إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

محمود محمد طه وسيد القمنى: جدل الإنتصار والانكسار

احمد محمود - كاليفورنيا


محمود محمد طه وسيد القمنى: جدل الإنتصار والانكسار


احمد محمود - كاليفورنيا


فى الأشكالات القائمة منذ بزوغ التفكير النهضوى عربيا، ظلت اشكالية الدين ضمن الأسئلة الصعبة فى معادلة النهوض. الدين ليس فى بعده التعبدى الفردانى، بل كتأويل ضرورى عبر جدلية تغاير الأزمنة وتفاوت التحديات، وفى عصرنا الراهن فى كيفية فهم العلاقة بين الأصالة والعصرنة، وهى الجدلية التى يدور حولها النقاش المحتدم منذ اكثر من قرن ونيف. ولقد عرفت الساحة العربية عددا مقدرا من الذين شغلتهم المسألة الدينية وحاولوا التفكير الجدى حولها. عمق من هذا الانتباه الجدى التحدى الذى شكله الغرب كمستعمر أولا وكمتفوق ثانيا وكتصور متعالى نظر بعض مفكريه لتخلف العرب كنتاج حتمى لطبيعة الديانة التى يؤمنون بها ثالثا. ولقد أرتبطت مسألة الحديث حول الدين ومن زاوية نقدية ومغايرة للسائد بتصاعد نهج ضدى تكفيرى من قبل العقل النقلى مدعوما أحيانا بالسلطة الحاكمة فى الوطن العربى ومؤسساتها. ولهذا فأن مقولة نصر حامد أبوزيد حول التفكير فى زمن التكفير تصبح واقعا يعانى منه المثقف العربى أستمرارا. من ضمن الذين حاولوا الأجتهاد وكل على طريقته المنظر السودانى المقتول شنقاالاستاذ محمود محمد طه والكاتب المصرى المنسحب من معركته سيد القمنى. وأيراد هذين النموذجين لا يشأ بتشابه خطابيهما بل معاينة الحالة التكفيرية التى قابلاها وموقف كل منهما.فالاستاذ محمود محمد طه يشتغل من داخل البنية نفسها متخيرا رؤية تختلف عن السائد وناقدة له عاملا على تجسيد أطروحة جديدة للأسلام من حيث طرح مفهوم الرسالة الثانية وهى الرسالة التى يعتقد طه أنها قادرة على مسايرة ظروف القرن العشرين حسب المرحلة الكتابية التى سطر فيها تلك الرؤية. فالرسالة الثانية ترتبط بالقدرة البشرية على الأجتهاد وعلاج قضايا التطور حسب الفهم الواعى للقرآن. ويجتهد الاستاذ محمود اجتهادا غير مسبوق حول مسالة الناسخ والمنسوخ، مرحلا المنسوخ للراهن وامكانية تعاطيه ايجابيا مع عصرنا الحاضر بعد ان أرجأ او عطل فى القرن السابع مقرونا ذلك وحسب الاستاذ محمود بالأجتهاد الواعى والمتعمق. وبما أن المقال لا يتسع لمناقشة هكذا افكار الا أن طه قد فكر فى اللا مفكر فيه ولهذا دخل منطقة التابو وفق ما ينظر الى ذلك عقل التكفير. ولهذا فقد عمل تيار العقل النقلى على محاربةالاستاذ محمود محمد طه عبر وسائل مختلفة دون مساءلة افكاره منهجيا والرد عليها، حتى وصل الأمر الى حبل المشنقة كتأطير نهائى لطبيعة المواجهة ضد المفكرين.ولقد أتيحت الفرصة الى الاستاذ محمود لكى يفلت من حبل المشنقة بشرط التخلى عن أفكاره ومن ثم أستتابته. وهنا وقف الاستاذ محمود موقفا مشهودا مجسدا الاستشهاد لا الأنكسار كفعل تراجعى ينتهك المعنى. وهنا فحسب يمكن ربط الفكر بالتضحية والتجسيد الحى للمبدأ وهى الحالة التى نربطها بالأنتصار للذات اولا وللفكر ثانيا وللآخرين الذين يؤمنون بالفكرة ويعملون على تبينها، لأن الأنسان يموت وتبقى الأفكار. وهذه الحالة التى جسدهاالاستاذ محمود كان من المفترض ان تكون مدخلا حيويا لنشر افكاره بعد ماقدمه