إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

عقيدة المسلمين اليوم!!

تصحيح الاعتقاد في القرآن



جبريل لا يأتي بالقرآن من الذات:


انّ عقيدة المسلمين اليوم في القرآن، تحتاج الى تصحيح كثير فهم مثلاً، يعتقدون انّ جبريل يأتي بالقرآن من لدن الذات ،وهذا يتضمّن ان جبريل يلاقي الذات، وهذا خطأ كبير .. فجبريل لا يلاقي الذات الالهية، لأنه لا ذات له، ولذلك وقف في المعراج عند (قاب قوسين) وعندما قال له النبي: (تقدّم، أهذا مقام يترك فيه الخليل خليله؟) قال: (هذا مقامي، ولو تقدمت خطوة لاحترقت) ثم ذهب النبي لملاقاة ربّه وحده .. ومن هنا يتضح انّ المقام الذي يأتي منه جبريل بالقرآن هو دون المقام الذي بلغه النبي في المعراج .. وقد ورد في الحديث انّ النبي سأل جبريل من اين يأتي بالقرآن، فقال:- من قبّة تحت ساق العرش .. وقد قال المعصوم: (انّ الله احتجب عن البصائر كما احتجب عن الابصار، وان الملأ الاعلى ليطلبونه كما تطلبونه) .. فالقرآن بين دفّتي المصحف هو كلام الله – هو صورة لفظية لهذا الكلام .. وصفة الكلام، هي الصفة السابعة من الصفات النفسية السبع وهي: الحياة، والعلم، والارادة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام .. فالقرآن هو تنزّل في مراتب هذه الصفات، وهو يحكي في كل جزئية من جزئياته هذه الصفات السبع .. القرآن يحكي تنزل الله من صرافة ذاته الى مرتبة الفعل .. والى تنزلات القرآن تشير الآية الكريمة : (وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث، ونزّلناه تنزيلا) .. يعني تنزيلاً من بعد تنزيل .. وقد كانت النزلة الاولى الى مقام الاسم (الله)، حيث نزل القرآن جملة .. ثم توالت التنزّلات الاخرى .. وقد ذكرنا ان الله تنزّل من صرافة الذات ليعرف، فتنزّلات القرآن الغرض منها التعريف بالله والى ذلك الاشارة بقوله تعالى: (حم * والكتاب المبين * انّا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون! * وانه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) .. فقد تنزّل القرآن في قوالب اللّغة العربية، لعلة ان ندرك نحن، الذين ندرك عن طريق اللّغة (انّا جعلناه قرآناً عربياً لعلّكم تعقلون) .. امّا حقيقةالقرآن، فهي فوق اللّغة، والله تعالى، من حيث ذاته لا يتكلم بجارحة، وانّما يتكلم بذاته .. وكلامه في حقيقته هو خلق .. فلفهم القرآن، وللتخلق به، لابد من فهم حقيقته، وفهم تنزّلاته ..

القرآن لا يكمل تبيينه:


