إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

مهزلة محكمة الردة! (١-٣)

د. عمر القراي


في ذكراها المشؤومة الأربعين


مهزلة محكمة الردَّة!! (1-3)


في ذكراها المشؤومة الأربعين


د. عمر القراي



حين نكتب عن محكمة الردة، إنما نستهدف الأجيال التي لم تعاصر تلك المأساة، لتتعرّف على ملحمة من ملاحم النضال الوطني، تم فيها تعليم الشعب، بنقد علمائه، وقادته السياسيين، حين تغولوا على أخص الحريات، وتجاوزوا كل القيم الدينية، والقانونية، ليصلوا إلى غرض رخيص، هو ايقاف نشاط خصومهم الفكريين، الذين عجزوا، مراراً، من مواجهتهم في ميدان الفكر والحوار.
ولم تحدث محكمة الردّة فجأة، دون أسباب، وإنما كانت بسبب تراكم مواقف أزعجت الطائفية، وجبهة الميثاق الإسلامي، ودفعتهما ليتآمرا ضد الحزب الجمهوري، ممثلاً في شخص رئيسه الأستاذ محمود محمد طه.
ومن تلك المواقف، في تلك الفترة، أن الديمقراطية تعرّضت في بلادنا لامتحان عسير، إذ تم ذبحها بيد أحزابنا السياسية، التي ظلت طوال تاريخها، تضلل اتباعها باسم الديمقراطية.. وحين تسلّمت السلطة بعد ثورة أكتوبر 1964م، لم تتعظ بأن الشعب قد ثار على نظام عبود، وأسقطه بتلك الثورة الشعبية المشهودة، لأنه يبغض الدكتاتورية ويتطلّع دوماً للحرية.. وإنما حاولت أن تعيد الدكتاتورية نفسها، بصورة مدنية. وحتى تنفرد الأحزاب الطائفية بالسلطة، سعت إلى إبعاد الشيوعيين المناوئين لهم، والذين كانوا يكشفون زيفهم، داخل الجمعية التأسيسية.. فكانت مؤامرة حل الحزب الشيوعي السوداني عام 1965م، وطرد نوابه المنتخبين من داخل الجمعية، واصدار قرار بقفل دور حزبه. وحين رفع الشيوعيون دعواهم بعدم دستورية حل حزبهم، وقضت لهم المحكمة العليا ببطلان حل الحزب، رفضت الحكومة تنفيذ قرار المحكمة العليا، بل إن السيد الصادق المهدي، وقد كان حينذاك رئيس الوزراء، قال بأن قرار المحكمة العليا غير ملزم للحكومة. في تلك الظروف، قاد الحزب الجمهوري بقيادة الأستاذ محمود محمد طه، حملة أسبوع مناهضة حل الحزب الشيوعي السوداني. فعقد المحاضرات لمدة أسبوع كامل، يتحدث لفترة قصيرة وبفتح الفرصة الأوسع للحوار. وكان محور الحديث، يدور عن انه لا يدافع عن الشيوعية كفكرة، بل هو بعتقد أنها فكرة خاطئة، ولكنه يدافع عن حق الشيوعيين في التعبير عن فكرتهم. وأن الطائفية والاخوان المسلمين، الذين كانوا يسمون بجبهة الميثاق الإسلامي، لم يحلّوا الحزب الشيوعي لحرصهم على الإسلام، وإنما لأن الشيوعيين قد فضحوا فسادهم المالي، وعجزهم السياسي، داخل الجمعية. وان الشيوعية فكرة، ولهذا فهي لا تحارب بالمنع والطرد، وإنما تحارب بالنقاش، وتفنيد حججها، وما فعلته الطائفية بحل الحزب الشيوعي، لن يقضي على الشيوعية، بل سيزيدها قوة، ويزيد تعلق الأذكياء من ابناء شعبنا بها. ولقد أزعجت تلك الندوات، الطائفية والاخوان المسلمين، الذين كانوا يسمون في ذلك الوقت جبهة الميثاق الإسلامي. ولقد أوعزت الأحزاب الطائفية لدكتور الترابي، أن يكتب مدافعاً عن حل الحب الشيوعي، كمحاولة لمواجهة التصحيح الذي قاده الجمهوريون. فكتب الترابي كتيباً صغيراً، يؤيّد حل الحزب الشيوعي، ويدعم ذلك برؤية قانونية، نشطت دوائر حزبية كثيرة في توزيعه، والترويج