إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

البعد الفكري في كلمة الأستاذ محمود محمد طه أمام المحكمة (٢)

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


يناير ٢٠١٥

في آخر لقاء بين الأستاذ محمود والأخوان الأربعة الذين كانوا معه في زنازين الإعدام، سألهم: هل نحن قمنا بأداء الواجب المباشر؟؟ أجابوا: نعم.. فرد عليهم: إذن ترضوا بالنتيجة!! ثم واصل: واعلموا أن ما يريده الله خير ليكم، موتا كان أو حياة!!
وهذا البعد الروحي في غاية الأهمية، لكل سالك في الطريق النبوي، إذ أن المطلوب دينا في الأساس هو الدفاع عن المستضعفين في الأرض.. وهذا الدفاع يضع المدافع تحت بطش الظالمين، وقد ينتهي به إلى الموت، فيكون موته فداء للمستضعفين، ولذلك ورد التحدي في القرآن: “قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين”..
سأل الأستاذ محمود محمد طه أحد تلاميذه : هل تدخل سينما ؟ أجاب التلميذ : نعم با أستاذ.. واصل الأستاذ: أي الأفلام أحب إلى نفسك؟ أجاب : الكاوبوي والأفلام الهندية.. ثم سأل: ما رأيك في الفلم الذي ينتهي بموت البطل؟ أجاب التلميذ مستغربا : بطلو يموت !؟ الأستاذ: نعم.. أجاب : والله دا فلم بايخ يا أستاذ!! فضحك الأستاذ ثم قال: إيه رأيك إذا قلنا ليك الفلم البطلو بموت دا، هو الفلم الممتار!! أجاب : كلام غريب!!
على خلفية هذا الحوار واصل الأستاذ حديثه حول أصل الموضوع فقال ما معناه : الحقيقة إعجاب المشاهدين ببطل الفلم الجيد ناتج من تجويده لدوره، والتجويد ناتج من المعرفة، لأنو عارف المطلوب منو بدقة.. ونحن إذا تحققت لنا المعرفة بدورنا والمطلوب مننا في حياتنا، فإننا نجود دورنا بأكمل مما يفعل بطل الفلم.. لكن الخوف الناتج من الجهل يجعلنا متقاعسين عن أداء دورنا بالصورة المطلوبة إلى أن يأتينا الموت فلا نموت ميتة الأبطال.. فإذا تحققت المعرفة بهذا المستوى، لإنسان فإنه يعيش حياته بطلا ويموت بطلا..
السؤال هو: كيف نتمكن من تحقيق هذه المعرفة ؟
إن أول خطوة في هذا الطريق، طريق المعرفة، هي العمل على التحرر من الخوف الساذج، وذلك بتوحيد الخوف في مصدر واحد هو الله.. وبذلك يقع في نفوسنا معنى التحرر من تعدد مصادره لأنها جميعها تحت سيطرة الخالق في الحقيقة، فهو الفاعل الأصلي والوحيد.. قال تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها، إن ذلك على الله يسير* لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم.. والله لا يحب كل مختال فخور)
إن الخوف هو الأب الشرعي لجميع معايب السلوك التي إيفت بها الحياة اليشرية عبر مختلف عصورها.. فالبخل مثلا، سببه الخوف من الموت جوعا، وفي سبيل ضمان الرزق تأتي الحروب والصراعات العنيفة التي تهلك الزرع والضرع والإنسان نفسه، والسبب الأساسي هو الحوف من غير الله.. ومن أجل تأكيد وحدة الفاعل في موضوع الرزق جاء في القرآن: (وفي السماء رزقكم وما توعدون*فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون).. إذن المعرفة بالتوحيد هي المدخل على التحرر من الخوف من أجل التخلص من الصفات الحيوانية في الإنسان وتثبيت الصفات الإنسانية.. ولذلك تجد أن الدعوات الدينية دائما تبدأ بالدعوة إلى التوحيد، لأنه هو الأساس الذى تنبني عليه جميع القيم الفاضلة من الناحية العلمية وكذلك من الناحية العقائدية..
