إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

بنك فيصل الإسلامي!؟

المضاربة في بنك فيصل



المضاربة عقد غرر وجهالة


في الصفحات التالية سنتعرض للمضاربة التي هى الصيغة الرئيسية لبنك فيصل اذ هى التي بها يستجلب الودائع، ويهولنا الأمر اذا علمنا ان عقد المضاربة هو أساسا عقد غرر، وجهالة، فهو عقد استثنائى، رخص فيه في ملابسات معينة، لا يتعداها.. جاء في كتاب (عقد المضاربة) صفحة 11 (والجمهور من الفقهاء يرون أن المضاربة شرعت على سبيل الرخصة وقد استثنيت من الإجارة بمجهول ومن السلف بمنفعة (1) (حاشية الدسوقى: 3/518) وان القراض رخصة يقتصر فيها على ما ورد (4) (الشرح الكبير 3/ 511).. والقراض عقد غرر اذ العمل فيه غير مضبوط والربح غير موثوق به وانما جوّز للحاجة (5) (مغني المحتاج 3/309 – 310) وهكذا فإن جهالة هذا العقد مبذولة ومعروفة في كتب الفقه ولذلك كان الفقهاء مجمعين على الاّ تدخل هذا العقد أى جهالة تزيد على جهالته الأصلية ، جاء في كتاب "بداية المجتهد" الجزء الثاني صفحة 237 (وجملة ما لا يجوز من الشروط عند الجميع هى ما أدى عندهم الى غرر أو الى مجهلة زائدة) وجاء في كتاب "عقد المضاربة" صفحة 21/22 (ويقرر ابن قدامة الحنبلي انه متى اشترط شرطا فاسدا يؤدي الى جهالة في الربح فسدت المضاربة) ورغم كل ذلك فإن البنك لم يتوّرع من أن يتقحّم بهذا العقد الحساس غمار الحياة الرأسمالية المعقّدة!! بل أكثر من ذلك فالبنك يأخذ نسبة من الربح على عمله كوسيط والربح في هذا العقد لا يستحق الاّ بالمال أو العمل ولكن البنك يتوّغل في الجهالة فهو بدلا من أن يتقاضى أجرة محددة على المصروفات أو الخدمات التي يقدّمها بمال المضاربة كوسيط فإنه يتقاضى نسبة من الربح لا يستحقها ولكنه يتقاضاها مقابل المصروفات والخدمات وهو بذلك يؤجر المصروفات والخدمات بأجر مجهول، ولكنه أجر كبير، كان 25% فرفعه الى 30%.. جاء في فتوى الهيئة الشرعية رقم 25 عن أسس توزيع الأرباح ان البنك يتقاضى ال 25% مقابل الإدارة مع أن عمل المضارب يقوم به المستثمر وجاء في حالة أخرى: (لأن عمل الجمعية العمومية وعمل أعضاء مجلس الإدارة هو الذي يتقاضى البنك 25% من الربح مقابله) أرأيتم سعي هذا البنك للربح بكل سبيل!؟ وان أضاف الى جهالة العقد الذي تقحمه جهالة وغرر، وان خالف عقد المضاربة الشرعي بإضافة طرف ثالث لا مال له ولا عمل.. فإلى عقد المضاربة وتفاصيل أسسه وممارسات البنك، جاء في كتيب "كيف تتعامل مع بنك فيصل الإسلامي السوداني" ص 3 عن المضاربة:
(المضاربة: تختلف المضاربة عن المشاركة العادية لأن البنك يقدم كل التمويل بينما يقوم الشريك المضارب بالإدارة وفقا لشروط محدّدة يعينها البنك ((وتسمى في الفقه مضاربة مقيدة)) ويحدد نصيب المضارب في الأرباح بالتراضي بين الطرفين مقدما وذلك حسب أهمية عنصر الإدارة ((الذي يقوم به الشريك)) أما الخسائر اذا حدثت فيتحملها البنك وحده أما الشريك فيفقد المجهود الذي بذله في إدارة المشروع فقط ((هذا اذا لم تكن الخسائر بسبب التعدي أو التقصير))..)