له. ولما كان الترابي دكتوراً في القانون الدستوري، لم يجرؤ أحد على مواجهة ما كتب، حتى أخرج الاستاذ محمود محمد طه كتاباً اسماه (زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان: 1- الثقافة الغربية 2- الإسلام) وكتب في مقدمته (بين أيدينا، الآن، كتاب أخرجه الدكتور حسن الترابي، باسم «أضواء على المشكلة الدستورية»، وهو كتاب من حيث هو، لا قيمة له ولا خطر، لأنه متهافت، ولأنه سطحي، ولأنه ينضح بالغرض، ويتسم بقلة الذكاء الفطري. ولكن خطره إنما يجئ من مؤلفه، فإنه دكتور في القانون الدستوري، وهو قد كان عميداً من عمداء كلية الحقوق السابقين، وهو زعيم جبهة الميثاق الإسلامي، وهو عضو في الجمعية التأسيسية، وهو من مؤلفي الأزمة الدستورية، وهو مع ذلك من مستشاري مجلس السيادة، الذين على هدى نصيحتهم، يرجى لهذه الأزمة الدستورية العجيبة أن تحل) (محمود محمد طه: زعيم جبهة الميثاق الإسلامي في ميزان ص2). ومما جاء في تنفنيد رأي الترابي، بإمكانية تعديل الدستور بواسطة الجمعية، في ذلك الكتاب (ونحن لا نعتقد أن الترابي ذهب مذهبه في كتابه الغريب بفعل الرغبة أو الرهبة، بقدرما ذهبه بفعل ضحالة الثقافة، وسطحية التفكير.. يمد له في مذهبه، كونه مفتوناً بثقافته القانونية أشد الفتون. ومفتاح عقلية الترابي، ومفتاح ثقافته، في هذا الباب، يمكن أن يلتمس في فقرات كثيرات من كتابه هذا الغريب، ولكننا نرشح هنا لهذا الغرض قوله من صفحة 16 «وليس في متن الدستور ولا في مبادئ التفسير بالطبع ما يعول عليه للتفريق بين نص ونص على اساس ان هذا قابل للتعديل، والآخر غير قابل للتعديل، ولا ما يسند الزعم بأن لفصل الحقوق الأساسية خاصية تميّزه في هذا الصدد عن سائر الفصول، فكلها تستوي في قوة مفعولها، وأيما قانوني تعلل بمجرد الأهمية النسبية لهذا الفصل أو ذاك في تقديره الشخصي، فإنما هو متكلف لا شاهد له من الدستور، ومغالط لا حجة له من القانون، ومتعبّط يتجنى على القانون.. ولو صحت المفاضلة القانونية بين فصول الدستور لكان فصل الحريات من أضعفها لأنه يخضع للتشريع». هذا ما قاله الدكتور الترابي في ذلك الموضع من كتابه، والتماس فتون الدكتور بثقافته القانونية، في هذه الفقرة، لا يعني أحداً من القراء، ولذلك فإنا سنمضي في تبيين ضحالة الثقافة وسطحية التفكير.. والدستور، الذي هو لازمة من لوازم الحكم الديمقراطي، هو القانون الأساسي، وهو انما سمي قانوناً اساسياً، لأنه ينص على هذه الحقوق الاساسية، وانما سميت الهيئة التي تضع الدستور جمعية تأسيسية لأنها تضع القانون الاساسي، وواضح ان الحقوق الاساسية انما سميت حقوقاً اساسية لأنها تولد مع الإنسان.. الحياة والحرية: هي حقوق، لأنها لا تمنح، ولا تسلب في شرعة العدل.. وهي أساسية، لأنها كالغذاء وكالهواء والماء.. ويمكن اذن أن يقال إن الدستور هو «حق حرية الرأي»، وان كل مواد الدستور الأخرى، بل وكل مواد القانون، موجودة في هذه العبارة الموجزة، كما توجد الشجرة في البذرة.. فإن النخلة، بكل عروقها، وفروعها، وساقها، موجودة في «الحصاية» تراها عين العقل، فإذا وجدت «الحصاية» الظرف المناسب، من التربة والماء، خرجت منها النخلة، بكل مقوماتها وأصبحت ماثلة تراها عين الرأس أيضاً، بعد