إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

عقيدة المسلمين اليوم!!

تصحيح العقيدة في النبي


انّ العقيدة في النبي تقتضي تصديقه، والثقة به، وتقديسه وتوقيره، ومحبّته، والتسليم له، والادب معه .. وكل ذلك لا يتم عند كل الناس على مستوى وأحد، وانّما يختلف من فرد، لآخر، حسب توفيق الله للأفراد، وحسب معرفتهم للنبي، ومعرفتهم لمكانته ولفضله علينا .. فالعقيدة لا تكون بلا معرفة .. والعقيدة في النبي تتفاوت مستوياتها بتفاوت معرفته .. ومعرفته صلّى الله عليه وسلّم، هي معرفة غير متناهية، فهو قد قال: (ما عرفني غير ربّي) .. وقد رأينا كيف انّ الايمان بالنبي هو اساس العقيدة .. ولذلك جعل بيننا وبين الله (لا إله الا الله، محمد رسول الله) .. فلا سبيل الى معرفة الله، والى الادب معه، الا سبيل الايمان بالنبي، والعمل وفق منهاجه، ومراعاة الادب، معه .. ولذلك فان تصحيح العقيدة في النبي هو الاساس العملي لتصحيح العقيدة في جميع المستويات الاخرى .. فلبعث الإسلام لابد من بعث الثقة في النبي، وتجديد الايمان به، في المستوى الذي يليق به، وبحاجة العصر اليه، والى منهاجه .. واول ما ينبغي تصحيحه بالنسبة لعقيدة المسلمين في النبي، هذا الفصل بينه وبين منهاجه .. فالمسلمون اليوم لا يربطون ربطاً وثيقاً بين النبي ومنهاجه في العمل التعبّدي والسلوكي .. فحتى العاملين من المسلمين اليوم، فانّهم لا يسعون الى خلق صلة بينهم، وبين النبي .. وهذا امر ينطوي على الكثير من الجحود، والشعور بالاستغناء عن النبي، وهو امر يجعل العمل بالمنهاج لا قيمة له، ولا جدوى منه .. وهذا الامر يصل، عند جماعة الوهابية، الى درجة الفظاظة في سوء الادب مع النبي، فهم يصلون الى حد المجاهرة بأنّ النبي قد ادّى رسالته، ومضى الى ربّه، وانّه لا يجوز التوسّل به، وانّما الوسيلة هي العمل !! وجلية الامر هي انّ الوسيلة الى الله هو النبي، ومنهاج العمل انّما يستمد قيمته من قيمة صاحبه .. قيمة العمل بالمنهاج الديني هي في ان يؤدى هذا العمل كطاعة للنبي، تقوم على الثقة به، وتؤدي الى طاعة الله .. فطاعة النبي من طاعة الله (من يطع الرسول فقد اطاع الله.) .. او (ان الذين يبايعونك انّما يبايعون الله، يد الله فوق ايديهم ..) .. فالقيمة ليست لمجرّد العمل، وانّما هي للعمل مرتبطاً بالنية، والعقيدة الصالحة، التي يعبّر عنها العمل ..فالعمل الذي لا تصحبه النية الصالحة، والعقيدة الصالحة، عمل باطل، لا طائل منه .. فالظن بان الوسيلة هي العمل وحده، دون ان يكون مرتبطاً بالنبي، ظن فاسد، ليس له سند من الدين، ولا من العقل .. فالقرآن يقول في امر الوسيلة: (يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله، وابتغوا اليه الوسيلة) .. فالايمان يتضمن العقيدة الصالحة في النبي، وكذلك التقوى، فهي لا تقوم الا على عقيدة صالحة في النبي .. والآية لم تكتف رغم ذلك بالعمل الصالح المتمثل في التقوى، وانّما ذهبت بعد ذكر الايمان، والتقوى الى المطالبة بابتغاء الوسيلة: (وابتغوا اليه الوسيلة) ممّا يؤكد انّ الوسيلة ليست هي مجرّد العمل .. وعن ارتباط الايمان بالتسليم للنبي يقول تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ًممّا قضيت ويسلّموا تسليماً !!) .. هذا هو شرط الايمان (يحكّموك فيما شجر بينهم) من امور الدنيا وامور الدين .. (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً ممّا قضيت ويسلّموا تسليماً ..) .. فنحن لا نسلّم لله، الا إذا سلّمنا للنبي .. ولذلك فانّ عدم الادب مع النبي يحبط العمل، وهذا ممّا يؤكد، تأكيداً قاطعاً، لا لبس فيه، انّ القيمة، في المكان الاول للنبي، لا للعمل بمعزل عنه .. وفي ذلك يقول تعالى: (يأيها الذين آمنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي، ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، ان تحبط اعمالكم وأنتم لا تشعرون !!) .. فمجرّد رفع الصوت فوق صوت النبي هو من سوء الادب الذي يحبط العمل .. فهل بعد ذلك مجال للشك في انّ القيمة الاساسية انّما هي للنبي؟! وانّ العمل انّما يستمد قيمته من انه طاعة للنبي، تقود الى طاعة الله؟!