من تضحيات،و ربما يقع كل هذا كعبء على أتباعه ولا أدرى الى اى مدى هم قادرون على نقل تلك الأفكار التى استشهد من اجلها محمود وهو سؤال متروك لهم فى منافيهم العديدة. الجانب الآخر الذى يستهدفه هذا المقال هو موقف الكاتب المصرى سيد القمنى. فسيد القمنى يشتغل على منحى عقلانى مادى نافيا وجود المطلق كمطلق ومتجها نحو فكرة الدور البشرى فى صياغة التجربة الدينية. ففى كتابه ، الموسوم بالحزب الهاشممى يلخص تجربة الاسلام بكونها تناسلا أبتداه قصى الجد الأكبر لقريش وواصله احفاده حتى محمد (ص) رابطا المسألة بتبادل الأدوار والنظر للأسلام من زاوية تاريخية تخضع لقانون المسآلة وفق الشرط التاريخى وحسب التجربة البشرية، أى تجربة النسبى بعيدا عن المطلق. وبغض النظر عن الاختلاف او الاتفاق مع القمنى الا انه قد استطاع ان يجسد رؤية مغايرة تشتغل على سياقات خارج الميتافيزقا و تبتعد عن التصور الدينى السكونى لكثير من القضايا، ولسيد القمنى اسهامات اخرى عديدة تثير الكثير من النقاش. والمذهل وعبر الفترة الاخيرة خرج سيد القمنى ببيان تراجعى تبرأ عن كل كتاباته وافكاره فى استجابة ذليلة لتهديدات تيار الأسلام السياسى، مما يعبر عن انتكاسة فى مشروع النهضة عربيا فى مواجهة العقل النقلى الاستسلامى اذا قرنا ذلك بحالات عديدة. ونتج هذا التراجع عن رسائل تلقاها القمنى عبر بريده الأكترونى ولم تصل المسألة الى المشانق بعد. وقد برر القمنى ذلك بان هناك اناس ينتظرون دوره وهم اولاده فتخلى عن بنات افكاره من اجل ابناءه (البيلوجيين). ومع تفهم البعد الأنسانى فى المسألة الا ان التراجع بهذه الطريقة يعبر عن انتصار تيارعقل التكفير وبالتالى سيادة التخلف والأنزواء عن الدور التاريخى والذى من المفترض أن يلعبه المثقف العضوى. فالكتابة بالأساس مواجهة حتمية وهى معركة تحصد الارواح فى الوطن العربى. ولهذا فالذين يتصدون لمناقشة المسألة الدينية عربيا عليهم ان يدركوا أبتداءا أنهم يخوضون أشرس المعارك فى واقع اسلم رؤيته للماضى كمنحى هروبى عن مسآئلة الحاضر والمستقبل. ويبقى تراجع سيد القمنى بهذه الطريقة كتأطير فعلى لسيادة روح الهزيمة وتراجع الأستنارة على مستوى الأفراد. ولقد رأى البعض ان تراجع القمنى يعد حالة مصرية تاريخية بدأها طه حسين ومن ثم على عبدالرازق ومرورا بالذين تحولوا كلية عن رؤيتهم الفكرية كمحمد عمارة وآخرين. وهذا المنهج التعميمى لا يصح اجمالا بل يتطلب دراسة الحالات حسب الظرف التاريخى والحالة الفردية. ويبقى استشهاد محمود محمد طه ورغم تراجع البعض كبعد رمزى يجب معاينته عربيا لا سودانيا فحسب عله يعطى نموذجا لمعنى انتصار الأفكار وهى حالة انتصار نادرة ضد مصادرة العقل. وكنا نامل ان يسير التاريخ تصاعديا بدفع القمنى الى مراقى السمو. ولكن حالة الأنكسار التى جسدها القمنى تثير فى النفس روعا على مستوى قضية الاستنارة وقدرة المثقف الطليعى على مواجهة عقل الهدم والمصادرة . فهل بالفعل ومن خلال القمنى قد خسر المثقف قضيته نحو التحرر ام سيظل نموذج محمود ساطعا ليلهم الآخرين الأرادة الحرة التى لا تهزم بما يمكننا ان نقول انه وبرغم ما يحدث ستظل هناك امكانية لأنتصار عقل التفكير على عقل النقل والتكفير وبالتالى سيادة حالة نكران الذات والأنتصار لفكرة النهوض.