إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فالعقيدة، كما ذكرناها، أو العقيدة الزائدة بالأحرى، تمنع السعة! لأن العقيدة الزائدة توسع من مساحة الاختلاف بين البشر، ففي واقع الأمر لايوجد شخصان على درجة واحدة من العقيدة، ولا بد أن يكون هناك اختلاف في مناطق ومستويات عدة.. بهذا المعنى فإن العقيدة لا تجمع، لأنها تؤسس للاختلاف.. من الأمثلة البسيطة لذلك موضوع الإيمان باليوم الآخر، فمعظم الأديان تؤمن باليوم الآخر، والكثير من الآيات التي ذكرناها، أعلاه، ولم نذكرها تشير إلى ذلك، مثل قوله تعالى: ((من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات..))، وغيرهذه من الآيات.. هذا من الناحية العامة للإيمان باليوم الآخر، ولكن تصور هذه الأديان لليوم الآخر مختلف جدا! فإذا أصر صاحب كل دين - أو بالأحرى صاحب كل عقيدة - على تصوير عقيدته فقط لليوم الآخر، وقرر بأن من لا يؤمن بتفاصيل اليوم الآخر التي عند عقيدته فهو غير مؤمن باليوم الآخر، فهذا لن يعطي مجالا للمقاربة والتسامح بين الأديان.. وهذا سينفي كون بقية الأديان تؤمن باليوم الآخر أيضا، وهذا سيخالف معنى الآيات القرآنية الواردة أعلاه، فالمسيحيون، عموما، بلا شك يحملون تصورا مختلفا جدا ليوم القيامة من الناحية العقائدية عن ذلك الذي عند المسلمين، وكذلك اليهود، وكذلك "الصابئين".. فعند المسيحيين مثلا توجد قصة ظهور فرسان الأبوكليبس الأربعة في يوم القيامة (Four Horsemen of Apocalypse)، وهذه القصة المرتبطة باليوم الآخر لا توجد إلا عند المسيحيين، حسب معلوماتنا، وكذلك عند المسلمين توجد علامات الساعة، كالدابة، ويأجوج ومأجوج، بصور وتفاصيل مختلفة.. وظهور المسيح من أكبر الأمثلة على هذا الاختلاف، فالعقيدة في قصة ظهوره مختلفة ومتنوعة عند معظم الأديان، وكل ديانة تزعم أنه من أهلها، والطوائف الدينية المختلفة قد فصلت له ثوبا معينا من الصفات لا بد أن يكسوه، بل إن منهم من حدد من هو بالضبط! واشترط بأن يكون هو هذا الشخص، أو أنه لن يؤمن به! ما أريد الإشارة له هو أن الأديان، بهذه المستويات من العقيدة فيها، لا يمكن أن تتعايش، أو تتسامح، تعايشا وتسامحا حقيقيان، لأن مساحة الاختلاف فيها تكون أكبر وأعمق.. هذا ما عنيناه بقولنا، في ورقة "التسامح الديني"، أن العقائد لا يمكن أن توحد بين الأديان في المستوى الأدنى المطلوب، لأنها تدعو لتوسيع هوة الاختلاف، لا ردمها! العقيدة، عموما، لا تمهد للسعة وتقبل الآخر، لأنها تضيق مجال الحرية الفكرية، والتضييق ضد السعة! وهذا الأمر يظهر جليا في تاريخ الأديان، منذ العصور الغابرة، حيث كانت الأديان الجديدة تولد بمخاض عسير، بسبب عدم القبول السلمي بها في أوساطها، وتنتشر عبر الناس بطريق الآلام والتضحية والدماء، ويبقى النزاع العنيف بينها وبين الأديان الأخرى متجسدا وغليظا.. هذه الصورة متوفرة التكرار بشكل لا يمكن أن تغفله عين في تاريخ الأديان، عموما، رغم أن له ما يبرره في سياقه التاريخي، ولكن ليس له ما يبرره في سياق هذا العصر، ولقد تطرقت ورقة "التسامح الديني" لشيء من التفصيل في هذه النقطة، فليراجع في موضعه..