ضرورة تقديس النبي وتوقيره:


من كل ما تقدّم يتضح انّ تقديس النبي وتوقيره، ومحبته، والادب معه هو الشرط الاساسي للانتفاع بالعمل الديني .. فتقليد النبي هو الوسيلة الموسّلة، والموصّلة، الى الله، ولكن التقليد لا ينتفع به الاّ إذا كان صدر المقلّد ينطوي على التقديس والتوقير للنبي، وعن ذلك جاء في كتابنا: (طريق محمد) ما نصّه (وأيسر ما يقوم عليه التقليد النافع ان يكون صدر المقلّد منطوياً على قدر كبير من التقديس، والتوقير ، للنبي، وهذا ما من اجله اخذ الله الاصحاب بالادب معه، وامرهم بالصلاة عليه فقال عزّ من قائل: (انّ الله وملائكته، يصلّون على النبي، يأيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما) .. وعن ارتباط محبّة النبي بالايمان، يقول المعصوم: (فوالذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى اكون احبّ اليه من والده وولده !!) .. ويقول: (احبّوني لحب الله لي، واحبّوا آل بيتي لحبّي لهم) ..
وحالة التقديس ، والتوقير، والمحبة، للنبي تكتسب بالمعرفة به، وبفضله علينا .. فما من خير الاّ والنبي بابه، ووسيلته .. فالخير كلّ الخير نزل في القرآن، وحياة النبي هي مفتاح مغاليق القرآن .. فمنهاجه هو خلاصة تجربة الانبياء من قبله، فهو أكمل منهاج نزل من السماء .. ولذلك ختمت به النبوة .. وهو قد بعث رحمة للعالمين: (وما ارسلناك الاّ رحمة للعالمين) .. فهو الرؤوف الرحيم: (لقد جاءكم رسول من انفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم ..) .. فمجّرد بعثه، تمّ به افتتاح دورة جديدة من دورات الوجود، انتهت فيها العديد من صور العذاب السابقة، والى ذلك الاشارة بقوله تعالى: (وما كان الله ليعذّبهم وانت فيهم، وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون) ومن كمالات منهجه، صلّى الله عليه وسلّم، انّه أكثر مناهج العمل تيسيراً، وأكثرها مقدرة على تحقيق الكمالات البشرية، وهو منهاج مؤمّن دائماً، والاجور فيه مضاعفة بالبركة المفاضة من الله، ومن النبي، فالحسنات فيه مضاعفة .. وممّا يزيد من سرعة الترقي بالعمل وفق منهاج النبي – منهاج السنّة – انّ العمل فيه يقوم على الفكر .. وقد قال المعصوم (تفكّر ساعة خير من عبادة سبعين سنة ..) .. وقال: (فضل العالم على العابد كفضلي على الرجل من سائر امّتى !!).. والخير الذي يصلنا من النبي، هو خير متصل، في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة .. فهو في برزخه مصدر المدد لجميع الولايات على الارض .. وهو قد قال: (حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم !!) .. فهو في حياته ، وفي مماته، يستغفر لنا،. وفي ذلك يقول تعالى: (وما ارسلنا من رسول الا ليطاع باذن الله .. ولو انّهم ،اذ ظلموا أنفسهم، جاءوك فاستغفروا الله، واستغفر لهم الرسول، لوجدوا الله توّاباً رحيماً) .. ثم هو في الآخرة، له الشفاعة، وقد ورد عنه: (خيّرت بين ان يدخل نصف امّتي الجنّة، وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة لأنها اعم، اترونها للمتقين؟؟ لا !! ولكنها للمذنبين، الخطّائين) .. ومن كل ذلك يتضح انّه ما من خير، أو كمال، في الحياة الدنيا، أو في البرزخ، أو في الآخرة، الا والنبي بابه، ووسيلته ..

