(ليس هذا وقت العبادة في الخلاوي، والزوايا، أيها الناس، وإنما هو وقت الجهاد.. فمن قصّر عن الجهاد، وهو قادر عليه، ألبسه الله ثوب الذل، وغضب عليه، ولعنه.. أيها الناس: من رأى منكم المظلوم فلم ينصفه، فلن ينصفه الله من عدو.. ومن رأى منكم الذليل فلم ينصره، فلن ينصره الله على عدو.. ألا ان منظر الظلم شنيع، ألا ان منظر الظلم فظيع.. فمن رأى مظلوما لا ينتصف من ظالمه، ومن رأى ذليلا لا ينتصر على مذلّه، فلم تتحرك فيه نخوة الاسلام، وشهامة الاسلام الى النصرة، والمدافعة، فليس له من الايمان ولا قلامة ظفر)..فاستجاب الناس لهذه الخطبة ، وتحركوا من توهم ضد الاستعمار وقانونه المجحف.. ونترك تصوير الأحداث لجريدة الرأي العام التي تابعت تطوراتها:
(الرأي العام 21/9/46 19م نشرنا قبل أيام، أن السلطات في رفاعة حكمت على امرأة بالسجن تحت قانون منع الخفاض، لأنها خفضت بنتا ، وأن الجمهور قابل هذا العمل بروح الاستياء العميق واضطرت السلطات الى اطلاق سراح المرأة بضمانة.. وجاءنا اليوم تلغرافيا، بتوقيع أهالي رفاعة، أن السلطات عادت فسجنت المرأة، وعندما علم الجمهور بالأمر خرج من الجامع ، واقتحم السجن، وأطلقوا سراح المرأة، ومكث أفراده الذين ملأوا السجن بدلا عنها.. فأمر المفتش بسجن الضامنين، ولكن الجمهور رفض ذلك أيضا، وفي منتصف ليلة البارحة اقتحم البوليس منزل المرأة، وأخذها الى جهة غير معلومة.. فقامت رفاعة بأسرها قاصدة الحصاحيصا، ومنعت السلطات المعدية من العبور، وأضربت المدارس، وأغلق السوق، وقامت مظاهرة عمومية، ويحتشد الجمهور الآن بالشاطيء، وفي كل مكان)..
(الرأي العام الأثنين 23/9/46 19م: وقفنا بالقارئ أمس الأول عند تجمع سكان رفاعة على شاطئ النهر، ومنع المعدية من العبور.. وقد عبر بعد ذلك فريق من المتظاهرين الى الحصاحيصا، ومن هناك انضم اليهم خلق كثير من الناس.. فتوجه الجمع الى المركز في مظاهرات واسعة، وبدأوا في قذف المركز بالطوب وغير ذلك ، فتحطم كثير من الأبواب، والنوافذ، واصطدم المتظاهرون بالبوليس الذي عمل جاهدا لتفريق المتظاهرين.. وعلى أثر ذلك، أمر سعادة مدير الجزيرة بالنيابة باطلاق سراح المرأة السجينة، فأخذها جمع من الناس وتوجه بها الى منزلها برفاعة)..
(الرأي العام 25/9/46 19م: تمّ اعتقال بعض الناس من رفاعة ، والحصاحيصا، منهم الأستاذ محمود محمد طه، وشقيقه مختار محمد طه، فوضعوا في سجون رفاعة، والحصاحيصا، ومدني.)
(الرأي العام 25/9/46 19م: اجتمع أعضاء الحزب الجمهوري مساء أمس، وساروا في موكب اخترق شارع الملك بالخرطوم.. وقد خطب منصور عبد الحميد في احدى المقاهي التي صادفتهم في الطريق، فاعتقله البوليس للتحقيق، وكان الغرض من الموكب، والخطبة، الأحتجاج على اعتقال رئيسه، والتنديد بقانون الخفاض)..
(الرأي العام 27/9/1946 م: اعتقل بوليس الخرطوم بحري مساء أمس ذا النون جباره، وعبد المنعم عبد الماجد عندما ألقيا خطابين أمام السينما الوطنية بالخرطوم بحري، نددا فيهما بالمجلس الاستشاري، وقانون الخفاض، وكبت حرية الرأي والخطابة)..
