إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

نحو تطوير التشريع الإسلامى

حسين أحمد أمين


مصر الجديدة فى ١٩ يونيو١٩٩٣

نحو تطوير التشريع الإسلامى


تأليف د. عبدالله أحمد النعيم
ترجمة وتقديم: حسين أحمد أمين
سيناء للنشر، القاهرة 1994


يبدو أنَّ المصريين قد اعتادوا واستمرأوا فكرة أن تكون بلادهم مصدر الإشعاع الفكرى فى العالمين العربى والإسلامى، ذلك أنَّ القليلين من مثقفيهم هم الذين يلقون بالاً الى الثمار الفكريَّة فى الأقطار المحيطة بقطرهم، أو يقدرون الضرر الذى سينجم حتماً، عن هذه العزلة وهذا الإغفال. وها قد مضى أكثر من ربع قرن على ظهور كتاب فى السودان، هو كتاب "الرسالة الثانيَّة فى الإسلام" للشهيد محمود محمد طه، الذى أعدَّه أهم محاولة ينهض بها مسلم معاصر لتطوير التشريع الإسلامى، والتوفيق بين التعاليم الإسلاميَّة ومقتضيات المعاصرة، دون أن يحظى فى مصر (أو فى بلد إسلامى خارج السودان على حد علمى) بالإهتمام الذى هو أهل له، ودون أن نلمس له تأثيراً فى إتجاهات مفكرينا ومثقفينا وجمهور شعبنا، رغم إحتوائه على فكرة أساسيَّة ثوريَّة لا شكَّ عندى فى قدرتها متى صادفت القبول لدى الرأى العام الإسلامى، على أن توفر الحلول لمعظم المشكلات التى تكتنف موضوع تطبيق الشريعة، فى إطار إسلامى.

وفى الكتاب بين أيدينا عرض واف لهذه الفكرة ولغيرها من الأفكار التى نادى بها المرحوم الأستاذ محمود محمد طه. غير أنه لا بأس من أن نوجز الفكرة الرئيسة فيما يلى:
إنَّ النظرة المتمعنة فى محتوى القرآن الكريم والسنة النبويَّة تكشف عن مرحلتين لرسالة الإسلام: المكيَّة والمدنيَّة. والرسالة فى المرحلة الأولى هى الرسالة الخالدة والأساسيَّة، رسالة تؤكد الكرامة الأصيلة لكافة البشر، دون إعتبار للجنس، أو العرق، أو العقيدة الدينيَّة أو غير ذلك. وقد تميزت هذه الرسالة بالتسويَّة بين الرجال والنساء، وبحريَّة الإختيار الكاملة فى أمور الدين والعقيدة. فأما أسلوب الدعوة اليها فقائم على أساس الإقناع بالحجج العقليَّة، والجدل بالتى هى أحسن، دون أدنى قدر من الإكراه أو القهر.
وإذا رفض المشركون هذا المستوى الرفيع للرسالة، وبدا واضحاً أنَّ المجتمع ككل لم يكن بعد مستعداً للأخذ بها، جاءت الرسالة الأكثر واقعيَّة فى الفترة المدنيَّة، ونفذت أحكامها. وعلى هذا فإنَّ جوانب رسالة الفترة المكيَّة، التى لم تكن قابلة للتطبيق العلمى فى السياق التاريخى للقرن السابع الميلادى، علقت وحلت محلها مبادئ أكثر عملية. غير أنَّ الجوانب المعلقة من الرسالة المكيَّة لم تضع الى الأبد بوصفها مصدراً للشريعة، وإنما أجل تنفيذها الى حين توافر الظروف المناسبة فى المستقبل.