الفكرة الجمهورية لم تدع لعقيدة جديدة، كغيرها من العقائد التي تظهر في الأزمنة! هي قدمت عقيدة متطورة باستمرار، بمعنى أنها لا تقبل الوضع في قالب واحد دون تغيير دائم ومتطور، بل هي تتفاعل وتتكامل مع الواقع المجتمعي والتجربة الفردية، وتكبر معهما، وهذه هي ميزة "الإيمان".. وهذا ما يجعل هذا الإيمان "علميا" ويجعل الدعوة له ليست دعوة للدين بالمعنى المألوف للأديان.. يقول الأستاذ في كتابه "أسئلة وأجوبة – الجزء الثاني": "إن الإسلام، في حقيقته، ليس دينا، بالمعنى المألوف عن الأديان، وإنما مرحلة العقيدة فيه، مرحلة انتقال إلى المرحلة العلمية منه.. مرحلة الشريعة فيه، مرحلة انتقال إلى مرتبة الحقيقة، حيث يرتفع الأفراد من الشريعة الجماعية إلى الشرائع الفردية، التي هي طرف من حقيقة كل صاحب حقيقة".. وفي مرحلة الانتقال، لا يسكن المرء على حال، إذ أنه يعلم أنه في سفر مستمر، ولهذا هو لا يستقر.. ففي دعوة الأستاذ لا يوجد استقرار على العقيدة، وإنما هو تطور مستمر.. هو إيمان..
والإيمان مستمر في الحقيقية، وهو قائم دوما حتى مع وجود العلم، كل ما هناك أنه يتطور باستمرار مع التحقيق، فإذا لم يكن هناك تطور في مستوى الإيمان، فهذا يعني أنه لا يوجد مستوى من التطور في التحقيق، فالسالك لا بد وأن يكون متطورا في مستوى إيمانه دوما.. يقول الأستاذ في "رسالة الصلاة": "فكل مسلم لا بد له أن يمر بمرحلة المؤمن، قبل أن يتخطاها بالمزيد من الإيمان، والمزيد من العلم، حتى يبلغ مرحلة الإيقان، والإيقان على مراتب ثلاث.. مرتبة علم اليقين، ومرتبة عين اليقين، ومرتبة حق اليقين، والقرآن يقول في ذلك: ((كلا لو تعلمون علم اليقين * لترون الجحيم * ثم لترونها عين اليقين * ثم لتسألن يومئذ عن النعيم)) ويقول في حق اليقين من سورة الواقعة: ((إن هذا لهو حق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم)) والإشارة بهذا إلى ((إنه لقرآن كريم)) التي سبقت السياق في هاتين الآيتين.. فحق اليقين هو القرآن.
ولا تكون مرتبة الإسلام قبل بلوغ مرتبة حق اليقين، هذه، كما سلف القول، وكلما زاد العلم كلما زاد اليقين فاطمأنت النفس، وسكن القلب، فكان الرضا وكان الإسلام. والإيمان لا ينفك سايرا نوره أمام السالك في مراقي الإسلام ذلك بأن كل درجة يبلغها ويستيقنها اليوم إنما كانت في منطقة الإيمان بالأمس، وهي لا تصبح منطقة يقين حتى يرتفع إيمانه إلى منطقة جديدة، كانت قبلا خارجة عن الاعتبار.. فالإيمان هو مقدمة الإيقان.. أو قل هو عكاز الأعمى، يتحسس به مواقع قدميه ريثما ينقلهما للأمام على بصيرة ما".. انتهى النقل.. ومما يؤكد ويدعم أن الإيمان لا ينفك سايرا نوره أمام السالك، قوله تعالى: ((وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث، فهذا يوم البعث، ولكنكم كنتم لا تعلمون)).. والله تعالى يصف نفسه بالإيمان كثيرا في كتابه، كقوله: ((هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر، سبحان الله عما يشركون)).. ويقول كذلك: ((وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم، يقولون آمنا به كل من عند ربنا..)) فللآية معنيين، في كتب التفاسير القديمة! المعنى الأول - ونورده هنا لمصلحة الجدل، مع اختلافنا معه - أن تأويله لا يعلمه إلا الله، أما الراسخون في "العلم" فهم "يؤمنون به" (وفي الواقع هذا التفسير يجعلهم "غير راسخين في العلم" إذ أنهم لا يملكون غير الإيمان!).. وتقول كتب التفاسير أيضا أن التفسير الثاني الوارد أيضا - وهو الذي نتفق معه - هو أن الراسخين في العلم أيضا يعلمون تأويله، لا بنفس مستوى علم الله بالطبع، ولكن طرفا منه، يرتقي ويعظم حسب مقاماتهم، ويستشهدون في ذلك بأقوال، كقول ابن عباس: "أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله"[2].. وإذا كان الراسخون في العلم يشتركون مع الله في علم تأويله، فهذا يعني أن الله يشترك معهم في الإيمان، كما يرد من الآية! مع اعتبار المستوى بين علمه وإيمانه وعلمهم وإيمانهم بطبيعة الحال، ولكن المهم والذي أردنا الإشارة إليه هو أن الإيمان لا ينفك سايرا نوره أمام السالك، كما قال الأستاذ، حتى بالنسبة لله نفسه (الإنسان الكامل، وليس الذات الإلهية)[3]، واسم "المؤمن"، إنما هو اسم من أسماء الله الحسنى.. فالقضية هنا ليست قضية مرحلة من التداخل بين العلم والإيمان فقط، القضية هنا قضية حضور دائم للإيمان، بعلم وبقبل علم، ولكنه إيمان متطور دوما طالما كان صاحبه سالكا، وهو بذلك لا يشبه عقائد أهل الأديان الأخرى، لأن عقائدهم لا تتطور، في عمومها، والإسلام، بهذا الطرح، يصبح "ليس دينا بالمعنى المألوف للأديان"..
