إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

مشكلة الشرق الأوسط

الاعتراف باسرائيل من مصلحة العرب


كان، ولا يزال، اعتراف العرب بإسرائيل، بالنسبة لإسرائيل أعزَّ أمانيها، لأنه يوفر عليها حالة الخوف، والتوتر، والقلق، التي أرقت لياليها، وشغلت أيامها، كما يوفر عليها الجهد والمال، وهي في سبيل هذا الاعتراف يمكن أن تساوم إلى حدود بعيدة لا تقف عند حد إعادة اللاجئين إلى ديارهم، وتعويضهم عن ممتلكاتهم، ولا عند حد الجلاء عن الأراضي العربية التي احتلتها في 5 يونيو، وإنما تذهب إلى الرجوع إلى الحدود التي بينها قرار التقسيم الأصلي الذي اتخذته الأمم المتحدة في التاسع والعشرين من نوفمبر عام 1947م.. وهي حدود قد تخطتها إسرائيل، وتوسعت عليها عقب كل معركة من المعارك التي نشبت بينها وبين العرب منذ 15 مايو عام 1948م.. ولكن العرب يرفضون هذا الاعتراف بدولة إسرائيل، وهم، إن أردت الدقة، لا يرفضونه إلا شكلاً، ولا يرفضونه إلا قولاً.. ولكنهم مضموناً، وعملاً، لا يرفضونه.. هذا من أشد الأمور مدعاة للأسف، وهو في نفس الوقت من أدل الدلائل على جهل القيادات العربية، وقلة حنكتها، ذلك بأن إسرائيل في فترة الإصرار على عدم الاعتراف بها قد تقوَّت ولا تزال تتقوّى، عسكرياً، وسياسياً، ودبلوماسياً، واقتصادياً، وبشرياً.. ثم هي ستنال الاعتراف الكامل بها بعد أن تفرضه وبعد أن يكون العرب كما هو واضح الآن، قد قدموه على أقساط، وبعد أن يكون على ذلك قد فقد قيمة المساومة التي كان ولا يزال يحظى بها.. فكأن إسرائيل ستحرز اعتراف العرب بها بدون أن يقبض العرب من إسرائيل ثمن هذا الاعتراف.. ورفض العرب الاعتراف بإسرائيل يقوم على كبرياء زائف!! كيف يجلسون ليتفاوضوا، على مائدة واحدة، مع من اغتصب أرضهم؟؟
هل سمعتم آخر الأخبار؟ إذن فاسمعوا!! صرح الملك حسين في واشنطون أنه متفق مع الرئيس جمال عبد الناصر على أن العرب مستعدون لينهوا حالة الحرب مع إسرائيل، وأن يعترفوا لها بحقها في المرور البرئ بكل من خليج العقبة، وقناة السويس، ومن الدلائل على صدق ما نسب للملك حسين كونه يستقيم مع ما صرح به، قبل حين، الزعيم العمالي البريطاني السير دنقل فوت ونشرته صحيفة الاوبزيرفر اللندنية، ونشرت ترجمته صحيفة الأيام بعددها الصادر يوم الثلاثاء 17/10/1967م وكان تصريح السير دنقل فوت عبارة عن مقال بعنوان (ناصر قال لي) وقد جاء فيه قوله: ((إن الرئيس عبد الناصر مستعد للشروع في محادثات بين مصر وإسرائيل تحت رياسة الأمم المتحدة حتى قبل انسحاب القوات الإسرائيلية من سيناء.. وهذا ما يمكن أن يجري – حسب اقتراح الرئيس ناصر ـ ضمن هيكل اتفاقية الهدنة 1949م..
((وهو أيضاً مستعد لقبول نهاية لحالة الحرب مع إسرائيل.. ولكنه يصر على أنه ما من تسوية ـ بما في ذلك إعادة فتح قناة السويس ـ يمكن أن تتم طالما كانت القوات الإسرائيلية باقية على الأراضي المصرية..
((وهو أيضاً يربط مرور السفن الإسرائيلية بقناة السويس بمشكلة لاجئي عرب فلسطين.. طبقاً لقرارات الأمم المتحدة التي تدعو لعودتهم أو تعويضهم)) (لعلها عودتهم وتعويضهم) هذا ما نسب قوله للسيد جمال، وهو يؤيد صحة ما نسب للملك حسين في واشنطون.. فهل بقي شئ من الاعتراف بدولة إسرائيل غير شجاعة المواجهة؟؟ وعن هذا الاعتراف يزيدنا علماً ما نسب للسيد محمد الزيات، مدير الإعلام المصرية، فقد زعموا أنه قال إن اتفاقية الهدنة 1949م بين إسرائيل، ومصر، وسوريا، ولبنان، والأردن، تعطي دولة إسرائيل اعترافاً عملياً..