وقد سبق لى أن ذكرت فى مقدمة كتابى "دليل المسلم الحزين الى مقتضى السلوك فى القرن العشرين" أنَّ كثيراً مما نخاله من الدين هو من نتاج حسابات تاريخيَّة وإجتماعيَّة معينة، ومن إضافات بشر من حقب متعاقبة. وقد كان من شأن هذه الحسابات والإضافات أن أسدلت حجاباً كثيفاً على جوهر الدين وحقائقه الأساسيَّة الخالدة. فالدين لا ينشأ فى فراغ، وإنما يظهر فى مجتمع معين وزمن معين، فتتلون تعاليمه بالضرورة بظروف ذلك المجتمع ومقتضيات ذلك الزمان وتراعيها. هو إذن حقيقة مطلقة وردت فى إطار تاريخى، وظهرت فى بيئة إجتماعيَّة إنعكست معالمه عليه، وذلك من أجل أن يلقى القبول، ويحظى منهم الغالبيَّة، ويضمن الإنتشار. فكما أنه يستحيل على المرء أن يحمل الماء إلا فى إناء، أو يحتفظ بعنصر كيميائى غازى إلا أن خلطه بعنصر غريب يحوله الى أقراص صلبة، فإنَّ الرسالة الدينيَّة بحقائقها العالميَّة والخالدة لا يمكن إلا أن تبلغ لمجتمع معين، فى حقبة تاريخيَّة محددة، وهو ما يجعل من المحتم أن تدفع الرسالة ثمن ذلك فى صورة الدخيل المؤقت، العارض المحلى، غير الجوهرى وغير الأساسى. فلو أنَّ الرسالة الخالدة لم تراع جهاز الإستقبال لدى من تسعى الى مخاطبته والوصول اليه، لضاعت فى الأثير واستحال إلتقاطها. أما ضمان إلتقاطها واستقبالها فيقتضى تغليف الرسالة بما ليس فى صلبها، وترجمة المحتوى العالمى الخالد الى لهجة محليَّة، ومراعاة غلظ الأذهان، وضعف المستوى الثقافى والحضارى، والتشبث العنيد بالمفاهيم الموروثة والتقاليد. فإن أصرت الرسالة على أن تحتفظ بنقائها فلا تتلون بالظروف المحليَّة والتاريخيَّة، ضاعت هدراً ولم يقبلها أحد. ولو أن الرسالة قد تلونت عند تبليغها بالمحلى التاريخى، ثم أصرت بعد ذلك على البقاء على ما هى عليه، رغم إنتشارها الى بيئات إجتماعيَّة جديدة، ومرور الحقب التاريخيَّة عليها، وأبت أن تتشكل بظروف تلك البيئات الجديدة، ومقتضيات العصر تلو العصر، لاستحال عليها أن تلبى الإحتياجات الروحيَّة لأهل المجتمعات والعصور الجديدة الفعاليَّة نفسها التى لبت بها إحتياجات أهل المجتمع والعصر اللذين جاءت الرسالة فيهما.

هذا عن رأى وقت كتابتى لمقدمة كتابى المشار اليه. وأنا الآن أميل الى القول مع الأستاذ محمود محد طه بأن رسالة الإسلام بحقائقه العالميَّة الخالدة، بُلغت خلال الفترة المكيَّة دون حساب لغلظ الأذهان، وضعف المستوى الحضارى للعرب فى ذلك الوقت، ودون التلون بالظروف المحليَّة والتاريخيَّة. وفى ظنى أن هذا هو أيضاً ما أراد على عبدالرازق أن يقوله فى كتابه "الإسلام وأصول الحكم" عام 1925، وإن كان قد عبر عن قصده بعبارات تتسم ببعض الإلتواء، وما عبر عنه صراحة المؤرخ البريطانى آرنولد توينبى فى آخر كتاب له وهو: Mankind and Mother Earth فى عام 1976 والذى نشر بعد سنة من وفاة مؤلفه.

غير أنَّ الأستاذ طه يذهب الى أبعد مما ذهب اليه أحد منا، ويصل بالفكرة الى نتيجتها المنطقيَّة: فعنده أن الفقهاء القدامى من مؤسسى صرح الشريعة الإسلاميَّة، جانبهم التوفيق إذ فسروا مبدأ النسخ على أساس أنَّ النصوص اللاحقة من القرآن والسنة (أى الفترة المدنيَّة)، تنسخ أو تلغى كافة نصوص الفترة المكيَّة السابقة، التى تبدو متعارضة معها. والسؤال الذى ينجم عن هذا هو ما إذا كان مثل هذا النسخ دائم المفعول بحيث تبقى النصوص المكيَّة الأقدم، غير معمول بها الى أبد الآبدين. ويذهب محمود طه الى أنَّ هذا القول مرفوض بالنظر الى أنه لو صح لما كان ثمة معنى للإتيان بالنصوص الأقدم. كما يذهب الى أنَّ القول بأنَّ النسخ أبدى يعنى حرمان المسلمين من أفضل جوانب دينهم. وبالتالى فهو يقترح تطوير أسس الشريعة الإسلاميَّة، وتحويلها من نصوص الفترة المدنيَّة الى نصوص الفترة المكيَّة السابقة عليها. ويعنى هذا أنَّ المبدأ التأويلى فى التطوير لا يعدو أن يكون عكساً لعمليَّة النسخ، بحيث يصبح بالإمكان الآن تنفيذ أحكام النصوص التى كانت منسوخة فى الماضى، ونسخ النصوص التى كانت تطبقها الشريعة التقليديَّة، وذلك من أجل تحقيق القدر اللازم من إصلاح القانون الإسلامى.

