إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

القرآن ومصطفى محمود والفهم العصرى

جهنم


أنت تقول من صفحة 87 أيضا: (أما جهنم فهي شيء فظيع.. لا هو بالحياة ولا هو بالموت. "ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ".. "فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة" ثم يشرح لنا أكثر "لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عبادي فاتقون" ها هو ذا يبين لنا حقيقة جديدة فيقول أنه يورد الألفاظ للتخويف).. فلعمري أن الألفاظ مراد بها إلى التخويف، ولكن ليس هذا قصاراها، وانما هي تصف واقعا في الحق، وهي النار.. والنار، نفسها، مراد بها الى التخويف.. والمراد من التخويف، في الحكمة، سوق العباد إلى الله، بإظهار افتقارهم إليه.. وأنت، حين تجعل الألفاظ للتخويف فقط، ينتهي بك الأمر إلى القول بان القرآن إنما يهول، ويبالغ، من غير ارتكاز على دقة في وصف الحقيقة، وبهذا لا يكون القرآن كتاب علم، كما هو واقع الأمر..
وأكثر من ذلك!! فإنك يخشى عليك أن تنساق إلى التقليل من شأن العذاب، وإلى إنكار العذاب.. فإنك، في صفحة 88، وفي صفحة 89، يجري على قلمك: (أن العذاب حق.. والثواب حق..
وهنا يعترض معترض..
ألا يتنافى مع رحمته ومع عظمته أن يعذب.. ويعذب من؟؟.. إنسانا مسكينا لا يساوي ذرة أو هباء في مملكة الله اللانهائية..
وهو اعتراض كان يشغلني دائما، وكان يصرفني دائما عن قبول فكرة العذاب وبالتالي عن القرآن وعن الدين كله: والسؤال يحتاج منا أن نتعمق معنى كلمة عذاب..
والله بالفعل لا يعذب.
إنما هو فقط يعدل.).. وهذا قول خطأ.. فإن الله يعذب، ولكن له حكمة وراء العذاب.. والسؤال لا يحتاج منا أن نتعمق معنى كلمة عذاب، وإنما يحتاج منا أن ننظر في الحكمة وراء العذاب.. إن قولك: (والله بالفعل لا يعذب إنما هو فقط يعدل)، ينبع من الرأي الخاطئ، وهو أن الإنسان مخير.. إن النار حق، والعذاب فيها حق – النار حق، كما ورد وصفها في القرآن، والعذاب فيها حق، كما ورد وصفه في القرآن حسا، ومعنى.. ومن ظن، كما ظننت، في صفحة 92: ("سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله" إن هذا الصغار هو الذي سيعذب ويحرق.. لأنه سيكون حسرة على صاحبه حينما يرى مكانته، ومكانة الآخرين، ومقدار ما خسر ومقدار ما كسبوا (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته)..
الله يعتبر الخزي في هذه الآية أشد من النار إيلاما.).. فهو واهم.. ويجب أن يكون واضحا، فإن العذاب الحسي، والعذاب المعنوي، مجموعان في النار..
إني أعلم انك لا تقول بنفي العذاب الحسي بصورة قاطعة، فقد قلت في صدر صفحة 88 عن التخويف: (ولكنه ليس تخويفا على غير أساس) ولكن اللبس في هذه العبارة قائم، ثم إنك لم تزد على أن قلت، في صفحة 94: (وهذا لا ينفي أن يكون العذاب المذكور حسيا، بل إنه من الممكن أن يكون معنويا وحسيا، في نفس الوقت)... وهذا القول لا يكفي.. فإن الإيمان واجب بظاهر القرآن، وعلى ما تعطيه ألفاظه، وشك الشاك، في وجود النار الحسية، والعذاب الحسي، كما جاء في ظاهر ألفاظ القرآن، قد يطعن في إيمانه..
وأنت تقول في صفحة 109: (أكاد أجزم بأن ألفاظ القرآن، بما فيها من جلجلة، وصلصلة، حينما تصف الجحيم إنما هي نذير حقيقي بعذاب فوق التصور سوف نعذبه لأنفسنا بأنفسنا عدلا وصدقا على رتبة استحقها كل منا بعمله.. وأكاد أضع يدي على الحقيقة.. لاريب فيها.. تعالى الله عن أن يعذبنا شهوة في عذاب.. وهو الحق العدل الحكم.)..
وهذا قول يؤكد أنك تذهب إلى العذاب المعنوي، وتنكر العذاب الحسي.. (نعذبه لأنفسنا بأنفسنا).. وكأنك تسوق عبارة (تعالى الله عن أن يعذبنا شهوة في عذاب.. وهو الحق العدل الحكم) لتدلل بها على مذهبك في العذاب المعنوي، لأنك قد قلت من قبل، في صفحة 89: (والسؤال يحتاج منا أن نتعمق معنى كلمة عذاب) وواضح، بالطبع، أن عبارة: (تعالى الله عن أن يعذبنا شهوة في عذاب)، إنما تجد الإجابة عليها في البحث، وراء حكمة العذاب، لا في معنى العذاب.. فإن العذاب حسي، ومعنوي.. والإيمان بالجانب الحسي منه، أوجب، من الإيمان بالجانب المعنوي.. لأن الجانب الحسي قد جاء به ظاهر القرآن.. والإيمان بظاهر