إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

غزو أفغانستان
النذير العريان

خاتمة


وبعد، فما هو موقف البلاد العربية، والإسلامية، السليم لدرء الإستعمار السوفيتي الغازي، وتقليل إحتمالات الحرب العالمية الثالثة؟؟
لا بد من إتجاه الدول العربية لحل مشكلة الشرق الأوسط سلميا، وبصورة شاملة.. وقد إقترحنا خطوط هذا الحل في كتابنا: (السادات والعرب وسياسة السودان الخارجية).. وهي الخطوط التي يسير في إتجاهها إتفاق (كامب ديفيد)، برغم سلبياته.. وذلك حتى يقطعوا الطريق أمام السوفيت، وهم لا يريدون لهذه المشكلة أن تحل، لا عسكريا، ولا سلميا، كما أسلفنا. وفي الحقيقة إن الإتحاد السوفيتي قد عمل بشدة لتدعيم وجود إسرائيل منذ عام 1947، حين أقر مشروع التقسيم، ثم في عام 1948 حين تبني طلب إسرائيل بإنضمامها عضوا في الأمم المتحدة، وحين ساندها في حربها الأولي ضد العرب.. وذلك حتى يعمق جذور النزاع العربي- الإسرائيلي – فيستغله في تدعيم نفوذه في المنطقة، تارة إلى جانب إسرائيل، وتارة إلى جانب العرب، مظهريا، فلنقرأ التاريخ!! ها هي محاضر جلسات الأمم المتحدة تحدثنا عن موقف السوفيت من تدعيم الوجود الإسرائيلي منذ مولده.. فقد قال المندوب السوفيتي في اللجنة التي تألفت من اجل تنفيذ قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة، وذلك في جلساتها يوم 13/10/1947: (من الحق الشرعي الكامل لليهود أن يفرضوا سيادتهم على وطن في فلسطين، فلا يكونوا تحت رحمة العرب.. إن الإتحاد السوفيتي يدعو، ويؤيد، ويعمل من اجل إقامة الدولة اليهودية وضمانها)!! وقال غروميكو، وزير الخارجية السوفيتي الراهن، في جلسة مجلس الأمن يوم 30/3/1948: (إن الولايات المتحدة في موقفها الجديد لا تكتفي بمعارضة مشروع التقسيم فحسب بل تريد الإبقاء على وحدة فلسطين، وترفض إرغام المعارضة "العرب" على قبول أي حل آخر. إن أمريكا بموقفها هذا إنما تعارض إرادة الأمم المتحدة التي أقرت التقسيم وأقرت معونة اليهود على خلق وطن قومي لهم في ديارهم بفلسطين)!! فالإتحاد السوفيتي إنما يتهم، هنا، الولايات النتحدة بممالاة العرب ضد إسرائيل، وبتعويق قرار التقسيم!! هل سمعت دول (الرفض) العربية الموالية للنفوذ السوفيتي اليوم بدعم السوفيت للوجود الإسرائيلي بهذه الصورة؟؟ فليسمعوا المزيد!! فقد قال غروميكو في جلسة الجمعية العمومية بتاريخ 23/4/1948، حول الحرب العربية الإسرائيلية الأولي: (لقد طرأ على القضية موقف جديد الآن، فزادها تعقيدا، وهذا الموقف الجديد هو عدوان أجنبي "عربي" غزا البلاد، ويريد منا الأمريكيون أن نتجاهله، إن هذا التجاهل زور وبهتان. ولا مجال للهدنة أن تخدم أغراضا إلا إذا إنسحب المعتدون "العرب") كتاب (نظريات وآراء القادة السوفيت حول الوحدة والقومية) الا يدافع الإتحاد السوفيتي عن العرب، اليوم، فيما يبدو في المحافل الدولية، بنفس الحجج، مدينا (العدوان) الإسرائيلي، ومتهما الأمركان بالتواطؤ معه؟؟ ألا يتحدث عن إنسحاب إسرائيل من الأراضي العربية؟؟ إن الإتحاد السوفيتي لا ينطلق من موقف مبدئي من القضية العربية الإسرائيلية، وإنما هو وراء هدف واحد، لا يهمه أي الطرق تؤدي إليه، وهو بسط نفوذه على هذه المنطقة الإستراتيجية!! ورغم ذلك يقع العرب ضحايا التضليل السوفيتي!! ولاسيما الفلسطينيون!! فقد ذهب رئيس الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية إلى حد الإشادة بالغزو السوفيتي لأفغانستان بإعتباره ضربة ضد الإمبريالية!! ("الأخبار"- 13/1/1980، صوفيا أ. ف ب)!!