(الرأي العام 1/10/1946م:
بيان رسمي عن الحزب الجمهوري
تريد الحكومة أن تؤكد أن الأشخاص الذين قبض عليهم، في رفاعة، ثم في الخرطوم، والخرطوم بحري، لم يقبض عليهم لآرائهم عن القانون الذي يمنع الخفاض الفرعوني.. فكل شخص له الحق في أن يكون له رأيا خاصا، وأن يعرب عنه، بالطريقة المشروعة.. فالاشخاص الذين في رفاعة قبض عليهم لاثارة الشغب، والذين في الخرطوم والخرطوم بحري، قبض عليهم لالقاء خطب مثيرة، علانية، يحتمل أن تعكر صفاء الهدوء العام، وأن تثير اخلالا بالأمن)..
(الرأي العام 7/10/1946: جاءت قوة كبيرة من البوليس من مدني، برئاسة مفتش المركز وفي نفس الوقت عسكر خارج رفاعة البلوك الرابع من فرقة الهجانة بقيادة الصاغ أحمد عبد الله حامد الذي دخل الى رفاعة برفقة ضابط سياسي، وقابل المفتش، وقمندان البوليس، ورجع الى مقر فرقته.. واعتقل الأستاذ محمود محمد طه، وأحضر الى المركز.. وأثر ذلك تحرك جمهور كبير نحو المركز، وفي الحال نقل الأستاذ محمود الى معسكر البلوك الرابع، خارج المدينة.. وتحركت فصيلة من البلوك الرابع لتعزيز قوة بوليس مركز رفاعة.. وكان اطلاق الرصاص بأمر مفتش المركز، عندما رفض الجمهور اطاعة أوامر البوليس المتكررة بأن يتوقفوا عن تقدمهم صوب المركز، وقد أطلق البوليس دفعة فوق رؤوس الجمهور وهم على بعد 40 ياردة تقريبا من المركز، ولما لم يقفوا، أطلقت دفعة أخرى على الأرض أمام أقدامهم، في وقت كانت فيه مقدمة الجمهور على بعد 25 ياردة من المركز، ولم يصب غير أربعة أشخاص، أثنان منهم باصابات بسيطة جدا، وأما الرابع ، فقد كسرت ساقة كسرا سيئا)..
(الرأي العام 10/10/1946 م: علمنا أن الأستاذ محمود محمد طه رفض أن يقبل محاميا للدفاع عنه، وأنه أعلن بأنه لن يدلي بأية أقوال للتحقيق الا على أساس مناقشة قانون منع الخفاض.)
(الرأي العام 21/10/1946 م: صدرت أحكام بالسجن بمدد تتراوح بين شهر وسنة على كل من: عباس المكي، عوض القريض، أحمد الأمين، محمد الياس، الزبير جاد الرب، عبد العال حسن، أحمد عثمان، حمد النيل هاشم، علي مالك، محمد الحاج على، بابكر وقيع الله، عبد الله حامد الشيخ، حسن أحمودي، منصور رجب، عبدون عجيب.. وحكم على "صبي" بالجلد)..
(الرأي العام 17/10/1946 م: حكمت محكمة كبرى بودمدني برئاسة القاضي أبورنات، بسنتين سجنا على الأستاذ محمود محمد طه رئيس الحزب الجمهوري، بتهمة اثارة الشغب في رفاعة.. كما حكم عليه بوضعه تحت المراقبة لمدة سنة أخرى بعد اتمام مدة سجنه)..
(الرأي العام 19/10/1946 م: أصدرت محكمة الجنايات حكمها على بعض أعضاء الحزب الجمهوري المتهمين تحت المادة 105 وكانت الأحكام كالآتي: عثمان عمر العتباني: 3 شهور سجنا، سعد صالح عبد القادر: شهر سجنا ، ذا النون جباره: شهر سجنا.. وكانت المحكمة برئاسة استانلي بيكر، وعضوية محمد أفندي محمود الشايقي مفتش الخرطوم بحري، والعمدة عمر كويس)..
(الرأي العام 5/10/1946:
حضرة رئيس تحرير الرأي العام..