المضاربة في الشريعة والفقه الإسلامي


ولما رأينا تزييف بنك فيصل لصيغة المرابحة ليصل لأرباحه تحت شعار المرابحة فيحسن أن نبدأ بصيغة المضاربة الشرعية ثم نرى مفارقة البنك لها.. والمضاربة شريعة تعني إتجار الإنسان بمال غيره.. وتسمى أيضا القراض، وهو نوع من أنواع الشركة يكون فيها رأس المال من شخص، والعمل من شخص آخر، ويقال للأول رب المال، ويقال للثاني مضارب.. جاء في كتاب بداية المجتهد الجزء الثاني صفحة 235-236 (ولا خلاف بين المسلمين في جواز القراض وانه مما كان في الجاهلية فأقره الإسلام، واجمعوا على أن صفته أن يعطي الرجلُ الرجلَ المال على أن يتجر به على جزء معلوم يأخذه العامل من ربح المال أى جزء كان مما يتفقان عليه – ثلثا أو ربعا أو نصفا، وان هذا مستثنى من الإجارة المجهولة، وان الرخصة في ذلك انما هى لموضع الرفق بالناس) وان الحكمة في تشريعها عندهم (فإن الناس بين غني بالمال غبي عن التصرف فيه وبين مهتد في التصّرف صفر اليد عنه فمست الحاجة الى شرع هذا النوع من التصرف لينتظم مصلحة الفقير والغني) راجع كتاب "عقد المضاربة بين الشريعة والقانون" للدكتور عبدالعظيم شرف الدين. وجاء عن القراض في "المحلى" لإبن حزم الجزء الثامن صفحة 285 (القراض كان في الجاهلية، وكانت قريش أهل تجارة ولا معاش لهم من غيرها وفيهم الشيخ الكبير الذي لا يطيق السفر والمرأة والصغير واليتيم.. فكانوا وذوو الشغل والمرضى يعطون المال مضاربة لمن يتجر به بجزء مسمى من الربح) انتهى
والقراض من حيث القياس على قواعد الشريعة فإنه من جنس الإجارة والإجارة يشترط فيها العلم بالعوض والمعوّض.. ولكن العمل والربح في المضاربة غير معلومين ولذلك فإن جمهور الفقهاء يعتبرون، المضاربة رخصة استثنت من الإجارة بمجهول، فهى عقد غرر لما فيها من الجهالة.. ولما كانت الأحاديث الشريفة قد نهت عن بيع الغرر، وحرمته، فإن جمهور الفقهاء يرون ان المضاربة رخصة يقتصر فيها على ما ورد.. ومن ثم فإن الفقهاء يرون أن صيغة المضاربة هى أضيق الأبواب، وأحرجها وانه يجب الوقوف فيها على الموضع الذي ابيحت فيه.. وان يؤخذ هذا العقد الإستثنائي بحرفية، وحذر وهكذا عامل الفقهاء عقد المضاربة كتشريع ضرورة محددة وحتى يدرأوا الغرر ويقللوا دائرة العقد المجهول مما يتمشى مع روح الشريعة في الوضوح والتحديد فإن فقههم المنضبط بالشريعة أقرّ المضاربة في التجارة فقط كما جاء في كتاب بداية المجتهد أعلاه (واجمعوا على أن صفته أن يعطى الرجل الرجل المال على أن يتجّر به على جزء معلوم) وذلك لأن اتجاه الشريعة وهى تمنع عقود الغرر منع المضاربة في الأعمال التي يمكن أن يؤجر عليها لأن الإجارة معلومة العوض وهى لذلك بعيدة عن الجهالة وقد عبر عن ذلك الشافعية كما يحدثنا كتاب الفقه على المذاهب الأربعة الجزء الثالث صفحة 45 (ان يكون عملا في التجارة من بيع وشراء فلا تصح المضاربة على عمل صناعي كأن يضارب نساجا على أن يشتري قطنا ثم ينسجه ويبيعه منسوجا..) (وإنما لا تصح المضاربة في ذلك لأنه عمل محدود، تصح إجارة العامل عليه، فلا داعى حينئذ للمضاربة – لأنها إنما أبيحت للضرورة، حيث لا تمكن الإجارة.. ذلك لأن التجارة التي سيقوم بها العامل مجهولة، وقد يكون رب المال عاجزا عن القيام بها فأبيح له أن يفعل ذلك النوع من المعاملة.. بأن يشرك معه غيره في الربح المجهول في نظير ذلك العمل المجهول فاذا أمكن ضبط عمل العامل فلا يصح أن يفعل ذلك بل عليه أن يستأجره بأجرة معينة بإزاء ذلك العمل المنضبط) إنتهى. ومما يسير في هذا الإتجاه الشرعي ما ذكره الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين" الجزء الرابع المجلد الأول صفحة 773 حيث قال (لأن القراض مأذون فيه في التجارة وهو البيع والشراء وما يقع من ضروراتهما فقط) إنتهى.

