إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

من تاريخ الحزب الجمهوري السوداني

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


على شرف مئوية الأستاذ محمود محمد طه

على شرف مئوية الأستاذ محمود محمد طه

من تاريخ الحزب الجمهوري السوداني (5)


محمد محمد الأمين عبد الرازق

قضية مزارعي الجزيرة:


مشكلة مزارعي الجزيرة، كانت واحدة من القضايا التي عمل الحزب الجمهوري على استغلالها في مواجهة الانجليز، والتنديد بهم، وتصعيد العمل الوطني وإثارة حماس المواطنين للقضية الوطنية عامة.. وقد عمل الحزب على تحويل القضية من قضية فئوية تهم مزارعي الجزيرة فقط، إلي قضية وطنية عامة تهم كل قطاعات الشعب السوداني.. ولقد تفاقمت مشكلة مزارعي الجزيرة في عام1946 بسبب سوء معاملة الشركة والحكومة لهم، وبسبب وضعهم الاقتصادي السيئ.. وكان السبب المباشر في تفجير ثورة المزارعين هو مال التأمين الذي يستقطع منهم ثم لا يصرف عليهم، فقد طالبوا أن ترد إليهم أمولهم، ورفضوا أن يزرعوا القطن، حتى يتم ذلك.. وتجمهر الآلاف منهم بمديرية النيل الأزرق بمدني يطالبون بحقوقهم..
وقد اهتم الحزب الجمهوري بالقضية، وقام رئيس الحزب، الأستاذ محمود، بالاتصال بالمزارعين بنفسه، و رفع تقريرا للجنة الحزب المركزية بالخرطوم باسم السكرتير مع التوصية بمساندة المزارعين، والعمل على نشر قضيتهم وتصعيدها كعمل وطني، والسعي إلى إشراك الأحزاب الأخرى في القضية..
و قد أصدر الجمهوريون عدة منشورات حول هذه المشكلة.. جاء في المنشور الأول:
(طبقة المزارعين عامة ومزارعو الجزيرة خاصة، هم عتاد البلاد، ودعامة نهضتها، وسند استقلالها، وحريتها، فإن جاز لحكومة استعمارية وشركة أجنبية أن تستغلا طيبة نفوسهم، وجميل صبرهم على مكاره الاستغلال، وعوارض الجوع، وآلام المرضى فلا يمكن أن نتخاذل عن نصرتهم، وعلينا أن نأخذ بأيديهم مهما كلفنا ذلك من مشقة وتعب، وما ذلك إلا لأن في دفاعنا عن المزارع دفاعا عن القضية العامة، و عناية بمستقبل بلادنا..)..

ثم ذهب المنشور يدلل على أن مال التأمين هو مال المزارعين، ويجب أن يصرف عليهم.. و ختم المنشور بنداء للسودانيين عامة جاء فيه:
(أيها السودانيون: قولوا معنا يجب أن تصرف للمزارعين أموالهم، وترفع ظلامتهم، ونحن نعلم رغم البيانات الرسمية أنهم بؤساء يشكون الجوع وأنهم سقماء يشكون المرض)..

ذكرنا أن الحزب الجمهوري قد جعل من قضية مزارعي الجزيرة قضية وطنية عامة يندد فيها بالاستعمار، ويكشف مخازيه ويحرض الشعب ويثير حماسه، ويوغر صدره ضد المستعمر.. في هذا الاتجاه، جاء في المنشورالثاني:
(ما زلنا نقول بأن مال الاحتياطي، حق للمزارعين مغتصب منهم يجب أن يرد إليهم، على أننا لا نعتقد أن مشكلة هذا المال هي أهم ما في قضية هؤلاء المزارعين، فإن لهم قضية كبرى تقوم برهانا قاطعا ودليلا واضحا على فشل الحكم الثنائي، وفداحة الاستغلال الاستعماري.. فمزارع الجزيرة: هذا الرجل الكادح الذي يعمل ليل نهار، ويصطلي بنار الشمس المحرقة طيلة هذه الساعات، من يصدق أنه يمر عليه اليوم من الأيام، ولا يجد فيه الطعام، وتمر أيام بل شهور لا يجد فيها الغطاء و الكساء!! من يصدق أن معيشته منخفضة انخفاضا يذري بكرامة السودان، ويحط بقيمة الإنسان إلى درك الحيوان!؟ هذا المزارع هو الذي يفلح الأرض، ويزرعها، ويسهر عليها، ويرعاها وهو الذي يحصدها عندما تؤتي أكلها و لكنه و ياللأسف – لا يجد من أكلها ما يقيم به أوده و يسد به رمقه.. فغيره: الشركة الزراعية، والحكومة الاستعمارية، والمتاجر البريطانية، هم اللذين ينعمون بثمارها، ويملأون الخزائن من أرباحها.. أما هو فحساباته مغطاة عليه، وأرباحه محدودة بنسبة مئويه ضئيلة لا تتفق ومجهوده الذي يقوم به، ولا تكفي لأدنى ما يتطلبه الإنسان من مأكل و مشرب و ملبس..)..