(4)
ثم إن الإيمان نفسه، في الفكرة الجمهورية، يتعرض للمقياس الموضوعي، ولا يبني على الكهنوت أو البهموت، إنما يبنى على المعرفة المتنزلة لواقع الناس.. فلا يصح، في نهج الفكرة، مثلا، الاحتجاج بالعقيدة فقط على المحاور، كأن نقول له بأن يقبل النص ولا يحاجج فيه أو في فهمه بحجة أن العقيدة تلزمه بذلك.. لقد كتب الأخوان الجمهوريون كتاب "عقيدة المسلمين اليوم"، وعندما أعلنوا فيه تخلف عقيدة المسلمين اليوم، وقدموا تصحيحهم وتطويرهم لها، كانت إحدى حججهم في تصحيح هذه العقيدة، وتطويرها، هو أنها أصبحت دون قامة العصر.. وفي الأديان الأخرى، أو العقائد الأخرى، هذا لا يجوز! لا يجوز أن نحكم على العقيدة بمقياس عقل الإنسان وحال الواقع الإنساني المعاصر(قامة العصر).. لهذا أصبحت معظم العقائد المعاصرة للأديان قاصرة، وتحتاج للتطوير، بهذا الفهم في الفكرة الجمهورية.. هنا نرى فرقا واضحا أيضا بين مقياس العقيدة وصحتها في الفكرة، وبين المقياس في الأديان أو العقائد الأخرى.. يرد في الكتاب (عقيدة المسلمين اليوم) الآتي: "هذا مع أن العقيدة، في مستوى الشريعة، حتى ولو كانت على أحسن صورها من الصلاح، ومن النقاء، هي دون قامة العصر، ودون حاجته.. فإن عصرنا الحاضر، عصر التقدم العلمي الكبير، هو عصر قد وصل فيه الفرد البشري الى مستوى من الذكاء، ومن رهافة الحس، لا يقبل معه الدين الا في مستواه العلمي – مستوى اليقين.. وهو المستوى الذي تصبح فيه العقيدة، من الدقة، والوضوح، حتى لكأنها تتجسد فتصبح ملموسة"..
والتحرر من "العقيدة" يبدأ عمليا بالفكر.. فالعقيدة، في معظم جوانبها، ليس عندها الدعم الفكري المطلوب لحوار العقول، ولكن الإيمان يبنى على المنطق الفكري، أي المقياس الموضوعي.. الإيمان هو عامل أساسي في تحصيل العلم، حتى المادي منه في واقع الأمر، في حين أن "العقيدة" أو "العقيدة الغير متطورة"، بالأحرى، أو "التقديس الزائد" ليس عاملا أساسيا، وإنما معطل (واعلمــوا أن أكرم مخلـوق عنــد الله العقل، فمن عطلــه بـدعـوى بتقـديس كائن من يـكــون فقـد سـعى إلى الله بغيــر نـــور).. باختصار، مرة أخرى، عملية تطوير العقيدة، لتواكب قيم العصر وحقائق الواقع وارتقاء التجربة الفردية، هي "الإيمان" الذي عنيناه.. العقيدة المتطورة طرف أصيل من "الإيمان"، أما العقيدة الثابتة فهي "العقيدة" - كأنها "العقدة" - التي عنيناها.. ولهذا فإن الفكرة الجمهورية لم تقدم عقيدة جديدة، بالمعنى المألوف للعقائد، وقد قالت أنه في مستوى العقائد "كل حزب بما لديهم فرحون" من الآية ((فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا، كل حزب بما لديهم فرحون)).. والمستوى المعرفي الديني الذي تقدمه هي تبنيه على الفكر لا مجرد الغيبيات، وعليه فهي تدعو للإيمان وليس للعقيدة، في المعنى الذي ورد في ورقة "التسامح الديني"..