كتب محمود طه فى "الرسالة الثانيَّة من الإسلام" يقول: "وتطور الشريعة كما أسلفنا القول، إنما هو إنتقال من نص الى نص، من نص كان هو صاحب الوقت فى القرن السابع فأحكم، الى نص عُدَّ يومئذ أكبر من الوقت فنسخ. قال تعالى: ما ننسخ من آية أو ننساها نأت لخير منها أو مثلها (سورة البقرة،106). قوله .. ما ننسخ من آية.. يعنى: ما نلغى ونرفع من حكم آية.. قوله أو ننساها يعنى: نؤجل من فعل حكمها.. نأت بخير منها.. يعنى: أقرب لفهم الناس وأدخل فى حكم وقتهم من المنساة.. أو مثلها.. يعنى: نعيدها هى نفسها الى الحكم حين يحين وقتها.. فكأنَّ الآيات التى نسخت إنما نسخت لحكم الوقت، فهى مرجأة الى أن يحين حينها. فإن حان حينها فقد أصبحت هى صاحبة الوقت، ويكون لها الحكم، وتصبح بذلك هى الآية المحكمة، وتصير الآية التى كانت محكمة فى القرن السابع منسوخة الآن.. هذا هو معنى حكم الوقت: للقرن السابع آيات الفروع، وللقرن العشرين آيات الأصول".

وقد يفاجأ القارئ بهذه القراءة غير المعهودة للآية، فهى فى المصحف بين أيدينا (ما ننسخ من آية أو ننساها). غير أنَّ الطبرى فى تفسيره يقول: "... وقرأ ذلك آخرون (أو ننساها) بفتح النون وهمزة بعد السين بمعنى: نؤخرها، من قولك "نسأت هذا الأمر أنسؤه نسأ ونساء" إذا أخرته... وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين، وقرأه جماعة من قراء الكوفة والبصريين... فتأويل من قرأ ذلك كذلك: ما نبدل من آية أنزلناها إليك يامحمد، فنبطل حكمها ونثبت خطأها، أو نؤخرها فنرجئها ونقرها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها، نأت بخير منها أو مثلها". وهو التأويل الذى أخذ به محمود طه، وأخذ به أحد أنجب تلاميذه ومعاونيه، وهو الدكتور عبدالله أحمد النعيم، مؤلف هذا الكتاب بين أيدينا.

اتصل الدكتور إتصالاً وثيقاً، بأستاذه الروحى محمود محمد طه على مدى سبع عشرة سنة كاملة، إنتهت بإعدام طه فى الخرطوم بتهمة الردة عن الإسلام فى 18 يناير 1985، بإيعاز من رئيس الجمهوريَّة آنذاك، جعفر النميرى، الذى سقط نظامه بعد سنة وسبعين يوماً فقط من قتله لهذا المفكر الإسلامى البارز. وقد شارك عبدالله النعيم مشاركة إيجابيَّة فعالة فى حركة "الإخوان الجمهوريون" التى تزعمها محمود طه فى السودان، واعتقل معه فى الفترة ما بين 17 مايو 1983 و19 ديسمبر 1984، وأسهم إسهاماً مشكوراً، وهو القانونى القدير ورئيس قسم القانون العام فى كلية الحقوق بجامعة الخرطوم فى الدفاع عن المتهمين من زملائه فى الحركة، وضمان الإفراج عنهم، غير أنه أضطر بعد إعدام أستاذه والقضاء على الحركة وتفرق السبل بأنصارها الى الهجرة الى الخارج، حيث قام بترجمة كتاب طه "الرسالة الثانيَّة من الإسلام" الى الإنجليزيَّة، وألف بالإنجليزيَّة هذا الكتاب الذى كان لى شرف الإضطلاع بترجمته الى العربيَّة.

والكتاب فى واقع الأمر هو مزيج من فكر طه وفكر النعيم، فالفكرة الأساسيَّة لمحمود طه التى أوجزناها منذ قليل هى التى إتخذها النعيم منطلقاً له فى كتابه الراهن: تعهدها ونماها، وزودنا بإجابات على التساؤلات التى قد تثور بصددها، وبالتطبيق المنهجى المتسلسل لها فى ميادين الدستوريَّة وحقوق الإنسان والقانون الجنائى والقانون الدولى، وبالإستقراء التاريخى للفكر الإسلامى المتصل بقضايا القانون العام، مستفيداً فى كل ذلك من الخلفيَّة القانونيَّة التى توفرت له، ولم تتوفر لأستاذه المهندس محمود محمد طه.

