إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

عقيدة المسلمين اليوم!!

وهم التعدّد:


ومن الاوهام الشائعة عند المسلمين اليوم انّ الوجود متعدّد، أو هو ثنائية، تتمثل في وجود خالق، ومخلوق متغايرين .. وهذا التصور الخاطئ، هو من دقائق فساد العقيدة، اذ انّه يجعل للخلق وجوداً بازاء وجود الله .. ومقتضى التوحيد هو انّه ليس في الوجود الا الله .. امّا المخلوقات فهي مظاهر قدرته – هي قدرته مجسّدة – وقدرته ليست غيره، وانّما هي صفة قائمة بذاته،هي، عند التناهي، ليست غير الذات .. فالمخلوقات هي الله في تنزّل، ولكن الله ليس هو المخلوقات .. المخلوقات ليست موجودة مع الله، وانّما هي موجودة به، فوجودها مستمد من وجوده تعالى في كل لحظة، وكل حين بلا استغناء، ولا غيريه .. فهي دائمة الافتقار الى الله .. والى كون المخلوقات هي الله يشير الحديث النبوي: (لا تسبّوا الدهر، فانّ الدهر هو الله). فالوجود وحدة، وهو كله موجود في كل جزء منه .. وما التعدد الا مظهر الحقيقة الواحدة .. والسبب فيه وهم عقولنا .. والحقيقة التي وراء مظهرالتعدّد هذا انّما هي وحدة الوجود .. وليس في الوجود كائن، وانّما كل شئ فيه مستمر التكوين – ما خلا الله .. والى ذلك الاشارة بقوله تعالى: (ولا تدع مع الله إله آخر، لا إله الا هو، كل شئ هالك الا وجهه، له الحكم واليه ترجعون ..) .. وقوله: (كلّ من عليها فان * ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والاكرام) .. فوجود الخلق ليس وجودا ثابتاً، وانّما هو في حالة فناء مستمر .. والفناء هو تقلّب في الصور، يطلب فيه المخلوق ان يكون خالداً في الصورة كما هو خالد في الجوهر، وهيهات!! فانّ ذلك حظ الخالق وحده، واليه الاشارة بقوله تعالى: (ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والاكرام) .. فالوجه الذي يبقى البقاء المطلق، هو الذات في صرافتها .. امّا الوجه الذي يبقى البقاء النسبي فهو الوجه الذي يلي الله من المخلوقات .. فالوجود كلّه في حركة صيرورة مستمرة يطلب الذات، في كل حين، ولن ينفك .. والى ذلك الاشارة بقوله تعالى: (يسأله من في السموات والارض كلّ يوم هو في شأن) .. فيسأله هنا تعني يطلبه بالحاجة اليه، وهي حاجة سرمدية .. و (كل يوم هو في شأن) شأنه هو ابداء ذاته لخلقه ليعرفوه .. وابداء الذات هو تنزّلها من الاطلاق الى القيد، او قل الى الاسم، وهو امر يتم في كل لحظة، واللّحظة هنا هي وحدة (زمنية) التجلي، وهي ادق صور الزمن – وهي لحظة بروز المحدود من المطلق .. وحاجة الخلق الى الله هي، من الناحية العملية، اسماء الله، وهي اسماء لا يحصيها، لفرط كثرتها، الا الله .. فهو المسمى بالاسامي كلها، وهو المنزه عن الاسامي كلّها .. فكلّ محتاج – وكل موجود محتاج – انّما يسأله تعالى باسمه الذي يناسب حاجته .. فالمريض مثلاً يطلبه باسمه الشافي، والجوعان يطلبه باسمه المشبع، والمهزوم يطلبه باسمه الناصر، وهكذا الى ما لا نهاية، فان حاجة الخلق الى الله حاجة غير متناهية وهي حاجة منها ما هو مشعور به، ومنها ما هو غير مشعور به ..

وهم تعدّد الاسباب:


انّ من دقائق الشرك الوقوف مع الاسباب الظاهرة والمتعددة الاعتقاد بأنها تفعل من ذاتها، حتى انّه إذا توفّر السبب ننتظر النتيجة بصورة حتمية، وإذا لم يتوفر السبب الظاهري ننتظر عدم النتيجة بصورة حتمية .. فاذا وجدت النار مثلاً، فلابد ان يتم الاحراق حتماً مقضياً، لأن الاحراق صفة من صفات النار الملازمة لها .. هذا الاعتقاد هو وهم شائع عند المسلمين، وهو الذي ضلل الكثيرين منهم في حديث النخيل كما أشرنا عند حديثنا عن الصادق والترابي .. والامر الذي عليه التوحيد هو ان السبب وراء جميع الاسباب هو سبب وأحد، هو الارادة الالهية، فهي، في الحقيقة، وحدها التي تفعل في الوجود .. فلكأن السببية في الإسلام تقع على مستويين: مستوى الشريعة، وهو مستوى الاسباب الظاهرة، وهو يقوم على اعتبار انّ الله رتّب الاسباب ترتيباً حكيماً يتأدى به الانسان الى تدبير امر معاشه بالاجتهاد المشروع .. فالله اوجد التربة الصالحة للزراعة، واوجد البذرة الصالحة للنمو، وهو الذي انزل الماء على الارض في موسم الانبات، وهيأ المناخ .. وهذه كلها اسباب ضرورية، وبقيت اسباب اخرى على الانسان الاخذ بها ، وهي بذر البذور في التربة، وتعهدها حتى تستحصد .. فبأسباب من الله، وأسباب يظن الانسان انّها منه، يتم الانتاج .. ففي ظاهر الامر هنالك اسباب تؤدي الى اسباب، وهذا ما عليه الشريعة .. ولكن، في حقيقة الدين، ليس هناك سبب يؤدي الى سبب، اطلاقاً، وانما الاسباب سلسلة من استعداد المحل بالقابلية لتلقي الحركة المقبلة عن الله .. فلكأن امر الاسباب الظاهرية كلّه حكمة اختفى الله وراءها، الاّ عن العقول المرتاضة، والمؤدبة بأدب التوحيد .. ففي قصة النار التي اعدّها النمروذ لسيدنا ابراهيم، استعد المحل باضرام النار التي القي فيها ابراهيم، ولكن لمّا لم يأت الاذن الالهي بالاحراق، لم تحرق النار ابراهيم، وانّما كانت برداً وسلاماً عليه كما امرت ..
فمقتضى التوحيد هو ان نأخذ بالاسباب باعتدال، دون ان نقف معها، وانّما نظرنا دائماً الى مسبب الاسباب، لا نغيب عنه لحظة .. وهذا هو مستوى الاستقامة، او مرحلة الاستواء، التي يتم فيها الجمع بين الشريعة والحقيقة، دون افراط، او تفريط .. وهي مرحلة يحتاج تحقيقها الى رياضة، ومران طويل ، في امر التوكل .. وهذه هي القيمة التي رمى اليها الرسول الكريم من حديث النخيل الذي أشكل فهمه على الترابي، وعلى الصادق، وعلى كثيرين غيرهم، ممّن يتطلّعون الى فهم حقيقة الدين عن طريق العقول غير المؤدبة بأدب القرآن، في شريعته، وفي حقيقته .. وهيهات !! هيهات !!