إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الدكتور أحمد دالي لأجراس الحرية: الحلقة الأولى

حوار أجراه بواشنطن: عبد الفتاح عرمان



الأستاذ محمود محمد طه ظاهره وباطنه واحد
عاش فى بيت من الجالوص .. صالونه من العناقريب والبروش



الدكتور أحمد المصطفى دالي، القيادي الجمهوري البارز وأحد تلامذة الأستاذ الشهيد محمود محمد طه الذين عايشوه وعاشوا معه تجربة فريدة لبعث الإسلام من جديد في محاولة منهم لترسيخ الإسلام في قلوب الناس قبل عقولهم. وعلى أيام الديكتاتور الراحل نميري حذروا من قوانين الشريعة (السبتمبرية) التي تهدد وحدة البلاد.. وبعد قرابة الثلاثين عاما تصدق نبوءة الأستاذ الشهيد وتلامذته حيث تقسم البلد الآن حقا لا كذبا. في هذا الحوار المطول يحكي دالي عن الأستاذ الشهيد محمود محمد طه الذي عرف عن قرب؛ وعن ثباته عندما حانت ساعة الحقيقة. فإلى مضابط الحوار:
* حدثنا عن الوجه الآخر للاستاذ الشهيد محمود محمد طه؟
الاستاذ محمود محمد طه لديه وجه واحد ، وقد كان دوماً كما وصفته صحفية أجنبية (He is all together ) بمعني أن ظاهره وباطنه شىء واحد، وهذا هو التوحيد الذى كان يوصي به دوماً. التوحيد بألا يكون للشخص باطن وظاهر، والتوحيد صفة المِوحِّد (بكسر الحاء) وليس صفة المُوحَّد (بفتح الحاء) اى ان التوحيد صفة الإنسان وليس صفة الله ، لأن الله غني عن ذلك اذ انه وحّد ذاته بذاته، وشهد لنفسه بذلك فى قوله تعالى : (شهد الله انه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط ، لا إله الا هو العزيز الحكيم) .
الله سبحانه وتعالي ليس في حوجة الى التوحيد ولكن الإنسان هو الذى في حوجة الى ذلك لأن الإنسان منقسم بين ظاهر وباطن . وكما يرى الاستاذ محمود فأن الانسان مثل الطبيعة ، (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ﴾.. هذا الفتق يحدث داخل النفس البشرية و نتيجة لذلك تخرج من النفس الامارة بالسوء النفس اللوّامة ، وهى المرحلة الثانية من تطور الانسان السالك فى مدارج القرب من الله . وكما في قوله تعالي: (وجعلنا من الماء كل شىء حي) فأن الماء في باطن النفس البشرية هو العلم الذى يحييها من الموات الداخلي حتي يصبح داخل الانسان وباطنه شيئاً واحداً، وهذه رحلة السلوك والمعراج .
و الصلاة هى معراج الانسان الى ربه وهي بذلك وسيلة لتوحيد البنية البشرية المنقسمة بين ظاهر و باطن بهذا المعني.
اما الانسان السالك في طريق النبي (صلى الله عليه وسلم ) قاصدا الى الله كأنما يخرج من هذا السجن الرهيب . المسلمون اليوم من وجهة نظر الفكرة الجمهورية لا يصلون وإنما يدورون مثل حمار الرحي او (جمل العصارة) ينتهي عند المنطقة التي بدأ فيها. الإنسان لو صلي ركعتين مقبولتين من المفترض ان يكون احسن حالاً قبل أدائهما.
-مقاطعة-
- سوف ناتي لهذا الأمر، ولكن لنعد السؤال بصورة آخرى. حدثنا عن محمود الإنسان؟ وحياته اليومية..
كان الاستاذ محمود رجلاً بسيطاً جداً جداً. يكتفي من الحياة بأقلها، وهو يقول على الشخص ان يعيش (في هذه الحياة) الكفاف، وهذه دعوة النبي (صلى الله عليه وسلم): (اللهم اجعل قوت آل محمد الكفاف) .