القرآن، وبما جاء به، وعلى وفق ما يأتيه الظاهر، هو أول مداخلنا على مراتب الدين.. وعلى كل حسن ظنك بسعة الرحمة الإلهية في هذا الفصل، لم أظفر لك برأي يشير إلى أن العذاب في النار مرحلي، وأن النار ستنتهي، وأن من يدخلونها يصيرون من رحمة (الرحمن)، وهي الرحمة المشوبة بالعذاب، إلى رحمة (الرحيم)، وهي الرحمة الخالصة من العذاب.. وتجب لهم يومئذ الجنة.. يجري لهم هذا بصرف النظر عن أعمالهم في الحياة الدنيا.. بل قد ورد منك عن الجنة ما يدل على ضعف علمك بالجنة وبالنار.. ورد ذلك في صفحة 96: (وأتصور أن أعلى الناس قدرا في الجنة هم الذين سيرتفعون عن متع الحواس وجنة الحواس ويختار لهم الرحمن درجة الحياة الروحية الخالصة إلى جواره في سدرة المنتهى حيث لا تكون اللذة هي لذة طعام ولا لذة شراب ولا لذة حور عين وإنما لذة النظر إلى الله في كماله ولذة تأمل الحق والجمال وصورة الخير المطلق إنها لذة الجالس على يمين الله "في مقعد صدق عند مليك مقتدر"). والذي يجب أن يتقرر، في ختام هذا الفصل، هو أن سعة الرحمة الإلهية: "ورحمتي وسعت كل شئ"، إنما تعني: أن كل مخلوق مرحوم.. وأن كل من دخل النار، بما في ذلك إبليس، لايعذب انتقاما، تعالى الله عن ذلك، وإنما يعذب رحمة، وحكمة.. والحكمة تتجه إلى أن تجعل العذاب فرصة للتعلم.. والعلم، ههنا، هو معرفة الله، ومعرفة الله تطفئ النار الحسية، والنار المعنوية، وتتداعى بصاحبها إلى الجنة.. والخلق، في الخروج من النار، يتفاوتون في الميقات، حتى إذا خرج آخر من يخرج، وهو إبليس، أكلت النار بعضها، وفنيت، وانتهت، وصار الأمر كله إلى الجنة.. والجنة تتفاوت بأصحابها، "هم درجات عند الله.. والله بصير بما يعملون".. وتفاوت الدرجات في الجنة هو الذي يحكي العذاب المعنوي، الذي أسهبت أنت فيه.. ولكن مع وجود أهل النار في النار، لا يكاد يسمى عذابا.. وما يمكن أن يقال فيه هو أن جنة أناس، نار آخرين.. والقاعدة العرفانية تقول: (حسنات الأبرار سيئات المقربين).. ثم ان الجنة تنتهي أيضا.. فإذا ما انتهت النار في الأبد، فإن الجنة تنتهي فيما بعد الأبد، وذلك لمكان قربها من الأصل، إذا ما قورنت بالنار.. وذلك الأصل هو الخير المطلق ـ هو الله- ولما كان السير إلى الله إنما هو في السرمد، ولما كان الإنتهاء إليه إنما هو في غير مكان ولا زمان، فإن هذه الحقيقة هي التي تقرر نهاية الجنة.. والآية التي أوردتها أنت فيما اقتبست لك آنفا ترد هكذا: "إن المتقين في جنات، ونهر * في مقعد صدق، عند مليك مقتدر".. والتقوى درجات، أدناها إتقاء محارم الله.. قال تعالى: "تلك حدود الله، فلا تقربوها.. كذلك يبين الله آياته للناس، لعلهم يتقون" أدناها الإئتمار بالأوامر، والإنتهاء عن النواهي.. وأعلاها الإستقامة في السير خلف الله.. وفي هذه جاء قوله تعالى: "ويحذركم الله نفسه.. وإلى الله المصير".. فهو تبارك، وتعالى، بعد أن حذرنا حرامه، وحلاله.. وأمره، ونهيه، انتهى بأن يحذرنا نفسه.. وفي مقابل درجات التقوى درجات الجنات.. قوله، من الآيتين السابقتين، "إن المتقين"، في أدنى درجات التقوى، "في جنات"، يعني في أدنى درجات الجنات.. فإذا زادوا في التقوى، فقد ارتفعوا في الدرجات، فجاءت، "ونهر".. فإذا زادوا، ارتفعوا، فجاءت "في مقعد صدق".. فإذا جاءوا إلى قمة التقوى، فصاروا عند الله، حيث لا حيث، فقد خرجوا، أو كادوا يخرجون، عن المكان والزمان، وجاءت، ههنا، عبارة: "عند مليك مقتدر"، فإن هذه هي مرتبة هؤلاء.. و"عند)"، هنا، ليست للزمان، ولا للمكان، إلا في الفينة بعد الفينة.. ههنا تنتهي الجنة.. بمعنى أنها مكان، وزمان..
هاتان الآيتان، ترسمان التدرج، الذي، في مضماره، تنتهي الجنة.. "إن المتقين في جنات"، هذه درجة، وتشتمل على درجات.. "ونهر" هذه درجة، وتشتمل على درجات.. "في مقعد صدق"، هذه درجة، وتشتمل على درجات.. "عند مليك مقتدر" هذه درجة، لها بداية، وليست لها نهاية، لأن نهايتها في الإطلاق.. أين هذا القول: من قولك الذي اقتبسناه آنفا: (ويختار لهم الرحمن درجة الحياة الروحية الخالصة إلى جواره في سدرة المنتهى)؟؟ إن سدرة المنتهى قريبة‍‍!! قريبة‍‍!!
بهذا ننهي مراجعتنا لفصلك هذا.. وعند الله نلتمس حسن القبول..