معرفة النبي:


قلنا انّ مستويات العقيدة في النبي، مرتبطة بمستويات المعرفة به .. والمسلمون اليوم، على أحسن احوالهم، لا يعرفون عن النبي الا مستوى الرسالة، وهو مستوى تنزّله لطاقة الناس، وحاجتهم، في القرن السابع الميلادي .. وحتى هذا المستوى قد نصل عنه المسلمون اليوم .. ومن المعرفة بالنبي المعينة على نمو الاعتقاد فيه، والادب معه، المعرفة بانه صاحب ثلاثة مقامات هي .. مقام النبوة في الوسط، ومن اسفله الرسالة، ومن اعلاه الولاية .. ومقام النبوة محجوب بمقام الرسالة .. ومقام الولاية محجوب بمقام النبوة .. وقد آن الآوان لرفع هذه الحجب .. والى هذه المقامات الثلاثة اشار النبي بقوله في حديث المعراج: (سألني ربّي يا محمد اتدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: انت ربّي اعلم .. فوضع يده على كتفّي، فوجدت بردها بين ثديّي، فأورثني علم الاولين والآخرين .. وعلّمني علوماً شتى: فعلماً اخذ عليّ كتمانه، اذ علم انّه لا يقدر على حمله غيري، وعلماً خيّرني فيه، وعلماً أمرني بتبليغه الى العام، والخاص من امّتي، وهي الانس والجن ..) .. فالعلم الذي امر بتبليغه، هو علم الرسالة، وهي تشمل القرآن المقروء بين دفّتي المصحف، وتشمل تبيين هذا القرآن في التشريع، في مستوى حاجة الامّة، ومستوى طاقتها، وفي التفسير في مستوى طاقة الامّة .. والعلم الذي خيّر في تبليغه .. يقع في حيز النبوة .. والعلم الذي نهي عن تبليغه هو علم الولاية .. فالنبي في ولايته أكبر منه في نبوته .. فهو في النبوة يتلقى من الله بواسطة جبريل، في حين انّه يتلقى في الولاية من الله كفاحاً .. ومقام ولاية النبي هو مقام: (ما زاغ البصر وما طغى)، الذي قامه في المعراج، بعد ان تخلّف عنه جبريل، وهو المقام المحمود الذي حققه النبي في الارض بنزع الموت، ونزل به الى البرزخ .. وعن مقام ولايته قال النبي: (لي ساعة مع ربّي لا يسعني فيها ملك مقرّب ولا نبي مرسل ..) ..