ويشير الأستاذ محمود إلى أن الإنسان في سباق مع الموت، ولايمكن التحرر من الخوف نهائيا إلا بالاطّلاع على حقيقة ما بعد الموت، فإذا تحققت هذه المشاهدة اليقينية لعابد فإنه ينتقل بالموت كما ينتقل المهاجر من بلد إلى آخر.. ومن هنا يمكن أن نتصور أبعاد البطولة في الموت التي يعنيها الأستاذ محمود في الحوار الذي أوردناه في صدر هذا البحث.. وحول سؤال: كيف يبرر الإسلام الموت؟ جاء في كتاب أسئلة وأجوبة ــ الجزء الأول ما يلي:
(الموت الحسي ليس، في حقيقته، كما نظنه نحن الآن، وإنما هو ميلاد في حيز غير الحيز الذي نألفه نحن، مثله، في ذلك، مثل ميلاد الطفل في عالمنا هذا، فإنه قد جاء من حيز عاش فيه مدة، و ألفه، و اطمأن إليه، ولم يخطر بباله حيز غيره، ولو خيّر لكره الخروج عنه الى عالمنا هذا كما يكره أحدنا أن يموت الآن.. نحن أيضاً عندما نموت سنجد أنفسنا في عالم خير من عالمنا هذا.. الموت بمعنى الفناء ليس هناك.. فبالموت يغير الحي قشرته فقط ـ يخرج من صدفته التي ظلت تكنه ردحاً من الزمن، وهو يكره مفارقتها لجهله بخير منها ، فالإنسان لا يموت، وإنما يتخلص من القوقعة كما يتخلص أحدنا من الملابس البالية.. وتبرير الاسلام للموت انه سير الى الله ـ سير من البعد الى القرب ـ وهذا لجميع الناس.. “يأيها الانسان إنك كادح الى ربك كدحاً، فملاقيه” ومن ملاقاة الله الموت، لأن به رفع الحجاب “لقد كنت في غفلة من هذا، فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك، اليوم، حديد”.. )..
وفي نفس المصدر “أسئلة وأجوبة ” رد الأستاذ محمود على السؤال: ثمة آيات في القرآن تبخس الدنيا وتصفها بالفناء.. هل يقول الإسلام بالإنكار المطلق لقيمة الحياة؟ بالآتي:
(الإسلام يقسم الحياة إلى درجتين، بينهما اختلاف مقدار، لا اختلاف نوع : الحياة الدنيا والحياة العليا.. فأما الحياة الدنيا فهي حيوانية، وأما الحياة العليا فهي إنسانية,, فالإنسان، ما دامت مسيطرة عليه صفات الحيوان، خضع لها، أو قاومها، فهو في الحياة الدنيا.. فإذا تخلص من صفات الحيوان، بفضل الله، ثم بفضل المجاهدة المستمرة لدواعي هذه الصفات، فقد أصبح في الحياة الأخرى، أو الدار الآخرة كما يرد عنها التعبير في بعض الأحيان,, وقد جعل الموت الحسي فاصلا بين الحياتين، فلكأنه، ليدخل الإنسان المجاهد لدواعي صفات الحيوان فيه، في الحياة العليا، لا بد له من تجربة الموت الحسي، ولكن الموت المعنوي يحقق طرفا من هذا الدخول، والموت المعنوي يعني أن تسكن دواعي صفات الحيوان في الإنسان تحت قهر العلم في مستوى “علم اليقين” ولذلك فقد قال المعصوم: “موتوا قبل أن تموتوا” يشير إلى هذا الموت المعنوي.. فالحياة الدنيا أو حياة الحيوان هذه، هي التي يشدد القرآن عليها النكير، ويصفها بالفناء، والزوال، ويندب الناس ليزهدوا فيها، ليرتفعوا إلى إنسانيتهم في الحياة العليا ــ الحياة الإنسانية.. فالإسلام لا يقول بالإنكار المطلق لقيمة الحياة، وإنما يميز بين قيم الحياة، ويجعل وكده تسيير الناس إلى الحياة الإنسانية بتزهيدهم، وإزعاجهم عن الحياة الحيوانية، ومعني فناء الحياة الدنيا افضاؤها، رضي الإنسان أم لم يرض، إلى الحياة العليا: “يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ” ).. انتهى ..