وما عنيناه بالتسامي عن العقيدة، في تلك الورقة، هو- من الناحية العملية - عدم قياس الحوارات، وتقييم الأشخاص والمواقف الفكرية بمقياس الغيبيات الصرفة، وقياسها بالمقياس الموضوعي بدل ذلك، أي بعنصر الفكر.. وعنينا به أيضا قياس الصلاح والطلاح بالمقاييس التي قالتها الفكرة (الإيمان - أيا كانت عقيدة هذا المؤمن - والعمل الصالح).. فالعقيدة التي عنيناها يختلف فيها حتى الجمهوريون أنفسهم، مثل عقيدتهم في الأستاذ، ومثل عقيدتهم في كبار القياديين الجمهوريين، ومثل عقيدتهم في فهمهم هم أنفسهم لبعض نصوص الفكرة.. الفكرة لم تدع الناس بالعقيدة، وإنما بالمقياس الموضوعي المعتمد على الإيمان، حيث أن الإيمان نفسه موجود أساسا بمقياس موضوعي.. ولهذا قال الأستاذ أنه يدعو إلى نقطة التقاء الأديان جميعا، فلو كان يدعو لمجرد عقيدة جديدة لما كان داعيا إلى نقطة الالتقاء هذه، لأن الأديان لا تقترب من بعضها في الجانب الغليظ منها، حيث العقيدة، وإنما في الجانب اللطيف منها، حيث الإيمان والعلم..
وهناك من الأمثلة العملية على هذا الأمر الكثير، منها قصة الأستاذ مع طالب جامعة الخرطوم من أصدقاء الجمهوريين، والذي قرأت قصته من ورقة نقاش داخلية، قدمها الأستاذ عمر القراي في العام 1998، قال فيها: "وأذكر أن أحد طلاب الجامعة من الأصدقاء، قال للأستاذ أنه عندما قرأ السؤال، في كتاب الرسالة الثانية، من هو رسول الرسالة الثانية؟ شعر أن الإجابة ليست في مستوى وضوح، ومواجهة الفكرة.. وكان يتوقع أن تكون الإجابة أنا محمود محمد طه رسول الرسالة الثانية!! وذكر ذلك الطالب أن الإجابة التي وردت في الكتاب بها (تواضع أكثر من اللزوم)!! لقد اتجهت إجابة الأستاذ لتؤكد أن ما جاء في الكتاب مقصود لذاته.. وأنه رغم كتابة الكتاب، يملك اليقين بالرسالة الثانية، ولا يملكه فيما يخص رسول الرسالة الثانية. بل إن هذه المنطقة منطقة شك!! وهذا الشك هو الذي يعطي الحق لكل صاحب علم، ليطرح علمه حتى يجلي الله الأمر لصاحبه في وقته".. هذا كان هو نهج الأستاذ في الحوار، ونحن نستطيع اليوم أن نتأسى به قدر استطاعتنا، وأن نقوم بالحد الأدنى منه، ونحاور الناس ونقيمهم بدون مقاييس عقائدية، ليس فيها حجة إلا على أصحابها، ولكن على غيرهم فلا..
قصي همرور
سبتمبر 2006
[1] "التسامح الديني.. ضرورة لا بديل عنها"، ورقة قدمت بمناسبة الذكرى العشرين لاستشهاد الأستاذ محمود محمد طه – مجلة (احترام)، العدد الأول، نوفمبر 2005. http://sudan-forall.org
(أيضا نشرت في صحيفة سودانايل في يناير 2005)
[2] راجع ابن كثير، تفسير الآية.
[3] للتعرف على مفهوم الفكرة الجمهورية لقضية العلاقة بين الذات الإلهية والإنسان الكامل والاسم "الله"، نرجو مطالعة بعض مصادر الفكرة، مثل (رسائل ومقالات- الكتاب الثاني).