وهو شأن كل تلميذ نجيب ذكى مبدع لقائد مرموق من قادة الفكر، لم يتوقف عند المدى الذى وصل اليه أستاذه، ولا أبقى الفكرة على الحال الذى تركها عليه ذلك المفكر، وإنما إتجه بكل إخلاص وهمة الى إنماء الفكرة وتطويرها للوصول بها الى نتائجها المنطقيَّة، وتطبيقها على مجالات متنوعة.. فهو هنا إذن يؤدى إزاء محمود طه دور أفلاطون إزاء سقراط. وكما أننا إزاء الكثير من الآراء الواردة فى محاورات أفلاطون نجد من الصعب نسبة هذا الرأى أو ذاك الى المؤلف أو الى أستاذه، فكذا نحن إزاء بعض الأفكار الواردة فى الكتاب الراهن. وقد كان وصفنا إياه بالمزيج من قبيل الإستسهال، وبسبب إصرار المؤلف الكريم فى حواراتى معه على نسبة كل فضل الى أستاذه، غير أنَّ مقارنة القارئ بين كتب طه وبين كتاب النعيم كفيلة بأن تسهل بعض الشئ، من إدراكنا لحقيقة الإضافات الجوهريَّة البناءة والإبداعيَّة للنعيم. وأضيف هنا قولاً أكاد أكون واثقاً من أنَّ الدكتور النعيم سيستاء منه، وسيرفضه ويزور بوجهه عنه، وهو أنَّ إعجابى بكتابه فاق إعجابى بكتاب "الرسالة الثانيَّة من الإسلام". وأما سبب ذلك فأذكره وأنا أكاد واثقاً من أنَّ بعض القراء من العرب سيستاءون منه، وسيرفضونه ويزورون بوجههم عنه، وهو أنَّ كتاب النعيم كُتب أصلاً بالإنجليزيَّة، وهى لغة لا تكاد تسمح بالأسلوب الخطابى الإنشائى الفضفاض، الذى تميز به للأسف كتاب الزعيم السودانى الراحل، ولا يستسيغ قراؤها الإبتعاد عن معايير الفكر المحدد الدقيق.

غير أنى أتدارك وأصحح وأستغفر.. فيقينى أنَّ النعيم لو كان قد ألف كتابه بالعربيَّة لتميز الكتاب بالقدر نفسه من الهدوء والموضوعيَّة والدقة والروح العلميَّة الصارمة الذى تميز به الأصل الإنجليزى.. فالخطابة والأسلوب الإنشائى الفضفاض ليسا من السمات اللصيقة بالعربيَّة إلا فى عصور إنحطاطها. وأما الهدوء والموضوعيَّة والدقة والروح العلميَّة الصارمة، فجميعها سمات فى شخصيَّة عبدالله النعيم، لا مفر أن تنعكس فى كتاباته. وصفات لمستها فيه منذ لقائى الأول معه فى القاهرة يوم 29 مارس 1993، وهو لقاء دبرته لنا الفنانة المصريَّة الأصيلة السيدة عطيات الأبنودى مخرجة الأفلام التسجيليَّة الشهيرة، بعد إبدائى لها شهادة إعجابى بكتاب عبدالله النعيم، وكانت قد قرأته وتعرفت بمؤلفه قبلى.. ولن أنسى أمسيَّة جمعتنى بالنعيم والمفكر الإسلامى الكبير الأستاذ طارق البشرى، وهو إنسان على شاكلة النعيم فى الهدوء والوقار، والإتزان ورحابة الصدر، رغم إختلافهما الجذرى فى مجال الفكر الدينى، إذ يأبى المؤرخ المصرى الأخذ بتاريخيَّة النص الدينى، بينما يصر القانونى السودانى عليها. وقد كان حوارهما الهادئ الموضوعى المتزن حول هذا الموضوع مثلاً يحتذى- وإن كان نادراً ما يحتذى فى مجتمعنا الإسلامى البائس- فى تحاور مفكرين إن إختلفت إتجاهاتهم وآراؤهم، جمعتهم الرغبة الصادقة فى الوصول الى الحق، بل والى ما هو عندى خير من الحق ذاته، وهو التفاهم.. فكأنما كان لسان حال الإثنين ينطق بقولة الإمام الشافعى الشهيرة: "والله ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ، وما كلمت أحداً قط وأنا أبالى أن يبين الله الحق على لسانى أو على لسانه".

فأين جعفر النميرى وعمر البشير وأمثالهما من أمثال هؤلاء؟!

