إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

البعد الفكري في كلمة الأستاذ محمود محمد طه أمام المحكمة (٤)

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


يناير ٢٠١٥

انتهينا في الحلقة الأولي بتقرير حقيقة في غاية الأهمية، وهي أن الدين سيعود بإحياء السنة حسب البشارة النبوية في حديث الغرباء، وليس بالشريعة.. وقلنا إن الشريعة هي طرف الدين الذي لامس أرض الناس في القرن السابع، ولذلك تحتاج إلى تطوير نحو السنة النبوية فيما يختص بالسياسة والاقتصاد والاجتماع، أي الجوانب المتأثرة بتحولات المجتمع مع الزمن.. والسنة هي عمل النبي في خاصة نفسه، وما الرسالة الثانية إلا بعث هذه السنة لتكون شريعة عامة تنظم المجتمع، ففي السياسة الحكم الدستوري، وفي الاقتصاد النظام الاشتراكي وفي الاجتماع محو الفوارق الطبقية التي تقف حائلا دون التزاوج بين الناس..
والناحية، التي نحب أن نركز عليها، في هذه الحلقة وردت في كلمة الأستاذ أمام المحكمة في قوله عن قوانين سبتمبر "أنها هددت وحدة البلاد"..
والسؤال هو لماذا هددت تلك القوانين وحدة البلاد!!؟؟
ورد في منشور "هذا أو الطوفان" حول هذه النقطة:
(إن هذه القوانين قد هددت وحدة البلاد، وقسمت هذا الشعب في الشمال والجنوب وذلك بما أثارته من حساسية دينية كانت من العوامل الأساسية التي أدت إلى تفاقم مشكلة الجنوب.. إن من خطل الرأي أن يزعم أحد أن المسيحي لا يضار بتطبيق الشريعة، ذلك بأن المسلم في هذه الشريعة وصي على غير المسلم، بموجب آية السيف، وآية الجزية، فحقوقهما غير متساوية ..
أما المواطن، اليوم، فلا يكفي أن تكون له حرية العبادة وحدها، وإنما من حقه أن يتمتع بسائر حقوق المواطنة، وعلى قدم المساواة، مع كافة المواطنين الآخرين.. إن للمواطنين في الجنوب حقا في بلادهم لا تكفله لهم الشريعة، وإنما يكفله لهم الإسلام في مستوى أصول القرآن (السنة) .. لذلك فنحن نطالب بالآتي :-
1/ نطالب بإلغاء قوانين سبتمبر 1983م، لتشويهها الإسلام، ولإذلالها الشعب، ولتهديدها الوحدة الوطنية..
2/ نطالب بحقن الدماء في الجنوب، واللجوء إلى الحل السياسي والسلمي، بدل الحل العسكري.. ذلك واجب وطني يتوجب على السلطة، كما يتوجب على الجنوبيين من حاملي السلاح، فلا بد من الاعتراف الشجاع بأن للجنوب مشكلة، ثم لا بد من السعي الجاد لحلها ..
3/ نطالب بإتاحة كل فرص التوعية، والتربية، لهذا الشعب، حتى ينبعث فيه الإسلام في مستوى السنة (أصول القرآن) فإن الوقت هو وقت السنة، لا الشريعة (فروع القرآن).. قال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم : (بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريبا، كما بدأ، فطوبى للغرباء ‍‍ قالوا: من الغرباء يا رسول الله ؟؟ قال: الذين يحيون سنتي بعد اندثارها).. بهذا المستوى من البعث الإسلامي تتحقق لهذا الشعب عزته، وكرامته، ثم إن في هذا البعث يكمن الحل الحضاري لمشكلة الجنوب، ولمشكلة الشمال، معا‍.. أما الهوس الديني، والتفكير الديني المتخلف، فهما لا يورثان هذا الشعب إلا الفتنة الدينية، والحرب الأهلية..
هذه نصيحتنا خالصة، مبرأة، نسديها، في عيد الميلاد، وعيد الاستقلال، ونرجو أن يوطئ لها الله تعالي أكناف القبول، وأن يجنب البلاد الفتنة، ويحفظ استقلالها ووحدتها وأمنها.. وعلي الله قصد السبيل.) انتهى..
إذن، إضافة إلى الهدف الأساسي من المواجهة وهو فداء الشعب من نير السيف والسوط، فقد كانت ترمي إلى تصحيح التفكير الديني المتخلف الذي يزج بالشريعة السلفية في المجتمع المعاصر، فيشوهها ويشوه الإسلام، وقد أشرنا إلى أقوال الأستاذ محمود للتحري خاصة قوله: "ولكننا نقول إن الشريعة الإسلامية على تمامها وكمالها حين طبقها المعصوم في القرن السابع لا تملك حلا لمشاكل المجتمع المعاصر، فالحل في السنة وليس في الشريعة!!"
وقد زجت الإنقاذ بفكرة تطبيق الشريعة عام 1990م، وكانت تداعيات هذه التجربة اشتعال الحرب الأهلية في الجنوب وتصعيدها لدرجة المطالبة بانفصال الجنوب، وبالفعل تحقق الانفصال عام 2011م والسبب الأساسي هو الفهم المتخلف للإسلام، وبذلك انفرط عقد الوحدة الوطنية كما تنبأ المنشور..
إذن لا بد من أن نؤسس لفكرة تطوير الشريعة، ونبين سند الحكم الدستوري الذي يساوي بين الناس في حقوق المواطنة ولا يفرق بينهم بسبب العقيدة أو الجنس أو اللون ومن ثم يتسنى لنا الحديث عن عودة الوحدة بين الشمال والجنوب على أساس متين من ديننا الحنيف..
لقد أرسي الإسلام المبادئ الدستورية, عندما قرر في أصل أصوله المسئولية الفردية إمام الله.. والمحاسبة يوم يقوم الحساب قائمة في مواجهة الإفراد بصورة حاسمة. قال تعالى:
(ونرثه ما يقول ويأتينا فردا) وقال: (إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا, لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا) وقال: (كل نفس بما كسبت رهينة) وقال: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره).. وقال في توكيد ذلك : (ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شئ ولو كان ذا قربى)..
ولما كانت المسئولية الفردية والمحاسبة بهذه الدقة وهذا الشمول, فقد جاء القرآن عندما بدأت الدعوة الإسلامية في مكة بسلسلة من الآيات تقرر بقوة مبادئ الحقوق الأساسية, من حق الحياة وحق الحرية في التصرف لأنه لا يمكن أن يحاسب الإنسان بهذه الدقة ثم لا يعطى حق حرية التصرف كاملة.. اقرأ إن شئت هذه المبادئ في مجموع الآيات المكية التالية, كأمثلة:
(فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر) (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين) (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).. والاختلاف الأساسي بين القرآن المكي والقرآن المدني, هو هذه المسئولية الفردية.. فكل آية تعتبر الناس مسئولين مسئولية فردية وتخاطبهم على هذا الأساس فهي مكية وان نزلت في المدينة, وأي آية تفرض وصاية على الناس حتى لو كانت هذه الوصاية من النبي الكريم فهي مدنية, فالاختلاف بين المكي والمدني لا يؤسس على مكان وزمان النزول وحسب..
إذن، المبادئ الدستورية في المساواة أمام القانون والحرية في التصرف أو حرية الرأي والاعتقاد ثابتة, بنصوص القران المكي وهو قرآن الأصول.. وهذه الحقوق سميت أساسية لأنها لا تعطى ولا تسلب في شرعة العدل, فهي هبة من الله لخلقه، فكل إنسان يولد حي ويولد حر وله مطلق الحق في التصرف بشرط ألا يتعدى على حقوق الآخرين فإذا تعدى تصادر حريته وفق قانون دستوري.. والقانون الدستوري هو الذي يوفق في سياق واحد بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة..
هذا هو السند للحكم الدستوري من أصول القرآن, وعندما نزلت هذه الأصول على ارض الواقع في القرن السابع, واستمرت ثلاثة عشر عاما اتضح بالتجربة العملية أن المسئولية الفردية غائبة تماما وان الناس قصر محتاجون إلى مرحلة وصاية لترشدهم حتى يبلغوا مستوى المسئولية.. فهم حين احتمل النبي الكريم كل أذاهم له، وتعذيبهم للمسلمين، لم يتوقفوا وإنما دبروا مكيدة لقتل النبي نفسه والتخلص منه, أي مصادرة حقه الأساسي في الحياة..
ومن هنا نسخت جميع آيات الحريات ومن ثم نسخ الدستور، وأذن للنبي بالهجرة من مكة إلى المدينة وقررت الوصاية بطائفة من الآيات الفرعية المدنية الناسخة لآيات الأصول:
(أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير, الذين اخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله) إلى أن نزلت سورة (براءة) وجاء فيها (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم)..
والسبب في هذا التحول الكبير هو حكم الوقت, فلم يكن المجتمع مهيئا لإقامة حكم الدستور، ولذلك فرضت وصاية النبي الكريم على المجتمع كله ووصاية المسلمين على المشركين ووصاية الرجال على النساء.. وهذه التشريعات المعروفة بالشريعة السلفية، كانت حكيمة كل الحكمة فقد رفعت مستوى المجتمع من الجاهلية حيث وأد البنات إلى نور الإسلام في المستوى الذي يطيقونه عن طريق السيف، ولكنها استعملت السيف كمبضع الطبيب لا كمدية الجزار فاستأصلت أمراض مزمنة كعادة وأد البنات.. وبذلك حفظت الحق الأساسي من خلال إيقاف انتهاك حقوق الطفل المتمثل في تلك العادة، ثم حفزت الناس للالتزام بحكم القانون على حساب قانون الغابة الذي كان سائدا، فالعيب كما قلنا، ليس فيها هي- أعني الشريعة- وإنما العيب في العقول التي تحاول إقحامها في زمان غير زمانها وفى مكان غير مكانها..
إذن الرسالة الثانية ما هي إلا بعث لأصول القرآن المدخرة للمستقبل، وهذا الفهم تفردت به الدعوة الإسلامية الجديدة، وتمت الدعوة إليها تحت قيادة الأستاذ محمود منذ عام 1951م، وليس هناك فرصة للخروج من النفق المظلم الذي ظلت البلاد متورطة فيه في جميع مراحل الحكم الوطني إلا بفكرة تطوير التشريع الإسلامي ببعث آيات الأصول ونسخ الشريعة السلفية.. والحاجة إلى بعث أصول القرآن، برزت في كل الأرض بسبب التصعيد المتزايد من السلفيين للعنف وانتهاك الحرمات باسم الجهاد، ولا يمكن أن تنتهي هذه الفتنة بالعنف المضاد لأنها مسألة تنطلق من معتقدات دينية لا تصحح إلا بفهم من غرفة الدين نفسه يرتفع بالعقيدة إلى المستوى الذي طبقه النبي الكريم في خاصة نفسه، وهو السنة..