ولذلك كان بيته من (جالوص) في حارة شعبية، وهي الحارة الاولى، وهو بيت مساحته ثلاثمائة متر فقط ، وهي اصغر الوحدات التي يتم توزيعها في الأراضي حسب علمي.
بيت الجالوص هذا كل الاشياء التي به من حمام وبيت ادب كانت اشياء بسيطة جداً، وتمثل الحد الادني. ولم تكن هنالك ادوات كهربائية في المطبخ مثلاً ولا حتى مروحة سقف، والحمام عادى (ما فيه دُش) بل (طشت)، وصالونه كان مكوناً من عناقريب، وبروش وكراسي حديد مجلدة ببلاستيك.
وكانت وجبات الاستاذ محمود ما تيسر من الأكل وهي (الكِسرة) معها (ملاح ويكة بدون لحم) تقريباً. وكنت دائماً تجده جالساً لانه باستمرار تجد عنده ضيوف، فكان يترك الضيوف يأكلون أولاً ثم ياكل ما تيسر لاحقاً بعد ضيوفه.
لم يحدث مطلقاً أن سافر بالقطار على الدرجة الاولى بل كان دوماً يسافر في الدرجة الرابعة، وكان يركب (البص) ويقول لنا: الكرسي في البص عند الشاب امانة، اذا جاء رجل مسن او او امرأة مسنة او شابة فهو من نصيبهما. ويقول لنا : اذا لم تمنح مقعدك في البص لهما فأن مروءتك ستنقص فى لحظتها.
كان الاستاذ محمود ايضاً، يزور المريض ويتبع الجنازة ويحل المشاكل. حياته بسيطة جداً جداً، انت اذا زرته تشعر بأنك امام رجل بسيط يعيش الحياة ببساطة شديدة جداً جداً مثل اى سوداني بسيط . وعندما كان بعض الناس يقصدونه لا يعرفونه من شدة بساطته، كان بعض الزوار يسألون فى حضرته : عاوزين الاستاذ محمود ؟، فكان يرد: وصلت يا اخوي.
و كانت من مقولاته الاساسية فى هذا الخصوص : "ساووا السودانيين في الفقر إلى أن يتساووا في الغني" . هذا رغم انه كان من اوائل الخريجين وكان دخله عالياً، وكل زملائه يعرفون هذا الامر لكنه آثر ان تكون حياته الكفاف.
وكان تفسير الاستاذ محمود لحديث: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، وأعمل لآخرتك كانك تموت غدا"، تفسيرا غريبا ولم اسمعه من غيره ، قال: أي امر من أمور الدنيا أخِّره كانك تعيش ابدا، بمعني انك لو مسافر بعد سبعة اشهر لا تبدأ باعداد حقيبة سفرك اليوم لان هذه ليست اولويتك الآن، لكن الناس فهمت عبارة (اعمل لدنياك كانك تعيش ابدا) بأعتبارها التوسع في الدنيا كأنك تعيش ابدا. لكن الأستاذ قال لا، وان على الانسان باستمرار أن يعجل بأمر الآخرة كأنه يموت غداً، واى شىء يطرأ في امر الدنيا يجب تأخيره كانما لديك وقت طويل له.
هذه باختصار لمحة من حياة الاستاذ محمود ، فهو كأنما نصب له علم ، كما في الحديث النبوى في وصف النبي (ص): (كان محمد كأنما نصب له علمً فشمر يطلبه) . كان الاستاذ محمود باستمرار جاداً في مسألة السلوك، وعندما نكون في حضرته كان يحرص ان يكون وقتنا مليئاً بالذكر والفكر.
- ما الدافع الذى يجعل الاستاذ محمود يعيش بتلك الصورة القاسية ؟
بالنسبة له، لم تكن تلك الحياة قاسية لانه كان يفتكر ان هذا هو الشىء الطبيعي لأن الجسد لا يحتاج من هذه الدنيا كل هذه (الدوشة) ووهم الإستهلاك ، و انه – الجسد - يحيا بالحد الأدني، وكما قال الشاعر: (فلا هطلت علىَّ ولا بأرضى سحائب ليس تنتظم البلادا).
واذا كان الآخرون في تعب وشح فليس هنالك معني او قيمة للقائد ان تكون حياته متوسعة وفى رغد العيش، وهذا من الناحيتين، الناحية السلوكية للفرد نفسه، وايضا من ناحية اخرى انك اذا كنت بتقود ناس عليك ان ترسي أنموذج، فلا يمكن ان تتوسع فى الحياة وتطالب فى الوقت نفسه بأن تتقدم الناس البسطاء وتحل مشاكلهم.
مثل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما كانت زوجته تجمع في اشياء لصناعة حلوى قال لها: هذا زاد عن حوجتنا فعليه يجب ان يرجع الى بيت مال المسلمين . لأن هنالك من كانوا يحتاجون ليعيشوا الحد الأدني ، وهذا السبب في أن تعيش الحياة بالحد الأدني وتكون راضياً تمام الرضى، وتترك الفائض للاخرين .
ومن هنا تاتي الإشتراكية، وهي ان تنتج كثيراً وتستهلك قليلاً وتعطي فائض إنتاجك لغيرك. هذه قيمة سلوكية للفرد ولكن فيها حل مشكلة الجماعة الاقتصادية. وعندما تتوسع حياة الشعب وتتحسن ظروفه المعيشية يمكنك أن تنال ايضاً نصيبك من هذا التوسع كعامة الشعب.
الأمر عند الأستاذ محمود ان يعيش الانسان ما يدعو له اولا قبل ان يخرج الى الناس ليحدثهم به حتى لا يصبح منتظرا لعطايا الناس مثل القساوسة في زمن مضى، والذين قال عنهم كارل ماركس: انهم يطلبون من الناس صكوك الغفران ليعيشوا هم في حياة رغدة ويعدون الآخرين بالغفران ودخول الجنة، وأضاف ماركس: لو كانت هنالك جنة (نار) لكان أولى بها هؤلاء القساوسة.
فهذا أنموذج منفر لأن الناس اذكياء وعندما تدعوهم الي قيمة عليا سوف يطالبونك ان تكون في مستواها، وهذا هو السبب الذى يجعل الاستاذ محمود يعيش تلك الحياة، فهي بالنسبة له قيمة سلوكية، وفوق هذا انه يمثل قدوة للناس ويمثل أنموذجاً ليكون في مستوى ما يقول.
* كيف توصل الاستاذ محمود للفكرة الجمهورية وماهي اهم مرتكزاتها؟
الاستاذ محمود لم يجلس للتخطيط لهذه الفكرة بمعني انه لم ير مشاكل محددة وذهب لقراءة الكتب حتي يجد حلاً لتلك المشاكل. الاستاذ محمود قال انه عندما تخرج من كلية غردون نظر حوله وقام بتأسيس الحزب الجمهورى وقال هنالك فراغان، وهما فراغ الحماس لمقاومة الاستعمار وفراغ المذهبية التى يمكن ان يرفع بها وعى الشعب . قال ان الذين يشتغلون للاستقلال ليس لديهم الحماس الكافي لانهم كانوا يعتقدون أن الاستقلال يأتي بالنقاش مع المصريين وهم مستعمرون ، وكان الحزبان الكبيران، احدهم متعاطف مع الانجليز والانجليز متعاطفون معه، والآخر متعاطف مع المصريين والمصريون متعاطفون معه ، والمصريون والانجليز في نهاية المطاف هم المستعمر.
الخريجون فى ذلك الوقت انقسموا بين هذين الحزبين الكبيرين لأن الانتماء لهما هو الطريق السريع للاستوزار، اذا اردت ان تستوزر عليك الذهاب للطائفة الجاهزة ، وهذا ما حدث. الاستاذ محمود قال إن الاستقلال يأتي عندما يناضل الناس ضد الإستعمار، وبدأ حركته تلك وقال: نملأ في الأول فراغ الحماس.
وقام بتوزيع المنشورات وتم سجنه بواسطة سلطة الاستعمار ثم بعدها قال الإنجليز: We are not going to make a hero out of Mahmoud Mohammed Taha. وطلبوا منه أن يكمل المدة في السجن او يكتب تعهدا بعدم مقاومة الاستعمار، فقال لهم انه يفضل البقاء في السجن، و بالفعل سجن خمسين يوما وكان بذلك اول سجين سياسى فى فترة الاستعمار ثم بعد ذلك قرر الانجليز إطلاق سراحه.