وكم قد حز فى نفسى أن تتقطع لقاءاتى بالنعيم إذ يغادر مصر الى واشنطن ليعمل مديراً تنفيذياً فى منظمة Africa Watch المعنيَّة بحقوق الإنسان فى القارة الأفريقيَّة. ولا شكَّ عندى فى أنه يتطلع الى اليوم الذى يتمكن فيه من العودة الى السودان ليواصل الدعوة الى أفكاره والأفكار الأصيلة لحركة "الإخوان الجمهوريون" التى تفرق أنصارها وتوقف نشاطها بعد حظر السلطات السودانيَّة لهذا النشاط منذ يناير 1985، ولم تظهر لها قيادة جديدة بعد إعدام زعيمها.. وهو أمر يوحى للأسف الشديد بأنَّ إرتباط معظم أنصارها بزعيمهم كان وجدانياً أكثر منه فكرياً. ولا أحسب أنَّ أحداً منهم سعى مثلما سعى النعيم الى تأصيل وصياغة الأسس الفكريَّة للحركة؛ كيما تغدو تراثاً إنسانياً لا هو حكر على تلاميذ طه السابقين، ولا قاصر على السودان، بل ولا حتى على الأقطار الإسلاميَّة. فعند النعيم أنَّ كتاباً ككتابه الراهن "لا يخاطب المسلمين المعاصرين وحدهم. فرغم أنَّ قضايا إصلاح القانون الإسلامى، والتحول الإجتماعى والسياسى فى العالم الإسلامى، هى من شأن شعوب الأقطار الإسلاميَّة فى المقام الأول، فإنها أيضاً تدخل فى الإهتمامات المشروعة للبشريَّة جمعاء، بسبب تأثيرها فى حقوق الإنسان والحريات الأساسيَّة للبشر... ذلك أنه لم يعد بوسع البشريَّة أن تتنصل من مسئوليتها عن مصير البشر فى أى جزء من العالم، وهو ما نعده إنجازاً مجيداً للحركة الدوليَّة الحديثة المناصرة لحقوق الإنسان. فكافة شعوب العالم مدعوة إذن لمساعدة المسلمين فى محنتهم، ولأن تُقبل مساعدة المسلمين لغير المسلمين فى محنهم. غير أنه ينبغى أن نؤكد مع ذلك أن هذه الجهود فى سبيل التعاون المتبادل ينبغى النهوض بها، فى رفاهة حس وطيب نية، إن أردنا لها أكبر قدر ممكن من النجاح والفعاليَّة.

إنَّ آراء كتلك التى وردت فى كتب طه والنعيم هى فى ظنى كملح الفواكه، لا تؤتى مفعولها إلا بعد مدة! غير أنى أكاد أكون على ثقة من أن اليوم سيجئ الذى تحدث هذه الآراء فيه تأثيراً عميقاً وواسع النطاق فى فكر المثقفين فى العالم الإسلامى أولاً، ثم فى وجدان جماهيره العريضة، ولن يكون هذا اليوم بعيداً كما يتصور بعض المتشائمين، فحاجة المسلمين تشتد فى زمننا هذا- ويوماً بعد يوم- الى توفير حلول مناسبة للمشكلات المتفاقمة بأقطارهم، تكون من وحى تراثهم ودينهم وتقاليدهم، والى تأكيد هويتهم الحضاريَّة فى مواجهة الأخطار التى تهدد بإبتلاعها.. غير أنَّ حقهم فى تقرير المصير يحده حق الأفراد الآخرين والجماعات الأخرى فى الشئ ذاته، مما يحتم تحقيق مصالحة بين الشريعة الإسلاميَّة وبين كافة حقوق الإنسان العالميَّة، وإقناع المسلمين بأنَّ "الشخص الآخر" الذى ينبغى عليهم قبول مبدأ المساواة الكاملة بينهم وبينه، (كالدول الأجنبيَّة غير الإسلاميَّة، والأقليات غير المسلمة التى تعيش فى أقطارهم، والنساء المسلمات اللاتى تنتقص الشريعة التقليديَّة من حقوقهن)، يشمل كافة البشر الآخرين، بغض النظر عن الحسابات العرقيَّة والدينيَّة والجنسيَّة.

وعندى أنَّ هذا الحل كامن فى الأفكار الأساسيَّة التى طرحها المفكر الإسلامى السودانى الفذ محمود محمد طه، وفى هذا الكتاب لتلميذه المفكر الإسلامى السودانى الفذ الدكتور عبدالله أحمد النعيم، وهو الكتاب الذى سألنى النعيم يوم 29 مارس 1993 أن أكتب مقدة له، فانبريت فى حماسة أسأله الإذن بترجمته بأكمله الى اللغة العربيَّة.

حسين أحمد أمين
مصر الجديدة فى 19 يونيو1993