ثم يمضي المنشور حتى يختتم بتحريض لعامة المواطنين بمناصرة المزارعين ضد المستعمر، و بتحريض المزارعين على التمسك بقضيتهم:
(أيها السودانيون: إننا نهيب بكم أن تناصروا مزارعي الجزيرة فتنصروهم على أعداء الله والوطن والإنسانية.. أيها المزارعون:وحدوا كلمتكم، واعرفوا حقكم، ولا تتنازعوا على مطالبكم، فإننا معكم و الله معنا، ولنا أعمالنا، وسينصرنا على القوم الكافرين)..

لقد أصدر الجمهوريون عدة منشورات في هذه القضية، نكتفي منها بما عرضناه من نماذج، وحثوا الأحزاب الأخرى بتبني قضية المزارعين، واستغلالها في تصعيد العمل الوطني ضد المستعمر، كما قاموا بصياغة عريضة المزارعين لمدير مديرية النيل الأزرق، وضمنوها مطالب المزارعين التي لخصت حسب ما جاء في العريضة في:
1/ أن تصرف لنا حقوقنا في المال الاحتياطي لأن الموقف صعب، ولقد بلغ منا التعب، وضيق العيش، وضيق ذات اليد مبلغا، ولا ننتظر سنة أسوأ من هذه السنة، ولا حاجة أمس من هذه الحاجة.. إن السبب الذي برر للحكومة ان تصرف من مال الاحتياطي على الترفيه، هذا السبب نفسه نعتمد عليه في مطالبنا، ولكن لا للترفيه بل لإزالة الضرورة..
2/ نطالب بتعديل نصيب المزارع، ورفع حصته من40% ألى ما لا يقل عن 50% سواء هذه الزيادة كانت على حساب الشركة، أو من نصيب الحكومة..
3/ نطالب الشركة بأن تقدم للمزارعين في نهاية كل موسم حسابات واضحة ليعرفوا موقفهم من قطنهم، إذ لا شك أن المزارع طرف من أطراف العقد..
4/ نطالب الشركة أوالحكومة أن تأخذ نصيبها من مصاريف الحواشة جميعها..
5/ أن يكون للمزارع الحق في أن ينتدب من ينوب عنه في مراجعة الحسابات..
6/ أن تسمح الحكومة للمزارعين بتشكيل هيئة ينتخبونها في كل عام تكون لسانهم الرسمي، ويسهل عن طريقها الإتصال بالمزارعين وتعرف رغباتهم..


قانون الخفاض الفرعوني:


في عام 1945م وقد انتظمت البلاد حماسة وطنية عارمة، وتكثف النشاط السياسي، قام الانجليز بمكرهم ودهائهم المعهود، بسن قانون منع الخفاض الفرعوني،و قد جاء هذا القانون في الوقت الذي ارتفع فيه صوت السودانيين في المطالبة بالاستقلال.. ولما كانت الحكومة البريطانية إنما تبيت أمرا وراء موضوع الخفاض، فقد اثارته في البرلمان الانجليزي، وتبادلت الخطابات بصددهم مع أغاخان في الهند، وكل ذلك لغرض إدانة السودان، واظهاره بمظهر التخلف والهمجية، الأمر الدي يبرر للانجليز القول بأن السودان لم يتهيأ بعد للاستقلال.. ولقد جازت خدعة الانجليزعلى معظم الوطنيين، و لم يروا في القانون سوى قانون يحارب عادة سيئة، وهو في مصلحة المرأة، فقد غفلوا عن مرامي المشرع الحقيقية ومرت فيهم خدعة الإنجليز.. هذا وقد أجاز المجلس الاستشاري لشمال السودان القانون دون تردد، وهو مجلس جميع أعضائه معينون تعيينا من الحاكم العام، ولا يجتمعون إلا إذا دعاهم هو.. أما الحزب الجمهوري فقد كانت الرؤية واضحة له، ولم تفت عليه المرامي الاستعمارية الخبيثة وراء القانون، فعمل على تفويت الفرصة على الانجليز بكشف مخططهم، ونواياهم الحقيقية وراء القانون، واستغلال ذلك في تصعيد العمل الوطني ضدهم، بدلاً من أن يستغلونه هم ضد السودان وحركته الوطنية.. فمنذ البداية قام الحزب في ديسمبر 1945م، باصدار منشور وافي يناقش فيه القانون ويفضح فيه أغراض الانجليز الخفية من ورائه.. والمنشور يقع في خمس صفحات فلسكاب، ومقسم الى فقرات من (أ)و حتى (ج) ثماني فقرات.. وقد تعرض المنشور الى أساليب الاستعمار الانجليزي، وسوء القصد المبيت، وراء اصدار القانون في هذا الوقت، والدعاية له بالصورة التي تجاوزت حدود السودان الى بريطانيا، والهند مما يؤكد سوء القصد والغرض المبيت، كما تناول المنشور القانون كأسلوب لمحاربة عادة متأصلة كعادة الخفاض الفرعوني في السودان، ومرتبطة في أذهان المواطنين بالشرف، ثم ذهب يحلل دوافع القانون، ومرامه.. ولم يكن غائباً عن الجمهوريين سوء الخفاض الفرعوني، وحتى لا يعطوا الانجليز فرصة إظهارهم بمظهر من يدافع عن عادة سيئة وضارة، فقد بدأوا منشورهم بالعبارات:
(لا نريد بكتابنا هذا ان نقف موقف المدافع عن الخفاض الفرعوني، ولا نريد ان نتعرض بالتحليل للظروف التي أوحت به لأهل السودان)..

وعن سوء عادة الخفاض الفرعوني جاء في المنشور في إطار التنديد بالانجليز قوله:
(إن المرأة لبنالها من البغاء من التعذيب النفساني، والجسماني أضعاف ما ينالها من الخفاض الفرعوني، رغم شروره وفساده، وعدم فائدته..)..

وتساءل المنشور:
(إذا كانت الحكومة ترمي الى محاربة العادات السيئة، فلماذا لم تحرم البغاء المنتشر، ولماذا لم تثر عادة البغاء في البرلمان الانجليزي كما اثارت عادة الخفاض الفرعوني؟
ورد المنشور على الزعم بأن قضية الخفاض انما أثيرت إشفاقاً بالمرأة، ودحض هذه الحجة، فقال: إن أصحاب هذه الحجة لن يجدوا اثراً لمثل هذا الإشفاق في مدى الخمسين عام التي مكثتها حكومة السودان، وتقصيرها ظاهر ملموس في ناحية المرأة التعليمية والاجتماعية والصحية)..

و ذهب يفصل في اهمال تعليم المرأة وإهمال الرعاية الصحية لها حتى إنه حتى الآن لم يبعث طبيباً سودانياً واحداً ليتخصص في امراض النساء على كثرتها..
(وأما من الناحية الاجتماعية فلأنها لم تلق بالا لناحية البغاء، الذي تعترف به وتحتجز منه لجيوشها أماكن خاصة.. ولو كانت الحكومة تقصد الى انتشال المرأة لوفرت لها التعليم، ولاختصتها بالعناية الصحية، ولأزالت من طريقها الضرورات التي تلجئها للبغاء!!)..