بعدها حصلت حادثة الخفاض الفرعوني فى مدينة رفاعة او ما عرفت بواقعة (فتاة رفاعة) والأستاذ محمود قال إنها عادة سيئة لكن الشعب لن يتركها بالقانون وتحويل المجتمع للتجسس على بعضه البعض، وإنما تأتي بالتربية وعلى الاستعمار أن يخرج نفسه عن هذا الأمر وسوف يعالج السودانيون هذه القضية بطريقتهم، و كان تحليل الاستاذ محمود للامر ان الاستعمار البريطانى يريد ان يقول للعالم الخارجي اننا لا نستطيع حكم انفسنا بانفسنا وغير مؤهلين لنيل الاستقلال، لأن بريطانيا وقتها كانت قد وعدت المستعمرات التى تحت حكمها بالاستقلال اذا ما وقفت إلى جانبها وجانب الحلفاء فى الحرب العالمية الثانية ضد النازية والفاشية فكان الانجليز يريدون ان يقولوا للعالم: هؤلاء متخلفون ويمارسون هذه العادة، فعليه لا يستحقون الاستقلال .
الاستاذ محمود استغل هذه المسألة ليقول للانجليز إن الشعب السوداني لا يقبل الهوان، وذهب إلى السجن في 1946 لمدة عامين في هذا الامر. وقد قال عن تلك التجربة: (حينما استقر بي المقام في السجن علمت أني قد جئت على قدر من ربي فخلوت اليه).
مارس الاستاذ محمود التعبد داخل السجن على المنهاج النبوي ومن ثم بدأ يأتيه العلم على غرار: (واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شىء عليم). اذاً هو لم يخطط لهذا الأمر وإنما شعر بأن الله قد ساقه إلى هذه المسألة سوقاً حينما دخل إلى السجن.
وبدأ وهو فى السجن يمارس العبادة بصورة لم يتصورها الناس . الاستاذ محمود كان يصلي ويصوم صيام المواصلة (الصيام الصمدى) ويقرأ القرآن، وكان يكسر لوائح السجن لأنه لا يقف للضباط الانجليز عندما يكونون فى مرور داخل السجن، لذا فانهم ذهبوا به إلى الحبس الإنفرادى، وفي الحبس الإنفرادى كان يدخل في صيام صمدي، والصيام الصمدى مثلاً ان تصوم نهار اليوم وتواصل الليل من غير إفطار حتى اليوم الثاني والثالث ثم تفطر في المساء. كان يصوم صياماً صمدياً ثلاثة ايام، وأحياناً يصوم اسبوعاً كاملاً ومرات يصوم واحداً وعشرين يوماً.
هذه الحالة أربكت مسؤولي السجن من الانجليز لأنهم كانوا يظنون انه دخل فى اضراب عن الطعام فجاءوا له بوساطات وكان يقول لهم: انا لست مضرباً بل صائماً. وعندما شكوّا بانه ربما كان يتناول جزءاً من الطعام والشراب المقدم له كانوا يزنون هذا الطعام والشراب ولم يجدوا فيه اى نقصان فى الوزن الا بالقدر الذى يذهب مع التبخر او أي شىء من ذاك القبيل.
و عندما خرج الاستاذ محمود من السجن بعد أن أمضى عقوبة العامين التى حكم عليه بها قال إنه شعر بأن عليه أن يواصل خلوته هذه في منزله بمدينة رفاعة واستمر في هذه الحالة لمدة ثلاث سنوات أخرى .
- متى كان هذا الأمر؟
كان السجن منذ العام 1946 الى 1948م ثم واصل الاستاذ محمود بعدها خلوته منذ ذلك التاريخ إلى العام 1951 . في هذه الفترة استقرت عنده معالم الفكرة الجمهورية، وهذا هو فراغ المذهبية الذى كان يبحث عنه . أتت إليه من غير تخطيط