بالاشارة الى الخبر المنشور في صحيفتكم عن اضراب رئيس الحزب الجمهوري عن الطعام، أعرفكم أن الأستاذ كان صائما في اليوم الذي أعتقل فيه، وليس مضربا، وأنه قد أفطر ليلا.. وقد قابلت ضابط السجن – بوصفي خالا للمعتقل – في يوم وصوله، وسمح لي بتقديم الطعام اليه في كل يوم.. ومن هذا يتضح أن الأستاذ لم يكن مضربا عن الطعام كما نشر.. وختاما تقبلوا سلامنا..
التوم محمد حمزه)..
(الرأي العام 24/10/1946 م: بهذا اليوم، أتم الأستاذ محمود محمد طه، رئيس الحزب الجمهوري السجين، ستة أيام من صيامه.. وقد أغلقت أمس أندية الخريجين في مدني، والأندية الرياضية، احتجاجا على سوء معاملته.. وتتوالى برقيات الحزب الجمهوري، والمواطنين على السلطات بالاحتجاج)..
(الرأي العام 24/10/1946 من كلمة بعنوان "خواطر": (وشاءت الحكومة أن تضع الأستاذ محمود محمد طه، رئيس الحزب الجمهوري، في الدرجة الثالثة بالسجن ، حيث يلقى المعاملة التي يعامل بها حثالة المجرمين من أحقر طبقات المجتمع.. وكان أن صام الأستاذ محمود، وأضرب عن تناول الطعام، والشراب، منذ أربعة أيام ، احتجاجا على هذه المعاملة القاسية).. (هذا التصرف الغريب من قبل حكومة السودان، لايقابل من كل السودانيين الا بالاستنكار، فليس من الأنصاف في شيء، أن يوضع شخص مثل الأستاذ محمود له مكانته الملحوظة في المجتمع في الدرجة الثالثة بالسجن، وينال هذه المعاملة القاسية)..
(أصبح واجباً لزاماً علينا أن ننبه الحكومة، على ضوء ما حدث أخيراً، في أول تجربة لتطبيق هذا القانون، إلى الخطر الذي ينجم من التسرع في تطبيقه، وإلى النكبه الاجتماعية الخطيرة التي ستتعرّض لها المرأة السودانية عند تطبيق هذا القانون عليها.. ففي الحادث الأخير بدا واضحاً أن الطريقة التي اتبعت في اعتقال هذه المرأة كانت مثيرة، ولا تتفق مطلقاً مع كرامة الحكم وهيبة القضاء، فانتزاع المرأة من بيتها، في غسق الليل، وبإزار النوم، وتهريبها إلى الحصاحيصا، لا معنى له غير إثارة الخواطر أكثر ولا يجدر بالحكومة أن تلجأ إلى أساليب هي أشبه بأساليب الاختطاف التي يلجأ إليها رجال العصابات.. وليست هذه الطريقة التي اتبعت هي موضع الخطر في هذا القانون، ولكن هناك خطراً جسيماً، ولا بد من التنبيه عليه، ذلك أن المرأة السودانية الشريفة، الحرة، لم تتعرض، حتى الآن، إلى محنة السجن، بحكم حياتها الاجتماعية، التي تنأى بها عن مواطن الجريمة.. وقانون الخفاض، بوضعه الحالي، سيخلق عقاباً لجريمة سوف تتعرّض لها بالتأكيد كرائم النساء السودانيات اللواتي لا يرين أن الخفاض جريمة، بحكم ما يسيطر على عقولهن من سلطان العادات الموروثة، والتقاليد المتبعة ومعنى هذا، أنه من المحتمل جداً أن يتعرّض لسطوة القانون هذا النوع من النساء السودانيات المحصنات.. ويقيناً أن إلقاء هؤلاء في السجن، بغض النظر عن ما يثيره في نفوس رجالهن، وذويهن، فإنه من ناحية النظرة الاجتماعية المحضة، يقضي على سمعتهن، وكرامتهن قضاء مبرماً.. وما أحسب أن امرأة محصنة توضع في سجن، من هذه السجون السيئة الوضع، والرقابة، تخرج منه وهي محتفظة بسمعتها، ولن يتقبّلها المجتمع السوداني بعدها تقبلاً حسناً، إذن فالعقاب بالسجن، لمثل هذا النوع من النساء، لا يعد اصلاحاً وتهذيباً لنفوسهن، ولا يردع غيرهن، وهذا هو الغرض من سجن المجرم، إنما يعد إفساداً لخلقهن، وقضاءً مبرماً على سعادتهن في المجتمع)..