وذهب المنشور يربط بين قانون الخفاض الفرعوني وتوقيته، وبين مطالبة السودانيين بحق تقرير المصير، ووصل إلى نتيجة، أن موضوع الخفاض ما أُثير من قبل الإنجليز في هذا التوقيت الا ليقولوا للعالم: إن السودان لا يزال متخلفا، ولا يستحق حق تقرير المصير كما فعلوا مع الهند.. هذا وقد أشار المنشور إلى تقرير صحفي رفعه صحفي بريطاني زار الهند كتب فيه العادات السيئة في الهند ورفعه للبرلمان يناشد بريطانيا الاستمرار في حكم الهند..
وعن القانون قال المنشور:
(لاشك في أن مجرد التفكير في الالتجاء الى القانون، للقضاء على عادة مستأصلة في النفوس، تأصل الخفاض الفرعوني دليل قاطع على أن حكومة السودان، اما أن يكون قد رسخ في ذهنها أننا شعب تستطيع القوة وحدها أن تثنيه عن كل مبدأ، أوعقيدة، أو أن تكون قد أرادت أن تقول للعالم الخارجي إن السودانيين قوم متعنتون، وأن تعنتهم الذي ألجأنا للقانون لاستئصال عادة الخفاض الفرعوني الهمجية، هو نفس التعنّت الذي وقف في سبيلنا، وشل أيدينا عن استعمال الأراضي الواسعة الخصبة في الجنوب، والأستفادة من مياه الدندر، والرهد، والأتبرا، والتوسع في التعليم.. هذا من ناحية الالتجاء للقانون.. وأما القانون في ذاته فهو قانون أريد به اذلال النفوس، واهدار الكرامة، والترويض على النقائص والمهانة..
قل لي بربك!! أي رجل يرضى بأن يشتهر بالتجسس على عرض جاره؟؟ وأي كريم يرضى أن يكون سببا في ارسال بنات جاره، أو صديقه، أو عشيره للطبيب للكشف عليهن؟؟ عجبا لكم ياواضعي القانون!! أمن العدل، والقانون أن تستذلونا باسم القانون؟؟ أو من الرأفة بالفتاة أن تلقوا بكاسيها في أعماق السجون؟؟)..

وقد ختم المنشور بنداء للسودانيين جاء فيه:
(أيها السودانيون: لقد جاء بياننا شارحا ما كان، ومتنبئا بما سيكون، وسوف تقام لنا بعد هذا، مشاريع كثيرة بإسم الإصلاح ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبلة العذاب، قد تجوز فيها الخدعة على الكثيرين.. ولكن الحزب الجمهوري قد قطع على نفسه بأن يكشف القناع عن متشابهها، ويحد من خطورتها، ويعمل لإزالتها، ولن يخشى بعد اليوم غير الله احدا)..

هكذا وضح الجمهوريون منذ البداية المرامي الاستعمارية وراء قانون الخفاض الفرعوني، في تحليل دقيق و مفصل و حجج واضحة و دامغة.. ثم اتجهوا إلى استغلال القانون لتصعيد النشاط الوطني ضد المستعمرحتى يردوا كيده في نحره فلجأوا إلى المنشورات والى القصائد الوطنية يلهبون حماس الشعب.. و تميزت تلك المنشورات بكفاءة عالية في المقدرة على الإثارة، إثارة العاطفة الدينية والوطنية، وإثارة النخوة والرجولة والغيرة على العرض في لغة رصينة، وبيان بليغ، ونحن سنكتفي هنا بعرض نموذج واحد من مناشير الخفاض الفرعوني، إضافة إلى ما ورد، فقد جاء في المنشور الثاني عن القانون الخفاض ما نصه:
(أيها السودانيون: احذروا، لقد تقبلتم تبرج نسائكم باسم المدنية، ورضيتم بالزنا باسم الحرية، وها أنتم تتقبلون التجسس باسم القانون، وباسم الإشفاق على المرأة والانسانية!!
أيها السودانيون: إن قانون الخفاض يأمركم صراحة بالنزول عن صرح رجولتكم،والخروج عن آداب دينكم، وأوامر كتابكم الذي ينهاكم عن التجسس، ويربأ بكم أن تقفوا عند مواقف الخذلان)
.. بعد هذا الشرح الموثق، هل هناك أي قدر من العذر لمن بظن مجرد الظن أن الجمهوريين، كانوا بموقفهم هذا يدافعون عن الخفاض الفرعوني؟؟ على كل حال سنقدم بحثا مفصلا حول موضوع الخفاض نوضح فيه القول الفصل فيه من الناحية الدينية، ولكننا نقرر في هذه العجالة، وبصورة حاسمة: لا يوجد أي نوع من الخفاض في السنة النبوية، ومن يقول بذلك إنما يفتري على الله وعلى النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم..