقضي ((بِحَثِّ الفرقاء المعنيين على التفاوض لتحقيق تسوية نهائية للصلح، إما مباشرة، أو عن طريق لجنة التوفيق)).. فالحديث عن المفاوضة المباشرة التي تتحدث عنها إسرائيل في هذه الأيام ليس جديداً وإنما هو شطر من قرار صدر منذ ما يقرب من العشرين عاما..
ثم أصدر مجلس الأمن قراراً في اليوم الثامن من ديسمبر عام 1949م، وهو ينص على ((إقامة وكالة للأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، مع إيجاد مجلس استشاري لها، يتولى تقديم المشورة إلى المدير العام للوكالة.. ونص القرار على أن مهمة الوكالة القيام بأعمال إغاثة اللاجئين وإعداد المشاريع لتشغيلهم بالتعاون مع الحكومات المحلية، كما طلب من المدير العام تقديم تقارير سنوية إلى الجمعية العامة)) فكأن هذا القرار يرمي إلى امتصاص اللاجئين في المواطن التي يكونون بها بعد أن ظهر واضحاً العجز عن إعادتهم إلى وطنهم وتعويضهم عن ممتلكاتهم مع إن قراراً قد اتخذ بذلك.. وفى الاتجاه إلى تشغيل اللاجئين ((بالتعاون مع الحكومات المحلية)) بالطبع مساعدة لإسرائيل التي أصبحت ترفض الإذعان لقرار الإعادة هذا.. وتربط بين الإعادة والحل النهائي للمشكلة..
يحدثنا السيد خيري حماد من كتابه ((قضايانا في الأمم المتحدة)) عن هذا الأمر فيقول ((تألفت لجنة التوفيق الدولية منذ عام 1948م، وقد لجأت منذ إنشائها إلى كل ما وسعها من سبل، وإن كنت أشك في صدقها، لتحقيق قرارات الأمم المتحدة، وقد بدأت عقد جلساتها في آذار (مارس) عام 1949م، فاستمعت إلى ممثلي اللاجئين وإلى مندوبي الدول العربية، ثم سافرت إلى تل أبيب حيث اجتمعت إلى السلطات الإسرائيلية، وانتقلت بعد ذلك إلى لوزان حيث طلبت إلى الفرقاء المعنيين إيفاد ممثليهم إليها للشروع في المفاوضات.. وتم التوقيع في 12 آيار(مايو) عام 1949م، على ((بروتوكول لوزان)) الذي اتخذ من قرار التقسيم قاعدة للمباحثات، وبيّن أن غرضه الوصول، في أسرع وقت ممكن، إلى الأهداف التي حددها قرار الحادي عشر من كانون الأول عام 1948م بالنسبة إلى اللاجئين واحترام حقوقهم والحفاظ على ممتلكاتهم..
وقد وقّعت إسرائيل على هذا البروتوكول ولكنها ما لبثت أن تنكرت لتوقيعها ورفضت إعادة اللاجئين فمني المؤتمر بالفشل..
((وعادت اللجنة إلى الاجتماع في نيويورك في صيف العام نفسه، واتصلت بالوفود العربية ووفد إسرائيل، ولكن المحادثات مُنيت بالفشل أيضاً، بسبب إصرار إسرائيل على موقفها من عودة اللاجئين..
((وانتقلت اللجنة إلى جنيف، حيث دعت الفرقاء المعنيين إلى الاجتماع بها من جديد، واستمرت المحادثات طيلة صيف عام 1950م دون أن تسفر عن نتيجة..
وارتحلت إلى ليك سكس في خريف العام نفسه، واتصلت بالوفود العربية ووفد إسرائيل، ولكن المحادثات لم تكلل بالنجاح، بسبب إصرار إسرائيل على موقفها..
((وقامت بمحاولتها الأخيرة في باريس، فعقدت اجتماعات في شهر أيلول (سبتمبر) عام 1951م استمرت أكثر من شهرين ولكن دون جدوى، بسبب تعنت إسرائيل، فرفعت في نهاية العام نفسه تقريراً إلى الجمعية العامة هو العاشر من نوعه، وأعربت فيه عن اعتقادها بأن الفريقين لا يرغبان في تثبيت دعائم الاستقرار في فلسطين عن طريق تنفيذ مقررات الجمعية العامة تنفيذاً كاملاً، وأعربت عن تعذر مضيها في عملها.. وأكدت في ختام تقريرها أنها لم تستطع إحراز أي تقدم في أداء المهمة التي عهدت الجمعية العامة إليها بالقيام بها))..