مضاربة بنك فيصل


واذا كان هذا هو وضع عقد المضاربة، وهو عقد حساس وهو عقد غرر يقتصر فيه على ما أبيح فيه، وعلى الضرورة، فإن بنك فيصل يمارس المضاربة بلا ضرورة، فلا هو عامل بالتجارة، ولا هو صاحب مال عجز عن توظيفه الاّ بهذا السبيل، فهو يملك أموالا طائلة من أسهم المساهمين ويستطيع أن يوّظف حركته في مختلف المجالات التي يريد الإستثمار فيها على أن تكون خالية من الغرر، ولهذا فإن ممارسته التي يجلب بها الودائع، ويموّل بها المستثمرين، بإسم المضاربة، هي ممارسة مفارقة لعقد المضارب2ة الشرعي، لأنها أباحت المضاربة على ما فيها من غرر بدون ضرورة، والغرر محرّم شرعا، كما ذكرنا آنفا..

مضارب يضارب آخرين


أكثر من ذلك فإن بنك فيصل الإسلامي السوداني، يضارب بمال غيره، ويربح الأموال الطائلة دون أن يكون هو صاحب المال أو صاحب العمل.. وصيغة العقد الشرعية أن الربح يستحق بالمال أو بالعمل.. جاء في كتيب "كيف تتعامل مع بنك فيصل الإسلامي السوداني" ص 3 (تختلف المضاربة عن المشاركة العادية لأن البنك يقدم كل التمويل بينما يقوم الشريك المضارب بالإدارة) إنتهى.. هذه هى علاقة البنك بالمستثمرين منه اذ أنه يعتبر نفسه (رب المال) ويعتبرهم (مضاربين) أما علاقته بأصحاب ودائع الإستثمار فإنهم هم (رب المال) والبنك هو "المضارب"
جاء في جريدة الأيام بتاريخ 14/4/82 (بهذا يعلن بنك فيصل الإسلامي السوداني جميع المستثمرين فيه بالعملتين السودانية والحرة الذين أودعوا أموالهم قبل يوم 1 يوليو 1981 أن نصيب المضارب (البنك) من صافي أرباح ودائع الإستثمار الذي سبق أن حدده الطرف الثالث في شروط وديعة الإستثمار المبرم بين أصحاب الودائع والبنك ونصه يحق لصاحب الوديعة الإشتراك في عائدات الإستثمارات الذي يوزع بين البنك والمستثمرين بنسبة الربع للبنك وثلاثة أرباع للمستثمرين قد زيد الى 30% (ثلاثين في المائة) وقد ارسلت خطابات بهذا المعنى للمستثمرين) إنتهى
ان عقد المضاربة الشرعي هو بين شخصين: صاحب مال، وصاحب عمل، يعمل مقابل نسبة من الربح مسماة، يستحقها مقابل عمله.. ولكن بنك فيصل يعتبر نفسه مضاربا بالنسبة لأصحاب ودائع الإستثمار، ويعتبر نفسه (رب مال) بالنسبة لتمويله للمستثمرين.. فبنك فيصل هنا يأخذ الودائع بدعوى أنه مضارب (صاحب عمل) وبدلا من أن يقوم بالعمل كمضارب بحكم طبيعة عقد المضاربة الشرعي، فإنه أصبح مضاربا يضارب آخرين، اذ هو يعطيها لشخص آخر، وكأنه هو صاحب هذه الأموال، وأن الشخص الآخر (صاحب عمل)!! فالبنك يأخذ الودائع باسم المضاربة المطلقة، ويموّل بها المستثمرين باسم المضاربة المقيدة.. راجع محاضرة السيد نائب المدير عبد الرحيم حمدي اذ يقول (ونحن نستخدم الصيغة المطلقة في علاقة البنك مع أصحاب ودائع الإستثمار) (أما في التمويل فنستخدم الصيغة المقيدة).. ولعله ظاهر أن (رب المال) الحقيقي هو صاحب الوديعة وان المضارب الحقيقي هو (صاحب العمل)، وما بنك فيصل الاّ وسيط بين هذين ثم هو يتقاضى ربحا مقابل هذه الوساطة رفعه الى 30% كما ذكر لأصحاب الودائع.. وهكذا يضارب البنك آخرين بمال غيره، ويربح بدون