لماذا لا يواجه العرب مشكلتهم بشجاعة؟


لماذا الواسطة؟ لماذا لا نواجه مشاكلنا بشجاعة الرجال؟ فإن الواسطة قد أضرت بنا أبلغ الضرر من قبل، وأظهرتنا بمظهر القُصَّر الذين يتحدث عنهم أوصياء.. وأوصياء مغرضون في ذلك.. فعندما حصلت هذه الهزيمة المنكرة تحدث باسم العرب الاتحاد السوفيتي على نحو ما سبقت إليه الإشارة في صدر هذا الكتاب، وتقدم المسيو الكسى كوسيغين في خطاب ألقاه في الدورة الطارئة، الخاصة، للجمعية العامة، لمنظمة الأمم المتحدة، بمطالب لخصها في أربع نقط، واقترح فيها على الأمم المتحدة أن:
((أولاً: تشجب بحزم أعمال إسرائيل العدوانية، والاحتلال المستمر من جانب هذه الأخيرة لقسم من اراضي الجمهورية العربية المتحدة، وسورية، والأردن، الأمر الذي يشكل عملاً يعتبر عدواناً..
ثانياً: تطالب بأن تسحب إسرائيل فوراً، وبدون أيِّ شرط، جميع قواتها من أراضي الدول المذكورة إلى مواقعها خلف الخطوط التي حددتها الاتفاقيات العامة للهدنة، وأن تحترم وضع المناطق المجردة من السلاح، كما تنص على ذلك اتفاقيات الهدنة هذه..
ثالثاً: تطالب أيضاً بأن تُعوض إسرائيل بصورة كاملة، وفى أقصر وقت، عن كل الأضرار التي لحقت بالجمهورية العربية المتحدة، وسورية، والأردن، وبمواطني هذه الدول، من جراء عدوانها.. وأن تعيد إليها كامل الممتلكات، والقيم المادية الأخرى، التي اغتصبتها..
رابعاً: تدعو مجلس الأمن إلى أن يتخذ من جانبه التدابير الفعالة والعاجلة لتصفية كافة نتائج العدوان الذي ارتكبته اسرائيل))..
فهذه المطالب هي من الشطط، والمبالغة، بحيث يستحيل أن يقع عليها الإجماع المطلوب، وحتى لو أيدها العدد الكافي من الدول، فإن تنفيذها يصبح امتحاناً عسيراً على الأمم المتحدة.. والاتحاد السوفيتي لا بد يعلم، حق العلم، هذا وذاك، ولكنه قدمها، لا لتكون حلاً، ولكن لتكون مصدر إحراج لما يسميه ((الامبريالية))، وقدمها لتعلق العرب بنقط تجعل التسوية امراً متعذراً، أو على أيسر تقدير، أمراً يستغرق وقتاً طويلاً.. ويخطئ، أشنع الخطأ، من يظن أن الاتحاد السوفيتي ـ يريد للمشاكل التي تواجه الدول الغربية أن تسوَّى ـ مشكلة فيتنام، أو مشكلة الشرق الأوسط، لأن عدم التسوية يظهر عجز الدول الغربية، ولأنه يزيد من كراهية الرأي العام العالمي لها، ولأنه يجعل الشعوب المنكوبة، والشعوب عامة، في حالة قلق تلتمس بوارق الطمأنينة في الأفق، والاتحاد السوفيتي كلف دائماً بأن يرفع راياته هو، ترفرف في الأفق البعيد، تُمني هذه الشعوب بالصداقة، والرخاء، والسلام..