أن كانت معدومة في حقها.. وكذلك الدستور هو موجود بالجرثومة في الحق الأساسي- «حق حرية الرأي» وما الجمعية التأسيسية إلا الظرف المناسب، الذي يجعل شجرة الدستور، بفروعها، وعروقها، وساقها تنطلق من تلك البذرة الصغيرة، كما انطلقت النخلة من «الحصاية». هذا فهم للديمقراطية، والدستور، والحقوق الأساسية، يفهمه كل مثقف، استطاع ان ينفذ من قشور الثقافة الغربية إلى اللباب، ولكن الدكتور الترابي، وقف مع القشور، حين ظن ان «ليس في متن الدستور ولا في مبادئ التفسير بالطبع ما يعوّل عليه في التفريق بين نص ونص على أساس أن هذا قابل للتعديل والآخر غير قابل». ولو كان الترابي قد نفذ إلى لباب الثقافة الغربية، لعلم أن المادة 5(2) من دستور السودان المؤقت، غير قابلة للتعديل، وهذه المادة تقول «لجميع الأشخاص الحق في حرية التعبير عن آرائهم والحق في تأليف الجمعيات والاتحادات في حدود القانون» وهي غير قابلة للتعديل لأنها هي جرثومة الدستور، التي إنما يكون عليها التفريع.. وهي الدستور، فإذا عدلت تعديلاً يمكن من قيام تشريعات تصادر حرية التعبير عن الرأي، فإن الدستور قد تقوض تقويضاً تاماً.. ولا يستقيم بعد ذلك، الحديث عن الحكم الديمقراطي، الا على اساس الديمقراطية المزيفة.. وهي ما يبدو أن الدكتور الترابي قد تورط في تضليلها. المادة 5(2) هي دستور السودان المؤقت، وهي دستور السودان المستديم، وهي دستور كل حكم ديمقراطي، حيث وجد هذا الحكم الديمقراطي، وعمل الجمعية التأسيسية في وضع الدستور إنما هو تفريع عليها، ليجعل تحقيقها أكمل واتم. وهناك قولة قالها الدكتور الترابي، هي إحدى الكبر في شرعة العقل المفكر، والثقافة الصحيحة، وتلك هي قوله «ولو صحت المفاضلة القانونية بين فصول الدستور لكان فصل الحريات من اضعفها لانه يخضع للتشريع» فعبارة «لانه يخضع للتشريع» تدل دلالة قوية، على ان الدكتور يجهل أموراً ما ينبغي ان تجهل في أمر الحرية، وفي أمر التشريع.. وأول هذه الأمور، ان الحرية لا تضار بالتشريع، وانما تزدهر بالتشريع، اللهم الا إن كان هذا التشريع يقوم على نزوات الحكم المطلق، الذي يسمي نفسه ديمقراطية، زوراً وبهتاناً.. وهذا ما يبدو أن الدكتور يعنيه.. وهذه إحدى مشاكل تفكير الدكتور.. وعبارة «في حدود القانون» التي وردت في عجز المادة 5(2) هي روح المادة.. لأن القانون هو الذي يعطي الحرية معناها، ويميزها عن الفوضى.. فالتشريع صديق الحرية وليس عدوها، وكل تشريع غير ذلك لا يسمى تشريعاً، إلا من قبيل تضليل الناس.. فالتشريع في النظام الديمقراطي طرف من الدستور وهذا هو المعنى بدستورية القوانين.. فكل تشريع يعارض الحرية ليس تشريعاً دستورياً ) (المصدر السابق 13-15). مثل هذه المواجهة القوية، قد كانت مما جعل جبهة الميثاق الإسلامي والطائفية والفقهاء، يخططون لمحكمة الردّة.
