إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

١٨ يناير ذكرى فداء العريس

الحاج وراق


مسارب الضي - صحيفة الحرية ٢٢/١٢/٢٠٠١ م

18 يناير ذكري فداء العريس



صحيفة الحرية 22/12 / 2001 م
مسارب الضي الحاج وراق



تتحدد الأخلاق في المجتمع التقليدي ليس وفقاً للضميرالفردي الحر، ولا العقل اليقظ، وإنما تتحدد كقالب سلوك نمطي معطي كبداهة غير قابلة للتساؤل (هذا ما وجدنا عليه آباءنا) ! فللزوج نمط سلوك محدد، ونمط للزوجة، وللأبناء، وكذلك أنماط سلوك عند الميلاد، وفي الزيارات، والعزاء، وفي الزواج، والوفاة إلخ

وهي أنماط سلوك مكررة ورتيبة بحيث تتحول الي طقس (طبيعي) مثلها مثل مواسم الطبيعة .. ويراعي المجتمع التقليدي الإلتزام بأنماط السلوك هذه بمحدودية أعداد أفراده وعلاقات القرابة في الدم والمكان الذي تربط بين أفراده بما يفضي الي غياب الخصوصية وبما يوفر من إمكانات الرقابة الجماعية على سلوك أفراده، وبآليات العقوبة والعزل الإجتماعي التي توقع على العناصر المنفلتة أو عصية الضبط .... وهكذا فإن السلوك لا يحدده الإختيار الشخصي فى الخطأ والصواب، ولا تحدده المشاعر والأفضليات الشخصية وإنما مطلوبات " الرقيب الجماعي" ( أنا من غزية، إن غزت غزيت! ) . ولذلك فإن القيمة التي يلح عليها التقليد ليست الفضيلة في ذاتها وإنما "السترة" .... والمسافة بين الإختيار الشخصي وبين مطلوبات التقليد تسدها "المجاملة" "والمنافقة" -أي تناقض الظاهر مع الباطن!

ولذلك كان الأستاذ محمود محمد طه أصيلاًََ واحداً وإستثنائياً في بحر القيم التقليدية المتلاطم في البلاد. دعا إلي " التوحيد" ليس كلفظة تردد بلا روح وإنما كتوحيد بين الظاهر والباطن .. ودعا إلي الإنسان الحر – وهو بحسب تعريفه – الذي يقول كما يفكر ويفعل كما يقول ثم لا تكون نتيجة قوله وفعله إلا براً بالأحياء وبالأشياء . وكان بأسلوب حياته كلها، وبرحيله كذلك، موحداً وحراً . أعطي مثالا ًعز نظيره في تطابق القول والممارسة .

سمعته يقول "سيأتي نموذج الإنسان الذي يهزم تجربة الموت ويمشي الي الله مشياً.." وكان قوله فعله.... مشى في لجج الموت نازعاً حتي غريزة البقاء، وليس أقوى منها غريزة ، مشى هادئاً مطمئناً، بل وباسماً – إبتسامة الرضا برؤية إكتمال المسير خلف غبار الجزئي والمؤقت والعابر والشرير. مسير تحقق الحرية المطلقة والخير المطلق والجمال المطلق . وهو مسير كان منذ البدء، "حتماً مقضياً"، وعلي عكس ما يفهم الطغاة والأشرار ومروجو القبح فإن أفعالهم ذاتها بعض من ضرورات إكتمال المسير!!! ولذلك كان أيضاً يبتسم ساخراً من جهل الأشرار: يظنون ذواتهم وأفعالهم ومؤسساتهم تدوم الي قيام الساعة ولا يعرفون بأنهم عابرون ككلام عابر! إبتسامة التوحيد والرضا والمعرفة والجسارة كانت أيضاً إيذان ميلاد فجر جديد ، وكما إبتسامة الموناليزا عنوان نهضة أوروبا فإن إبتسامة الأستاذ/ محمود ستظل عنواناً لنهضة إهل السودان. عنوان إستحقاق العطاء: فلا حرية بلا فداء، والتاريخ لا يرقى في مدارج التقدم إلا علي مهاد التضحيات ، وقتها دفع المهر مع سخاء الإبتسام، وكان المهر العريس نفسه .. هلّل "الرجرجة" في سوق الموت، ولكن لأن الموت كان إعلان حياة جديدة، فإن هتافات الشماتة والهوس كانت بعضاً من إكتمال النشيد، ولم يقو حتى زعيقه الناشز علي إخراس زغاريد التاريخ بالزفاف!

أثمرت الحروب الدينية في أوروبا فكرة التعايش مع الإختلاف، وأفضي إستبداد الحق الإلهي المدّعى وإصطياد الأفكار الجديدة وتفتيش الضمائر الى الأزمنة الحديثة – أزمنة الحرية. والكنيسة التي حّرقت العلماء وجرّمت الأفكار وصادرت الكتب ... كرّت عليها سنان المقاصل لترشد وتتواضع وتستعيد المشروعية. ودفعت البشرية أثماناً باهظة في الارواح في حروب الاستعمار وحربين عالميتين وما تزال لتكتشف قداسة الحياة الانسانية وضرورة السلام.... وهكذا دوماً نعاني ونبذل فنتعلم، ونصعد .... و18 يناير رغم شرور القتلة أذن بإلحاح لأهمية حرية الإعتقاد والضمير، وبهذا سيظل معلماً لا يزول في مسيرة أهل السودان والمسيرة الإنسانية قاطبة.

ولأن حرية الضمير – بمعني حرية أن تعتقد ما تشاء – هي بداية كل حرية، وانتقاصها هو انتقاص كل حرية ، فإن 18 يناير جدير بالتوقير و الإحتفاء.

وفي سبيل ذلك، وحتي يأخذ 18 يناير قيمته الإنسانية والتربوية فإنني أقترح أن تتضافر جهود جميع منظمات حقوق الإنسان محلياً وإقليمياً ودولياً لتأسيس جائزة دولية سنوية باسم : (جائزة الأستاذ/ محمود محمد طه لحرية الضمير) تمنح سنوياً للاشخاص والموسسات التي تقدم لمبدأ حرية الإعتقاد.

أتمنى وأعشم في تبني المجموعة السودانية لحقوق الإنسان ورئيسها الاستاذ/ غازي سليمان لذلك.