إن على العرب أن يخرجوا بقضيتهم فورا من دائرة الإبتزاز السوفيتي، وأن يواجهوا مسئولياتهم نحو سلام المنطقة، وسلام العالم، بشجاعة وصدق، فيتجهوا إلى الحل السلمي الشامل حتى يجنبوا أنفسهم، ويجنبوا العالم خطر الإستعمار السوفيتي الذي يتهدد الحرية العالمية بأسرها، وحتى يتيحوا للعالم الفرص الكاملة لمواجهة هذا الخطر الماثل، وحتى يتفرغ العرب تفرغا كاملا لحل مشاكلهم الداخلية في التطور الإقتصادي، والسياسي، والإجتماعي.. وفوق ذلك!! حتى يتفرغوا لواجبهم الديني، والإنساني، في تكوين الكتلة الثالثة، التي تفض، في بنيتها، الكتلتين العالميتين، الراهنتين، وذلك بتكوينهم للمدنية المادية-الروحية الجديدة... المدنية الإنسانية التي لا يتوفر عليها إلا الإسلام الصحيح.. ونحن نقدم هنا دعوة الأستاذ محمود محمد طه إلى الإسلام الصحيح في مستواه العلمي الذي ينفذ إلى أصول الإسلام فيستخرج منها الحلول العملية لحل مشكلة الفرد، ومشكلة الجماعة، التي إستعصت على سائر الفلسفات، والأنظمة المعاصرة.. فإنه لن يجدي العرب والمسلمين، اليوم، شيئا هذه المواقف السلبية العاجزة التي يقفونها من الغزو السوفيتي لإفغانستان كما عبر عنها مؤتمر القمة الإسلامي (بإسلام أباد).. كما لن يجديهم طويلا الإعتماد على الحماية الأمريكية، أو على مقدراتهم الذاتية، العسكرية، والبترولية، أمام زحف سوفيتي مغامر يحارب حرب حياة أو موت!! العرب والمسلمون محتاجون إلى الفرار إلى الله تعالي، عنده، وحده، يلتمسون النصرة، والعزة!! ومن يدري؟؟ لعل الله تعالي يريد أن يسوقهم إلى كنفه بسياط الخوف، (فمن لم يسر إلى الله بلطائف الإحسان قيد إليه بسلاسل الإمتحان).. وفي الحقيقة أنه لا خلاص للعرب والمسلمين إلا بنزول (الروح)، و(السلام) فيهم، أليسوا هم موعودين بنزولهما؟؟ بلي!! (إنا أنزلناه في ليلة القدر* وما أدراك ما ليلة القدر* ليلة القدر خير من ألف شهر* تنزل الملائكة و"الروح" فيها بإذن ربهم من كل أمر* سلام هي حتى مطلع الفجر..)