وبعد ثلاثة أعوام من مسألة حلّ الحزب الشيوعي، قدم الاستاذ محمود، محاضرة بعنوان «الإسلام برسالته الأولى لا يصلح لإنسانية القرن العشرين»، أثارت جدلاً كبيراً فسعى رجال الدين لإيقافها وجاء عن ذلك (فقد ورد في «الرأي العام» عدد يوم 13/11/1968م أن السيد اسماعيل الأزهري «اصدر أمراً بمنع تقديم الاستاذ محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري في محاضرة بمعهد المعلمين العالي دعت لها الجبهة الاشتراكية الديمقراطية، وكان عنوانها «الإسلام برسالته الأولى لا يصلح لإنسانية القرن العشرين» على أساس انها تستفز مشاعر بعض المواطنين.. طلب عميد المعهد بالإنابة من الجبهة الغاء تلك الندوة، إلا أن اللجنة التنفيذية للجبهة أصرت على أن تقدم المحاضرة في موعدها، رغم تحذيرها بأن لدى سلطات الأمن أمراً بالتدخل لفض الندوة، قدمت المحاضرة في موعدها ووصلت بعض قوات الأمن إلا أنها لم تتدخل لفض الندوة، التي لم يحدث خلالها ما يعكر صفو الأمن» انتهى خبر «الرأي العام». وأحب أن أضيف هنا أن المحاضرة استقبلت بحماس، وباحترام، حتى من الذين يعارضون فكرة الحزب الجمهوري، وهي مسجلة برمتها -نص المحاضرة ونقاش من اشتركوا في النقاش- وإنما لم يتدخل البوليس لفض الندوة، وقد حضر في عربتين مستعداً لذلك لأنه لم يجد ما يوجب التدخل.. ثم أن «الرأي العام» نشرت تصحيحاً في يوم 14/11/1968م تحت عنوان: «أزهري ينفي علمه بمحاضرة محمود محمد طه والتربية والتعليم تقول بأن قاضي القضاة خاطب الأزهري بشأنها»، وقد جاء في ذلك التصحيح الآتي: «جاءنا من القصر الجمهوري أن السيد اسماعيل الأزهري ينفي جملة وتفصيلاً أنه تدخل في موضوع محاضرة الأستاذ محمود محمد طه بمعهد المعلمين العالي، ويؤكد أنه ليست له علاقة لا من قريب ولا من بعيد بهذا الأمر، وأنه لم يسمع بالمحاضرة إلا من الخبر الذي أوردته «الرأي العام» أمس.. وبنفس الوقت جاءنا من وزارة التربية والتعليم أن السيد رئيس مجلس السيادة لم يصدر أية تعليمات لمنع المحاضرة المذكورة وكل الذي حدث هو أن فضيلة مولانا قاضي قضاة السودان بعث بخطاب إلى السادة رئيس وأعضاء مجلس السيادة، بصورة لوزارة التربية والتعليم وسلطات الأمن، ينصح فيها بعدم تقديم المحاضرة خشية أن يكون فيها ما يثير المسلمين.. وتقول الوزارة إنها اتصلت من جانبها دون ايعاز من مجلس السيادة الموقر بالسيد عميد معهد المعلمين العالي لإبلاغ الطلاب مقدمي الندوة، باحتمال إثارة الأمن.. هذا نص التصحيح الذي أوردته «الرأي العام» في صفحتها السابعة يوم 14/11/1968م.. لقد ظهر من الأخبار التي ورد ذكرها، ان قاضي القضاة كان يسعى حثيثاً لإثارة السلطات ضد الحزب الجمهوري، وكان يتوكأ على نقطة الأمن، وذلك لعلمه ان المسؤولين يكونون حساسين عندما يذكر الأمن.. هل نحتاج لأن نذكّر قاضي القضاة أن يهتم بأمر الدين ويترك أمر الأمن لرجال فرغوا أنفسهم له؟ وهم به أعلم منه؟ فإن كان السيد قاضي القضاة لا قدرة له، من المستوى العلمي بمواجهة دعوة الحزب الجمهوري.. وهو ما عليه الأمر، فإنا ننصحه بأن يفتح ذهنه لهذه الدعوة، لأنها هي الإسلام، ولا إسلام إلا إياها.. فإنها هي الناطقة عن المصحف اليوم.. فإن لم تكن بقاضي القضاة حاجة إلى الإسلام فلا يقف بين الشعب وبين المعين الصافي الذي يدعو إليه الحزب الجمهوري..) (محمود محمد طه (1968) الاسلام برسالته الاولى لا يصلح لإنسانية القرن العشرين. الخرطوم. ص 44-48). لقد كان الجدل حول المحاضرة في الصحف حتى يوم 15/11/1968م، وفي يوم 18/11/1968م عقدت المحكمة التي حكمت على الأستاذ محمود محمد طه بالردّة عن الإسلام.

جريدة "الصحافة" السودانية