ويحدثنا في ذلك المستر هارولد كورلاندر في كتابه ((الأمم المتحدة)) ترجمة الأستاذ عبد الفتاح المنياوي في الصفحة 240 فيقول ((وقد ظلت الأمم المتحدة، عاجزة عن الجمع بين الطرفين في سبيل الوصول إلى اتفاق دائم بينهما.. وكانت إسرائيل تعبر عن رغبتها في أن تتفاوض في سبيل الوصول إلى اتفاقية نهائية تقر السلم، ولكن الدول العربية ظلت تنكر وضع دولة إسرائيل من الناحية القانونية، كما كانت تطالب دائماً بعودة اللاجئين إلى بلادهم وبتعويضهم كشرط أساسي قبل الوصول إلى أيّ اتفاق.. ولكن إسرائيل من جانبها ظلت تعارض دائماً في إمكان السماح بعودة العرب إلى وطنهم، عودة شاملة على أساس أن إجراءً كهذا سوف يهدد كيانها وأمنها وسلامتها، على الرغم من أنها في الوقت نفسه كانت تشجع حركة هجرة اليهود على الدوام من أوروبا وأمريكا والشرق الأوسط))..
أرجو أن يتأمل القارئ عبارات ((وكانت إسرائيل تعبر عن رغبتها في أن تتفاوض في سبيل الوصول إلى اتفاقية نهائية تقر السلم، ولكن الدول العربية ظلت تنكر وضع دولة إسرائيل من الناحية القانونية، كما كانت تطالب دائماً بعودة اللاجئين إلى بلادهم وبتعويضهم كشرط أساسي قبل الوصول إلى أي اتفاق.. ولكن إسرائيل من جانبها ظلت تعارض دائماً في إمكان السماح بعودة العرب إلى وطنهم، عودة شاملة على أساس أن إجراءً كهذا سوف يهدد كيانها وأمنها وسلامتها))..
فكأن إسرائيل تدعو إلى التفاوض، وهو لغة العصر والعرب يرفضونه، وإسرائيل تدعو إلى السلم وهو لغة العصر وحلمه، والعرب يرفضونه.. حجتهم في الرفض؟ إنكارهم ((وضع دولة إسرائيل من الناحية القانونية)) فأي قانون يعنون؟ أهو القانون الدولي الذي تقوم عليه دول عالم اليوم، أم هل هو قانون آخر تناهضه جميع هذه الدول؟ فإن كانت الأولى فإن جميع دول عالم اليوم، حتى أصدقاء العرب، ليسوا ضد بقاء إسرائيل كدولة، وهم جميعاً يؤيدون، ويؤكدون، ((حق كل دولة في الحياة بسلام، وأمن، واحترام سيادتها، ووحدة أراضيها)) ولا يستثنون من ذلك دولة إسرائيل.. وإن كانت الثانية فإن تطبيق هذا القانون الذي يعطيهم حق محو دولة إسرائيل من الوجود في أرض فلسطين يتطلب وضع القوة بإزاء دول العالم لا بإزاء إسرائيل وحدها.. والعرب عاجزون عن إبداء هذه القوة، بدليل أنهم انهزموا ثلاث مرات، في ثلاثة حروب، وبدليل أنهم اليوم يسعون إلى الحل السياسي بين مجلس الأمن والجمعية العامة.. فهم إذن بموقفهم هذا لايزيدون على أن يظهروا بين دول العالم بمظهر الجهل، وعدم المعقولية، وقلة التفكير، مما يزيد في ترسيخ أقدام اسرائيل.. وقد فعل..
ثم هم مع موقفهم هذا يطالبون ((بعودة اللاجئين وبتعويضهم، كشرط أساسي قبل الوصول إلى أي اتفاق)) وترفض إسرائيل إعادة اللاجئين إلى بلادهم قبل تسوية السلم بدعوى أنهم قد يكونون ((طابوراً خامساً)) يعمل على تهديد سلامها من الداخل، ما دامت البلاد العربية في حالة حرب معها.. وهكذا تظهر إسرائيل بمظهر التعقُّل، وتقول كلاماً يفهمه الناس، وينفرد العرب بموقف الجهالة والبعد عن المعقول.. وهم بذلك يزيدون من ترسيخ أقدام دولة إسرائيل..
وفى مؤتمر القمة الذي جمع زعماء العرب بالخرطوم، في اوائل شهر سبتمبر من هذا العام، اتخذ قرار يقول ((ثالثا: اتفق الملوك والرؤساء على توحيد جهودهم في العمل السياسي، على الصعيد الدولي، والدبلوماسي، لإزالة آثار العدوان، وتأمين انسحاب القوات الإسرائيلية المعتدية من الأراضي العربية المحتلة، بعد عدوان 5 يونيو، وذلك في نطاق المبادئ الأساسية التي تلتزم بها الدول العربية وهي: عدم الصلح مع إسرائيل، أو الاعتراف بها، وعدم التفاوض معها، والتمسك بحق الشعب الفلسطينى في وطنه)).. وهذا القرار وحده يكفي لدمغ الزعامات العربية بالجهل بصورة لا رجعة فيها.. فهم يتحدثون عن الحل السياسي والدبلوماسي على الصعيد الدولي، ويعلنون، في نفس الوقت، عدم الصلح مع إسرائيل.. فكأنهم يريدون أن يقولوا لدول العالم في المنظمة العالمية: نريد منكم أن تساندونا في مطالبة إسرائيل لتجلو عن أرضنا، التي احتلتها في حرب 5 يونيو، وترجع إلى مواقعها قبل تلك الحرب، ثم تنتظرنا هناك ريثما نجمع قواتنا بالصورة الكافية، التي تمكننا من أن نرمي بها في البحر..