فقد أوردت الأخبار أن المسيو ليونيد بريجينيف السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفيتي، افتتح احتفالات اليوبيل الذهبي للثورة بخطاب استعرض فيه السياسة الخارجية والداخلية للاتحاد السوفيتى، وأمام ستة آلاف شخص، يمثلون وفود خمس وتسعين دولة، اجتمعوا في قاعة المؤتمرات بقصر الكرملين، قال بريجنيف: ((إن ميزان القوى في العالم قد تغير بصورة جذرية لصالح الطبقة العاملة، وجميع قوى التقدم والديمقراطية والاشتراكية)) وهو بالطبع يعنى بهذه العبارات الدول الشيوعية، والاتحاد السوفيتي بصورة خاصة.. و((ميزان القوى في العالم)) هو ما تحدثنا عنه في صدر هذا الكتاب وقلنا إنه كل ما يهم الكتلة الشرقية، والكتلة الغربية ـ لا مصالح الدول الصغيرة ـ وقد تحدث بريجنيف عن السياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي فقال:((إن المهمة الرئيسية للسياسة الخارجية للاتحاد السوفيتي هي إحباط مؤامرات الإمبريالية ضد الاشتراكية، وأضاف أن علاقاتنا بجميع الدول تتبع المبدأ الديمقراطى، وهو الاعتراف بممارسة المساواة بين جميع الدول، كبيرها وصغيرها))..
فمثل هذا التضليل، ومثل هذا الكذب الصراح لا يمكن للشعوب أن تهضمه في حالاتها الطبيعية.. ولكن في الحالات العصيبة التي تسود جو الأزمات، والهزائم، والخوف الذي يصحب موقفاً كالموقف القائم الآن في الشرق الأوسط فإن تضليل الشعوب يصبح من أيسر الأشياء..
وعن الشرق الأوسط ماذا قال بريجنيف؟ ((إن أعمال وتصرفات الولايات المتحدة، وبريطانيا، والمانيا الغربية، التي شجعت عملاءها من حكام إسرائيل على العدوان ضد الدول العربية قد كشفت مرة أخرى عن طبيعة النهب التي تميز السياسة الإمبريالية، وقال إن الفرصة قد سنحت مرة أخرى للشعوب العربية لتدرك بنفسها أن الاتحاد السوفيتي، والدول الاشتراكية الأخرى هم أصدقاؤهم الحقيقيون، وأنهم حصن يمكن الركون إليه لصون استقلالهم)) فيالها من لحظة ((سيكولوجية)) لبرجنيف ليعرض للعرب حصناً ((يمكن الركون إليه لصون استقلالهم)) على حد عبارته.. ثم تطرق للجيش السوفيتى ليطمئنهم على متانة حصنهم فقال: ((إنه جيش قوي وهائل وهو قوة لا تقهر إذ إنه مزوّد بأحدث وأحسن الأسلحة في العالم.)).. وبالطبع فإن بريجنيف يعلم أن سياستهم في توريط العرب في الهزيمة العسكرية، وفى الهزيمة الدبلوماسية، قد نجحت نجاحاً لم يدع للعرب بديلاً عن ((الحصن الشيوعي)) وهذا السيد اسماعيل الأزهري يحدثكم فيما أوردت الأيام من خطاب ألقاه في الاحتفال الذي أقيم، بمناسبة الذكرى الخمسين لثورة أكتوبر، في دار الثقافة السوفيتية بالخرطوم، فبعد أن أشاد بالثورة السوفيتية، وقائدها لينين، وبإنجازات الاتحاد السوفيتي في مجالات العلم، والصناعة، الخ الخ، وهاجم المعونات الأمريكية، وقال إنهم يقدمون لنا الآلات القديمة، وأثنى على المعونات السوفيتية، وبعد أن انتقد موقف السوفيت من الحرب العربية الأخيرة قال: ((إن مواقفهم الأخرى غطت على ذلك)) وعن إغراق الباخرة الإسرائيلية ((ايلات)) قال ((إن ذلك يعكس صدق نية السوفيت لأنهم مدُّوا العرب بأسلحة عظيمة)) ثم أشاد بوجود قطع من الأسطول السوفيتي في المواني المصرية وقال ((إن وجودها صمام أمان)) وعبارة ((صمام أمان)) من أزهرى تقابل عبارة ((حصن يمكن الركون إليه)) من بريجنيف..