مال، وبدون عمل، مما يجعل عمله أشبه بعمل البنوك الربوية التي تقترض من المودعين بفائدة، وتقرض المستثمرين بفائدة أكبر، وتستفيد بفرق الفائدة.. وهذا هو عين أكل أموال الناس بالباطل الذي نهى الله عنه اذ قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ)، والباطل غير الحق، والحق الذي يبيح الربح، أحد أمرين: اما أن يكون الرجل صاحب مال، أو صاحب عمل، هذا ما عليه عقد المضاربة الشرعي، ولذلك فإن بنك فيصل لا يستحق ربحا في هذه الحالة، بل ان أخذه للربح يفسد العقد من أساسه.. وقد عبّر عن ذلك المذهب الحنبلي، كما جاء في كتاب "عقد المضاربة" للدكتور عبدالعظيم اذ جاء فيه في صفحتى 29-30 : (فإن أذن رب المال للمضارب في دفع المال مضاربة جاز ذلك، وكان العامل الأول وكيلا لرب المال في ذلك، فإذا دفعه الى آخر ولم يشترط لنفسه شيئا من الربح كان صحيحا، وان شرط لنفسه شيئا من الربح لم يصح، لانه ليس من جهته مال، ولا عمل.. والربح انما يستحق بواحد منهما) كما جاء في نفس الكتيب صفحة 30 (وان نظرة الى هذه المذاهب فيما يتعّلق بمضاربة المضارب غيره توقفنا على حقيقة هامة وهى ان المذهب الحنفي يسمح للمضارب الأول ان تكون له حصة من الربح متى اتفق على ذلك مع المضارب الثاني بعد اعطاء رب المال حصته من الربح وان لم يسمى شيئا في مال المضاربة وهذا طيب له بمباشرة العقدين كما مر واما المذهبان المالكي والحنبلي فلا يجعلان للمضارب حصة من الربح بان يوفي للمالك حصته من الربح وللمضارب حصته من الربح والباقى يسمى لرب المال وليس للمضارب الأول حصة من الربح لأنه لا عمل ولا مال واما المذهب الشافعي فالصورة الوحيدة لجواز مضاربة المضارب فيه هى التي يلتزم فيها بالخروج من المضاربة فاحتمال استحقاقه حصته من الربح غير مقصور) انتهى.. ومن هذا يتضّح، ان بنك فيصل الإسلامي لا يستحق ربحا حسب عقد المضاربة الشرعي، كما أوضحته المذاهب الثلاثة، وقد كان تعليلها ينطبق تماما على القاعدة الشرعية في المضاربة، اذ الربح في المضاربة انما يدور بين عنصرى المال، والعمل، ولا شىء سواهما، ولذلك فإن رأى الحنفية في حق (الوسيط) في ربح المضاربة بدون (عمل) هو قول بالرأى لا دليل عليه، بل هو فقه يناقض أسس المضاربة المحددة المشهورة حتى ان السيد عبد الرحيم حمدي، نائب مدير البنك نفسه، لم يملك الا ان يحدد المضاربة في محاضراته فيقول: (هى عقد بين الطرفين على ان يدفع احدهما للآخر مالا معلوما ليتاجر فيه مقابل نصيب ضائع من الربح).. وبعد فهذا هو رأى فقهاء السلف في المضاربة، وتلك هى مضاربة بنك فيصل، خاضها من غير ضرورة، فتقحم حرمة الغرر ثم خاضها بلا مال، ولا عمل، واستدار الأموال الطائلة بأكلها بالباطل.. فاين كل هذه المفارقات من الشريعة، ومن قول البنك نفسه في كتيبه من انه (ملتزما في ذلك بحدو الأحكام القطعية في الشريعة الاسلامية)!!
واذا كان هذا هو مسلك البنك في المضاربة، ومع ذلك يتسمى بالاسلام، مستظلا بالصيغ الشرعية يمارسها خالية من روح الدين، والتربية، بل مجافية لاسسها الشرعية، فيحسن ان نتابع ممارسات البنك في ظل صيغة المشاركة..