انّ عدم فهم حقيقة القرآن، وعدم فهم تنزّلاته، جعل المسلمين اليوم يقعون في خطأ آخر كبير، هو اعتقادهم ان تبيين القرآن قد كمل، فهم لذلك لا ينتظرون امراً مستأنفاً، في فهم القرآن وهذا ممّا حرم المسلمين من الفهم عن القرآن .. وهم عندما يقرأون قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم، واتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا..)، يتوهمون ان الإسلام قد كمل انزاله وكمل تبيينه .. وممّا مدّ لهم في هذا الامر، خطأ فهمهم للآية الكريمة: (وأنزلنا اليك الذكر، لتبين للناس ما نزّل إليهم .. ولعلهم يتفكرون ..) .. فهم قد فهموا (انزل) و (نزّل) بمعنى وأحد فاعتقدوا ان النبي مأمور بتبيين كل القرآن، فوقعوا في الخطأ الكبير .. وجلية الامر، ان بيان القرآن لم يكمل، وهو لن يكمل .. فالقرآن، في حقيقته، هو علم الله المطلق، الذي تمتنع الاحاطة به، حتى ولا في السرمد .. والى ذلك الاشارة بقوله تعالى: (قل لو انّ ما في الارض من شجرة اقلام، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر، ما نفدت كلمات الله) .. وقوله: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربّي لنفد البحر قبل ان تنفد كلمات ربّي، ولو جئنا بمثله مددا) .. والنبي، على كماله، لا يحيط بفهم القرآن، وهو قد قيل له: (فتعالى الله الملك الحق، ولا تعجل بالقرآن، من قبل ان يقضى اليك وحيه، وقل ربي زدني علماً * ولقد عهدنا الى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزماً) .. وكل علم انّما هو من القرآن، فالقرآن علم الله المطلق .. والنبي لا يحيط به علما، وما ينبغي له، وما يستطيع وليس هو مكلّفاً اذن بأن يبين كل القرآن، وانّما هو مكلف ان يبين للناس ما يطيقون .. ولذلك فان معنى الآية: (وأنزلنا اليك الذكر) يعني القرآن كله .. و (لتبين للناس ما نزّل إليهم) يعني لتبين لهم ما نزّل الى مستواهم من القرآن .. وقد ورد عن النبي قوله: (نحن معاشر الانبياء امرنا ان نخاطب الناس على قدر عقولهم) .. فالمستوى الذي تقتضيه الرسالة من تبيين القرآن هو تبيينه في مستوى الشريعة، وهو المستوى الذي يناسب طاقة الناس وحاجتهم .. وقد بيّن النبي القرآن بالتفسير وبالتشريع،في هذا المستوى .. امّا تبيين القرآن فوق هذا المستوى فهو ليس على النبي، وانّما هو على الله، وفي ذلك يقول تعالى: (لا تحرّك به لسانك لتعجل به * انّ علينا جمعه وقرآنه * فاذا قرآنه فاتبع قرآنه * ثم انّ علينا بيانه) .. (ثم انّ علينا بيانه)، تعني انّ بيانه على الله .. و (ثمّ) تفيد التراخي في الزمن، فبيانه انّما يتم في الزمن، وهو بيان لا يتم الفراغ منه .. والى كون بيان القرآن على الله، يشير ايضاً الحديث الشريف: (انّما انا قاسم، والله يعطي، ومن يرد به الله خيراً يفقهه في الدين). فهذا الظن الفاسد بأن القرآن قد كمل تبيينه، هو من أكبر اسباب حرمان المسلمين من فهم اسرار القرآن، والتخلق بأخلاقه.

القرآن لا يفهم عن طريق اللّغة العربية وحدها:


ومن فساد العقيدة، الظن بأن القرآن يمكن ان يفهم عن طريق اللّغة العربية وحدها، وهو ظّن شائع .. والمسلمون اليوم بصورة عامة، لا يشترطون لفهم القرآن، أكثر من معرفة اللّغة العربية، ومعرفة بعض ملابسات نزول القرآن، مثل اسباب النزول والناسخ والمنسوخ .. الى الآخر. وهذا الظن الفاسد يجعل القرآن ليس أكثر من كتاب فلسفة، تدرك معانيه عن طريق الاطلاع، ويمكن للعقل ان يحيط به .. ومن أخطر النتائج التي ترتبت على هذا الظن، التعويل، والاعتماد، على الفهم النظري، وعدم الاهتمام بالعمل في العبادة والمعاملة .. وهذا ما عليه حال الفقهاء، الامر الذي ابعد المسلمين كثيراً عن فهم دينهم، والتخلّق بقيمه .. فالظن بانّ القرآن يمكن ان يفهم عن طريق اللّغة العربية وحدها، ظن يجرِّد الإسلام من اهم خصائص منهجه في المعرفة، وهي خاصية ارتباط العلم بالعمل، ويهزم بذلك قضية التربية من الاساس .. فاللّغة العربية شرط من شروط فهم القرآن ولا ريب، ولكنها وحدها لا تكفي .. فكثير من كفار قريش، مثلاً، قد كانوا من اعرف الناس باللّغة العربية، ورغم ذلك نفى عنهم القرآن امكانية فهمه، قال تعالى: (وجعلنا على قلوبهم اكنّة ان يفقهوه، وفي آذانهم وقراً) .. فالقرآن لا يفهمه الا من يؤمن به، ويعمل، وذلك لأنه كتاب عقيدة، وتوحيد .. فالكلمات في القرآن تأخذ مدلولاتها من التوحيد، لا من مجرّد اللّغة .. والتوحيد يقوم على العمل في التقوى، والذي به يتم اعداد اواني السالك – عقله ، وقلبه – لتلقي فيوضات المعرفة من الله عن طريق القرآن، وفي ذلك يقول تعالى: (واتقوا الله ويعلّمكم الله، والله بكلّ شئ عليم) .. (والله بكلّ شئ عليم)، تعني هنا انه عن طريق التقوى، يمكن للانسان ان يتعلّم عن الله من القرآن، كل شئ .. فالقرآن يحوي كل العلوم: (ما فرطّنا في الكتاب من شي) .. وعن ارتباط المعرفة بالعمل يقول المعصوم: (من عمل بما علم اورثه الله علم ما لم يعلم) ..