النبي حاضر:


ومن فساد العقيدة عند المسلمين اليوم، الاعتقاد بأن النبي بالتحاقه بالرفيق الاعلى، قد أصبح غائباً .. فهم يتعاملون معه على هذا الاساس، اساس انّه غائب، فلا يتوخّون خلق الصلة به .. وهذه غفلة، وفساد عقيدة، ليس معه مجال للنمو الروحي .. فالنبي حاضر، وانّما نحن الغافلون عنه .. فالانتقال الى البرزخ، في حقّه هو، زيادة في الكمال، وفي القرب من الله .. وهو قد قال عن حضرته: (انا جليس من صلّى علّي!!) .. وقال: (من رآني في المنام فقد رآني حقاً، فان الشيطان لا يتمثل بي!!) .. وقال ايضاً: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي!!) .. فرؤية النبي حق .. والرؤية الحقيقية له، انّما هي المعرفة به، وبمقامه .. هذه هي الرؤية الأكمل ..
فمن سوء الادب مع النبي التعامل معه كغائب .. والحضور مع النبي حضور عقل وقلب .. وبداية هذا الحضور ان نتمثله في كل اعمالنا، في العبادة، والمعاملة، فنرى كيف كان يعمل، ثم نقلّده، بوعي، وباتقان وفي تسليم، ومحبّة، وثقة .. ومن الحضور مع النبي ايضاً، ان نصلّي عليه، الصلاة اللّفظية كلّما ذكر اسمه، ونفعل ذلك ونحن نستشعر مكانته وقدره، ونستشعر حضرته، في خشوع، وتجلّة ..

السنة هي عمل النبي في خاصّة نفسه:


ومن كمال العقيدة في النبي، العمل بمنهاجه – منهاج السنّة – دون زيادة، او نقصان .. فكلتا الزيادة والنقصان ينطوي على اتهام له، صلّى الله عليه وسلّم .. فوقتنا الحاضر هو وقت السنّة التي لن ينبعث الإسلام الا ببعثها .. وقد قال المعصوم: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً، كما بدأ، فطوبى للغرباء !! قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟؟ قال: الذين يحيون سنّتي بعد اندثارها!!) .. وقد اندثرت السنّة اليوم عند المسلمين، اندثرت في الفهم، وفي العمل، فهم يعرفّون السنّة بانها عمل النبي، وقوله، واقراره، وهذا هو التعريف الشائع للسنّة عند المسلمين اليوم .. وهو تعريف خاطئ، ضلّل الناس كثيراً، وبعد بهم عن الدين .. فاقرار النبي كلّه شريعة .. وقوله، بعضه يلحق بالسنّة، وبعضه يلحق بالشريعة .. فقوله الذي يدل على حاله هو لاحق بالسنّة .. وقوله الذي خاطب به الامّة على قدر طاقتها، وحاجتها، هو شريعة .. فسنّة النبي هي عمله في خاصة نفسه .. هي طريقة، والطريقة هي شريعة وزيادة .. هذا بالنسبة للخطأ في فهم السنّة .. امّا بالنسبة للعمل فانّ المسلمين اليوم لا يقلّدون المعصوم باتقان، فهم امّا مكتفون بالعمل الشرعي في العبادة، وهو دون السنّة، ودون العصر .. او هم يضيفون للسنّة ما ليس منها، من اشكال العبادة، وصور البدع .. والعمل في الزيادة على السنّة، او عمل البدع، ينطوي على ادعاء، بأنّ هنالك مجالاً من مجالات الخير فات على النبي، وأدركه صاحب الزيادة، او صاحب البدعة، وهذا يذهب بركة العمل .. فالوقت الحاضر هو وقت السنّة بلا زيادة او نقصان ..
وبعد، هذه خطوط عريضة عن تصحيح العقيدة في النبي، وهي، على ما هي عليه من التعميم، كافية لوضع السالك الجاد في الاتجاه الصحيح .. ثم عن طريق العمل في تقليد النبي المعصوم وعلى ضوء ما ذكرناه، تترسّخ العقيدة، وتنمو، وتؤتى اكلها من الثمار المرجوة، من المعرفة والسلوك .. وللمزيد من التفاصيل، ولكي تكتمل الصورة، فانّنا نحيل القارئ الكريم الى كتبنا: (طريق محمد) .. و (تعلّموا كيف تصلّون) .. و (ادب السالك في طريق محمد) ..