بمثل هذا التفكير عجز العرب عن أن يصلوا إلى حل عسكري، وعن أن يصلوا إلى حل دبلوماسي.. وأسوأ من ذلك.. ظهروا في نظر العالم بمظهر الداعي إلى الحرب، ومكنوا لإسرائيل من أن تظهر بمظهر الداعي إلى السلام.. هذا مع إنها تحسن الحرب أكثر مما يحسنونها، وقد استفادت منها دائماً، وخسروا فيها دائما..
وهذا التفكير، أو قل عدم التفكير، من جانب العرب زاد في ترسيخ أقدام دولة إسرائيل، أكثر من أيِّ عمل آخر، قامت به إسرائيل لنفسها، أو قام به لها أصدقاؤها في أنحاء العالم..

دولة إسرائيل قديمة


فإذا كانت جميع العوامل تعمل لترسيخ قواعد إسرائيل، حتى العرب، كما بينا آنفاً، فإنما ذلك لأن دولة إسرائيل قديمة.. وقيامها يوم 14 مايو من عام 1948م، لم يكن يؤرخ بدايتها، وإنما يؤرخ عودتها، في صورة حديثة، في العهد الحديث.. وهي عودة سخرت الاستعمار لخدمتها، ولم يسخرها الاستعمار، إلا حيث التقت مصالحها بمصالحه.. ولقد عملت على قيامها عصبة الأمم الماضية، على مستوى ما.. وعملت على قيامها هيئة الأمم الحاضرة على مستوى أمنها ورسخها.. ووعد بلفور لم يعطها حقها في الظهور، وإنما نظم حقها في ذلك الظهور..
والحركة الصهيونية، المتمثلة في دولة إسرائيل، لم تنشأ في أواخر القرن التاسع عشر، وإنما اتخذت لها شكلاً تنظيمياً، حديثاً، في ذلك الوقت.. ولقد تفرق اليهود، لآخر مرة في عام 134م، في وجه الأرض، وانتهوا، كأمة ذات سيادة، في أرض فلسطين.. ولكنهم عادوا الآن لأن دولة إسرائيل ظلت قائمة في قلوبهم، وعقولهم، طوال هذا المدى الذي ينيف على الثمانية عشر قرناً.. ولقد تعرض اليهود للتشريد، والسبي، والاضطهاد، مدى يقرب من أربعة آلاف سنة فكانوا دائماً يعتصمون بعنصريتهم، وبدينهم ويحلمون بالعودة إلى أرض المعاد، وكانوا، كلما نقضت سلطة دولتهم في أرض فلسطين، يسعون إلى العودة، وإلى إعادة إنشاء تلك الدولة.. ولقد استقرأنا هذا التاريخ بصورة موجزة ولكنها، في حد ذاتها، كافية لتعطي صورة واضحة عن هذه المثابرة، وهذا الإصرار، وهذه المقاومة العجيبة من هذا الشعب العجيب..
ولقد أوردنا من المزامير هذه الأبيات:-
((هنالك على أنهار بابل جلسنا، وبكينا عندما تذكرناك يا صهيون..
وعلى أشجار الصفصاف علقنا أعوادنا، بعد أن طلب منا الذين سبونا أن نغني لهم أغنية من أغاني صهيون..
كيف نغنى أغنية الرب في أرض غريبة؟
شلت يميني إن نسيتك يا أورشليم..
ليلتصق لساني بحلقي إن لم أذكرك يا أورشليم، وإن لم أفضلك على أعظم أفراحي..))
فهم يسمون القدس صهيون، ويسمونها الأرض الموعودة، ومنها كلمة ((الصهيونية)) وهي تعنى نداء الماضى للعودة إلى القدس..
فإن كان هذا كله لا يعني عندنا نحن العرب شيئاً، وإن كانت دولة إسرائيل التي قامت في أرض فلسطين منذ عشرين سنة لا يطيب لنا إلا أن نسميها ((دولة العصابات الصهيونية)) أو ((دولة شذاذ الآفاق)) أو ((دويلة إسرائيل)) أو ((إسرائيل المزعومة)) إلى آخر هذه الأسماء التي لا يحسن حملة الأقلام، ورجال الإعلام عندنا أكثر منها، فإن هذا أمر مؤسف غاية الأسف.. وهو لم يضر دولة إسرائيل، وإنما نفعها، وثبت أركانها، وأضر بنا نحن العرب، أبلغ الضرر..