الظاهر والباطن:


انّ ما عليه كثير من المسلمين اليوم، هو الاعتقاد بأن القرآن ليس له باطن، وانّما هو ظاهر فقط .. وهم، بناء على هذا الاعتقاد الفاسد، ينكرون التأويل، وبذلك يوصدون الباب أمام معرفة اسرار القرآن، ويهزمون قضية التربية، والتخلّق بأخلاق القرآن .. اذ انّ باطن القرآن هو آيات النفوس منه، مقابل آيات الآفاق للظاهر .. وعن الظاهر والباطن، في القرآن يقول المعصوم في الحديث الذي اورده ابن حيّان في صحيحه، عن ابن مسعود ما نصّه: (انّ للقرآن ظاهراً وباطناً، وحدّاً ومطلعا) راجع كتاب (احياء علوم الدين) للغزالي باب (كتاب قواعد العقائد، الجزء الاول) .. فظاهر القرآن هو ما تعطيه اللّغة العربية، وهو يطابق آيات الآفاق .. امّا باطنه فهو اسرار النفس البشرية .. والى ذلك يشير قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبيّن لهم انّه الحق، اولم يكف بربّك انّه على كل شئ شهيد؟؟)، امّا حد القرآن فهو توظيفه كلّه لتحقيق التوحيد .. وامّا مطلعه فهو كونه، كلّه، في كل حرف منه، بل انّه، كله في (النقطة) التي عندما سالت وساحت، تكونت منها صور الحروف الهجائية ..
ولقد تحدثنا عن تنزّلات القرآن، وذكرنا انّ القرآن تنزّل من الذات، تنزّلات عديدة، الى ان صّب في قوالب اللّغة العربية .. فما يعطيه ظاهر اللّغة العربية من القرآن، هو مستوى التفسير منه، وتليه مستويات التأويل، وهي مستويات لا تتناهى، اذ انّ قمّة القرآن عند الله في اطلاقه، والسير في مراقي معانيه سير سرمدي كما أشرنا .. والى المستويين في القرآن تشير الآية الكريمة: (الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني، تقشعّر منه جلود الذين يخشون ربّهم، ثم تلين جلودهم، وقلوبهم، الى ذكر الله .. ذلك هدى الله يهدي به من يشاء، ومن يضلل الله فما له من هاد ..) .. (مثاني) يعني ذو معنيين معنيين .. فالقرآن جميعه، في كل جزء منه، ذو معنيين، معنى قريب عند العبد، وهو مستوى الظاهر، ومعنى بعيد عند الرّب، وهو مستوى الباطن .. وهذه الآية هي من مفاتيح فهم القرآن .. وفيها ذكر المثاني – المعنى القريب (جلودهم)، والمعنى البعيد (قلوبهم) (ثم تلين جلودهم وقلوبهم) .. وامر المعنيين امر بديهي، اذ انّ القرآن خطاب من الرّب الى العبد، ولا يمكن ان يكون ما يدركه العبد منه، هو كل ما عند الرّب ..
فالقرآن اذن آيات آفاق، وآيات نفوس، وكونه آيات نفوس هو الذي يجعله كتاب تسليك، فانكار باطن القرآن هو انكار لأهم معانيه الاساسية، وتعطيل لقيمته التسليكية .. وتأويل القرآن هو إدراك باطنه، مستوى آيات النفوس منه، وهو امر يتم عن طريق التقوى، وعن طريق تجويد التوحيد .. وفي باب التأويل يجئ دعاء النبي لابن عباس، فهو قد دعا له بقوله: (اللّهم فقّهه في الدين، وعلّمه التأويل) .. وعن التأويل يقول القرآن: (هل ينظرون الا تأويله؟؟ يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل: قد جاءت رسل ربّنا بالحق، فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا، أو نرد فنعمل غير الذي كنّا نعمل؟؟ قد خسروا أنفسهم، وضلّ عنهم ما كانوا يفترون!!)
وبعد .. هذا تصحيح لبعض صور الفساد الاساسية في عقيدة التوحيد عند المسلمين اليوم .. ونحن قد أردنا بهذا التصحيح ان يتدارك الناس أنفسهم، ويعملوا على تصحيح عقيدتهم فيرجعوا الى ربّهم، علّه يتقبلّهم. ولا سبيل الى الرجعى الى الله، الا سبيل العمل وفق نهج السنّة بتقليد نبيه محمد عليه أفضل الصلاة واتم التسليم .. وقد رأينا الدرك السحيق الذي وصل اليه فساد العقيدة في النبي، ولذلك سنختم حديثنا عن تصحيح فساد العقيدة، بتصحيح العقيدة في النبي الكريم ..