فلنستمع إلى الأستاذ محمود ينذر العرب والمسلمين، منذ ما يزيد على العشرين عاما مغبة السير في ركاب الشيوعية الدولية، مؤكدا إنها لهي الإستعمار الجديد، ولهي الخطر الماثل الذي يتهدد حياة، وأمن، وحرية، هذا العالم.. فقد قال في خطابه إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بتاريخ 18 أغسطس 1958 صفحة 6: (إن الشيوعية مذهبية ذات مطمح عالمي، ولا يحول بينها وبين بسط نفوذها على العالم غير مناهضة الدول الغربية لها، وهي تسعي جاهدة لبسط نفوذها على هذا الكوكب الذي نعيش فيه بكل الأساليب، ومع أن أسلوبها التقليدي والأساسي هو الثورة، والعنف والحرب، إلا انها لا تري في الوقت الحاضر أن الحرب مأمونة العواقب، مضمونة النتائج، وذلك لتوازن القوي القائم بينها وبين الدول الغربية، وهي لذلك تقسم برنامجها لغزو العالم وإخضاعه إلى مرحلتين: فأما المرحلة الأولي فغرضها إخلال توازن القوي، وترجح كفتها هي على كفة الدول الغربية، وأما المرحلة الثانية فغرضها انهاء العمل بتنفيذ المؤامرة الكبري المدبرة لإغتيال حرية البشرية) إنتهي. هذه هي الإستراتيجية السوفيتية كما كشف عنها الأستاذ محمود محمد طه من قبل عشرين عاما، فهل هي غير ما أعلنه بريجنيف نفسه، كما بينا في هذا الكتاب، وهل هي غير ما تدل عليه الأحداث العالمية الجارية؟؟ ومضي الأستاذ محمود ليقول عن الأخطار المحدقة بباكستان، وإيران، والعراق، وتركيا من جانب الأطماع السوفيتية: (ثم قل لنا بربك أليس من الغفلة، وافن الرأي، أن نهاجم نحن، في السودان، أو في مصر، بلدا كالباكستان، مثلا، لدخولها في حلف بغداد، وهي تعيش بين عداوتين: الشيوعية من الشمال، والهند من الجنوب؟؟ أليس معني خروجها من حلف بغداد خضوعها للضغط الشيوعي، والضغط الهندي؟؟ وما يقال عن الباكستان يقال عن رصيفاتها: إيران، والعراق، وتركيا، على تفاوت في ذلك طفيف، ومن من الناس ينسي إعتداء روسيا عقب الحرب الأخيرة على المقاطعة الشمالية من إيران ثم لم تخرج منها إلا بعد تهديد الدول الغربية بإستخدام القوة ضدها؟؟) إنتهي ص 9 من نفس المصدر... وهكذا صدقت الأحداث ذلك التصور العميق، فمزقت الهند باكستان، بفصل بنقلاديش عنها، بمساعدة السوفيت، ثم أن باكستان، وإيران، والعراق، وتركيا اليوم مهددة بالغزو السوفيتي السافر... ومضي الأستاذ محمود، وهو يضع يده على جذور (حرب النفط) التي أخذت رحاها تدور البوم في منطقة الشرق الأوسط، وذلك من قبل عشرين عاما، في تصور واضح المعالم، إذ يقول عن غرض الشيوعية المباشر من مشكلة الشرق الأوسط: (ذلك الغرض هو إضعاف نفوذ الغرب في هذه المنطقة ذات الإستراتيجية الممتازة، وحرمانه من وقود السلم، ووقود الحرب الذي تطفح به آبارها، والإستحواذ على هذه المنطقة وعلى مواردها، تحت ستار الصداقة الجديدة، والحماية المزعومة، ولذلك يحرص الروس على إثارة القلاقل في هذه المنطقة ويأبون على نيرانها أن تنطفيء حتى يظل العرب في خوف دائم من الغرب) إنتهي.. هذا التقويم الثاقب لمشكلة الشرق الأوسط كان قبل عشرين عاما!! فهل أثبتت مجريات الأحداث غيره حتى اليوم؟؟ فما هي أبعاد هذه الظاهرة الغريبة في الإستقراء الصحيح الذي ينفذ إلى جوهر الأحداث، ليتخطي حواجز الزمان والمكان؟؟ إن الدلالة الوحيدة لذلك هي أن هذه الدعوة إنما تصدر في آرائها السياسية (الدينية) من مركزية واحدة، هي مركزية، التوحيد (و بالتوحيد يعرف كل شيئ).. وهي مركزية، إذ طوعت لهذه الدعوة أن تعرف الحقيقة الأزلية، طوعت لها أن تعرف مجريات الأحداث، ومراميها، التي تصدر من هذه الحقيقة.. فهل أنتم، أيها العرب والمسلمون، واجدون، في هذه الدعوة خلاصكم؟؟
خلاصة هذه الدعوة ان القرآن أصول وفروع.. قامت أصوله، وهي القرآن المكي، على الديمقراطية: (فذكر إنما أنت مذكر* لست عليهم بمسيطر)، وعلى الإشتراكية: (و يسألونك ماذا ينفقون، قل العفو)، وعلى المساواة بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات: (و لهن مثل الذي عليهن بالمعروف، وللرجال عليهن درجة).. هذا بينما قامت فروع القرآن، وهي القرآن المدني، (و هي متعلق الشريعة المعروفة عندنا بالشريعة الإسلامية الموروثة) على الوصاية، أو الشورى في السياسة: (و شاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله)، وعلى الرأسمالية الملطفة في المال: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم، وتزكيهم بها، وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم)، وعلى قوامة الرجال على النساء، في الإجتماع: (الرجال قوامون على النساء).. الآية..
