إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الاستاذ محمود في الذكرى الثلاثين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٤)

خالد الحاج عبد المحمود


يناير ٢٠١٥

إطار التوجيه والنقد الذاتي :


النقد أمر طبيعي، وتلقائي، بالنسبة للعقل.. فحياة الكائن البشري كلها، تقوم على تمييز العقل بين قيم الأشياء، والسلوك وفق هذه القيم. ولكن هذا، لا يجعل كل إنسان، صاحب تفكير نقدي، بالمعنى الاصطلاحي.. فالتفكير النقدي هو التفكير الذي يقوم على نظرية في الكون، توجه الفكر، وتعطيه الموازين، التي يزن بها قيم الأشياء بدقة، ويحدد وفقها الوسائل والغايات، ويحدد الصحيح من الخاطئ، والحق من الباطل، والنافع من الضار، بالصورة التي تعين على توجيه العمل البشري، الوجهة الصحيحة المطلوبة، وتعين على خلق إطار عام، يجعل الحوار بين البشر ممكنا.. هذه النظرية عند الماركسية، مثلا، هي المادية الديالكتيكية، وفي الإسلام هي التوحيد.. ولكن هنالك، صورة من النقد السلبي، الذي يقوم على مجرد معرفة الأخطاء، وتصحيحها، مثل هذا التفكير، هو ما نجده عند كارل بوبر، وهو نقد لا يصلح إلا في إطار محدود، هو إطار العلم المادي التجريبي.. وحتى في هذا المجال، هو يقوم على إطار paradigm توجيه .. العقل لا يمكن أن يعمل دون إطار توجيه، يحدد وفقه أسس الخطأ والصواب، والضار والنافع.. قد يكون هذا الإطار صحيحا أو خاطئا.. وقد يكون واضحا ومحددا، عند صاحبه، أو غير واضح ولا محدد، لكنه في جميع الحالات هو موجود، حتى عندما يكون هذا الإطار، هو مجرد المصلحة الذاتية، التي يقيس وفقها عقل الفرد، ما هو صحيح وما هو خاطئ، وما هو نافع وما هو ضار.. فلذلك ليست القضية نظرية أو لا نظرية، وإنما القضية: أي نظرية!؟ فالنقد، بل والتفكير كله، تتوقف صحته، من خطأه، على صحة أو خطأ النظرية، التي توجه العقل، وتعطيه الموازين التي يزن عن طريقها الأشياء، ويحدد قيمتها.. ومن هنا، تأتي الأهمية القصوى للنظرية و إطار التوجيه، الذي تعطيه للفكر والحياة، فصحة التفكير وخطأه، وصحة النقد أو خطأه، يعتمدان، بصورة جوهرية، على صحة النظرية أو خطئها.. وصحة النظرية - أي نظرية - تتوقف على تصورها لطبيعة الكون، والقانون الذي يحكمه، وعلى الطبيعة البشرية، وانعكاس ذلك، على تحديد علاقة الفرد بالكون، وعلاقة الفرد بالمجتمع..
والحضارة الغربية، على الرغم من أنها، لا تقوم على مذهبية واضحة، ومحددة، إلا أنها تقوم على إطار توجيه، لا يخرج من القضايا التالية:
1/ الطبيعة المادية: وهي تمثل إطار التوجيه العام الأساسي.. فالحضارة الغربية، بصورة عامة، تقوم على غلبة التصور المادي للكون.. وغلبة التصور المادي للحياة.. وهذا لا يعني بأية حال، الغياب التام للجانب الروحي - هذا في تقديري أمر مستحيل - وإنما يعني أن الغلبة والهيمنة للتفكير المادي والحياة المادية.. وحتى لو كانت هنالك أغلبية تؤمن بالله، وبالدين، وبالقيم الروحية، فإن هذا الإيمان دوره ضعيف جدا في توجيه سلوك الناس وتفكيرهم، حتى بالنسبة لأولئك الذين ينتمون للأديان السماوية الكبرى مثل الإسلام، والمسيحية، واليهودية.. فجميعهم يغلب على تفكيرهم وسلوكهم الجانب المادي.. فالعبرة بالإطار الذي يوجه التفكير والسلوك، في الحياة اليومية، وهذا قطعا، بالنسبة للحضارة السائدة، ليس الدين وقيمه، وإنما هو المادية.
2/ العلمانية: العلمانية تقوم على توكيد الحياة الدنيا، وتوكيد العقلانية وحرية الفكر، بمعنى أن يكون العقل هو الحكم الفيصل في كل قضايا الفكر والمعرفة.. وأن يكون العقل حرا، في تناول هذه القضايا، دون حجر عليه، ودون الحاجة للاعتماد على شيء خارجه.
3/ المنهج العلمي: والمقصود به منهج العلوم المادية التجريبية.. فالعلم، ومنهجه، هو أعظم انجازات الحضارة الغربية، وهو صاحب الأثر الأكبر على تفكير الناس.. فعليه يقوم تصور الكون، والقوانين التي تحكمه.. ومنهج العلوم التجريبية، كان يعتبر، والى حد كبير لا يزال، المنهج العلمي الوحيد، وكل منهج غيره، لا يتصف بصفة العلمية.. وتطبيق هذا المنهج في الحضارة الغربية، ليس قاصرا، على مجال العلوم الطبيعية، فهو عندهم يحكم التفكير العلمي الصحيح بصورة عامة.. وهذا المنهج، هو الذي زاد من توكيد مادية الحضارة.. وتطبيقاته، وما تم عبرها من انجازات أخصبت الحياة البشرية، هي صاحب الدور الأكبر في هيمنة الجانب المادي، على حياة البشر..
4/ اللبرالية: إن أهم الأسس التي تقوم عليها العلاقات الاجتماعية في الحضارة الغربية، هي: اللبرالية ، والديمقراطية، والرأسمالية.. وثلاثتها محكومة بأطر التوجيه المذكورة في النقاط الثلاثة، أعلاه.. واللبرالية، هي توكيد للفردية، والحرية الفردية، والملكية الفردية.
هذه هي أساسيات إطار التوجيه في الحضارة الغربية.. وجميعها ، لها وجهها من الحق، ولكنها جميعها أيضا، تقوم على خلل، وقصور، أساسيين، بصورة تجعل الحضارة الغربية، حضارة فاسدة في جوهرها ، وهذا ما سنبينه في موضعه، عندما نتحدث عن الحضارة الغربية.. جميع مصطلحات الحضارة الغربية، الأساسية، مرتبطة، ببعض هذه الموجهات، ومحكومة بها، وينبغي النظر إليها في إطارها.. فجوانب الصحة، وجوانب الخطأ، في هذه المصطلحات، يرجع بصورة أساسية إلى إطار التوجيه، الذي يقوم على النقاط الأربعة المذكورة.. وهذا ، ما سنتناوله ، بالنقاش، عند نقد الحضارة الغربية..
إن أهم ما نود الإشارة إليه هنا هو أن أهم ما يميز الإسلام كنظرية نقدية، إلى جانب التصور الذي يعطيه التوحيد للكون وللطبيعة البشرية، والقانون الذي يحكمهما، هو أن إطار التوجيه في الإسلام ليس تصورا خارجيا فقط، وإنما هو أساسا تحقيق داخلي!! فالتوحيد، الذي هو إطار التوجيه الأساسي، هو صفة الموحد (بكسر الحاء) - صفة الإنسان. وهذا يجعل الميزان الذي وفقه تتحدد قيم الأشياء ليس هو العقل الخام - العقل المجرد - كما هو الحال، عند جميع النظريات النقدية الأخرى، وإنما هو عقل المعاد.. وعقل المعاد، هو نفس عقل المعاش، ولكن بعد أن يتم تأديبه، وتهذيبه، عن طريق المنهاج، منهاج (طريق محمد) عليه أفضل الصلاة، وأتم التسليم.. وهذا التهذيب عمل في النقد الذاتي، وفقه يتم الانتقال من عقل المعاش إلى عقل المعاد، والتسامي في مراقيه..