وقد وقع النسخ على الأصول من الفروع، فجآءت الشريعة الإسلامية الموروثة حكيمة، وصالحة لوقتها، إذ كان المجتمع البشري قاصرا عن مستوي الحرية الفردية، والمسئولية الفردية، الذي تتطلع اليه بشرية اليوم، فأدخر الله تعالي لها هذا المستوي في هذه الأصول.. وحين نسخت الأصول في حق الأمة، إستمر عمل النبي الكريم، صلي الله عليه وسلم، بها... ونعني بذلك عمله في خاصة نفسه، وهو ما يعرف عندنا بالسنة... فالسنة، بذلك، فوق الشريعة، بما لا يقاس، إذ قامت الشريعة على الفروع بينما قامت السنة على الأصول.
وبعث الإسلام، بذلك، يقتضي تطوير التشريع من الفروع إلى الإصول.. وهو ما نعني بالمستوي العلمي من الإسلام حيث تتوفر أصول القرآن على الحقوق الأساسية للإنسان، وحيث يصير بها الإسلام (دين الفطرة) الذي يخاطب الفطرة البشرية، (و هي العقل والقلب)، من حيث هي بشرية بغض النظر عن الإختلافات العقيدية، والعنصرية، والجنسية، والإسلام بهذا المعني ليس دينا بالمعني المألوف للأديان، وإنما مرحلة العقيدة فيه مرحلة إنتقال إلى المرحلة العلمية منه.. هو بهذه الصورة جماع الأديان، هو نقطة إلتقاء جميع الأديان..
إن الإسلام لن يعود بدعوة الشيعة، ولا بدعوة الوهابية، ولا بدعوة الأخوان المسلمين، ولا بسائر الدعوات السلفية القائمة اليوم في العالم الإسلامي، وهي تسعي جميعا لتحكيم الشريعة الموروثة، من غير فهم لروح الأسلام، ولا لروح العصر، وإنما يعود بهذه الصورة العلمية التي يقدمها الأستاذ محمود محمد طه.. حيث يستطيع أن يجمع الإسلام بين الديمقراطية والإشتراكية في جهاز دولة واحد، مما عجزت عنه الفلسفات، والأنظمة المعاصرة، وفي طليعتها الماركسية، والنظام السوفيتي.. ويجد القاريء تفاصيل هذه الدعوة في كتب الأستاذ محمود محمد طه المستفيضة..
أما بالنسبة للسودان فالخطر الشيوعي عليه لا يقل عن أي بلد آخر.. وذلك لموقعه الإستراتيجي، من جهة، ولأهميته كمصدر للغذاء، وللطاقة، من جهة أخري.. والزحف السوفيتي الإستعماري، إنما يتحرك، أساسا، بفعل عدة عوامل، على رأسها بحثه عن مصادر الطاقة والغذاء!! ومما يزيد في الخطر الشيوعي على البلاد وقوعه اليوم بين فكي كماشة النفوذ السوفيتي في أثيوبيا، وليبيا!!
إن على شعبنا أن يعي، وعيا تاما، أبعاد التآمر الداخلي، والخارجي، الذي يستهدف تحويل السودان إلى منطقة نفوذ سوفيتية لإستكمال الحزام الشيوعي الممتد من عدن إلى أثيوبيا إلى موزمبيق، وأنجولا في إتجاه ليبيا.. فواجب الشعب السوداني هو العمل على إحكام تماسك جبهته الداخلية، في هذا الظرف العصيب، والإلتفاف حول نظامه الذي يمثل اليوم صمام الأمان، وعنصر الإستقرار، في منطقة مضطربة ملتهبة!! وعلى المعارضة السودانية، وبخاصة الحزب الشيوعي السوداني، أن تعلم أن أي تصعيد لمعارضتها لهذا النظام إنما يعد تفريطا في سيادة وحرية، وأمن البلاد!! مصلحة البلاد يجب أن تتقدم على المصلحة الحزبية، والمذهبية، وعلى كل مصلحة قطاعية!! وبالله السداد، وله العزة!!

الإخوان الجمهوريون
أم درمان ص ب 1151
تلفون 56912