إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

محمود محمد طه: أنموذج المثقف الحر (٣)

د. النور محمد حمد


يناير ٢٠١٥

شهدت عقود الخمسينات، والستينات، والسبعينات، من القرن الماضي، هيمنة يساروية، ماركسية، عروبية، على مجريات السياسة، والفكر، والثقافة، في المنطقة االعربية. أدغم الشيوعيون، واليساريون والعروبيون العرب، على اختلاف بينهم في التنظير، حالة الأنظمة العربية الشمولية، التي أخذت تنتشر في تقليدٍ للنموذج الناصري، في مصر، تحت عباءة "مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية"، كما يسميها الشيوعيون. هذا، مع ملاحظة أن العلاقة بين الأحزاب الشيوعية العربية، وبين هذه الأنظمة الشمولية، كانت مضطربة. فأحيانًا يتم تقريب الأحزاب الشيوعية، وأحيانًا يجري ابعادها. كما تصل درجة الخصومة مع الشيوعيين، درجة سوقهم إلى منصات الإعدام. الشاهد، أن المرحلة كانت مضطربة. فالتنظير للثورة العربية، تحت هذه المظلة اليسارية العريضة، غير المنسجمة، أضافةً إلى نهج نقل التنظير من سياق سوسيوبولوتيكي، وسوسيوثقافي مختلف؛ أعني سياق المنظومة الشيوعية في شرق أوروبا، ومحاولة تطبيقه على الواقع العربي المختلف، والمتخلف، وغير المنسجم داخليًا، خلق هذه الحالة من الاضطراب، داخل البنية العريضة، لليسار العربي.

مع كل هذه الملاحظات، يمكن القول، إن لوثة يساروية، ذات مرجعية ماركسية، تشتد هنا، وتخف هناك، قد انتظمت هذا الفضاء العربي، من المحيط إلى الخليج. ولم يقتصر الأمر على السياسة، وإنما انتظم الثقافة، أيضًا. فقد تبنت المؤسسة الإعلامية المصرية الناصرية، الأقوى في الوطن العربي، حينها، خطًا تثقيفيًا يساريًا واضحًا، وسم الإذاعة والتلفزيون، والصحف والمجلات، والدوريات المتخصصة، بل وما تنشره دور النشر الحكومية، كالدار القومية للطباعة والنشر والترجمة. انتشر الفكر اليساري والثقافة اليسارية، والأدب اليساري، في منافذ الإعلام المصرية ذات الانتشار الواسع في الفضاء العربي. كان الأفق الذي يلهم حراك التغيير، وسط المجاميع المثقفة، والمتعلمة، في غالبه الأعم، أفقًا سوفيتيًا. وإنني لممن يرون، أن هذه المرحلة العربية من الاستلاب الفكري والثقافي، ومن تغييب الهوية الإسلامية، لم تجد النقد الكافي بعد. هذا، على الرغم من أن آثارها الممتدة، لا تزال تمثل جزءًا كبيرًا من مسببات تفكك المشهد العربي الراهن، وارتباكه وفوضاه، التي لا تنفك دوائرها تنداح.

اعتلى جزء معتبر من النخب العربية، المثقفة المؤثرة، والنخب المتعلمة ظهر هذه الموجة، إيمانًا ورغبة، وجاراها كثيرون آخرون رهبةً، خاصة في بلدان الأنظمة الملكية العربية المرتبطة بنيويًا بالكتلة الغربية. أيضًا، تم لف الأمر كله، حول القضية الفلسطينية، ما أسهم في زيادة الالتباس. أيضًا قوى جانب اليسار، دعم الاتحاد السوفيتي للحق الفلسطيني، وتقديمه السلاح والخبرة الفنية العسكرية، لمصر، رأس الرمح في الصراع. في موجة التغني بصداقة الاتحاد السوفيتي للعرب، تناسى المتغنون أن الاتحاد السوفيتي كان من أول الدول التي اعترفت بدولة إسرائيل، وأن روسيا هي أحد أكبر موارد إسرائيل من اليهود المهاجرين، إلى فلسطين. أيضًا تم لف كل شيء في الفضاء العربي، حول زعامة جمال عبد الناصر، الذي أصبح المتحدث الرسمي، باسم العرب، والفاعل الرئيس في النضال من أجل فلسطين. رسخ الإعلام المصري، زعامة جمال عبد الناصر المطلقة على العرب، في عقول وقلوب أكثرية الجمهور العربي من المحيط، إلى الخليج. هكذا اكتملت "اليوفوريا" الناصرية، وعلا في أوج سطوتها شعار: "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة". وهكذا، انحبست قوى العقل العربي في هذا القمقم ذي الجدران السميكة. وأصبح من ينتقدون الأوضاع، لا ينتقدونها إلا لواذًا، وحين يفعلون ذلك، تتم شيطنتهم بكل سبيل ممكن.

في هذا الجو الكابت للرأي الآخر، علا صوتان بديا نشازًا، آنذاك؛ هما صوت الأستاذ محمود محمد طه، داعية التجديد والنهضة السوداني، الذي تقف وراءه مجموعة صغيرة، هي مجموعة الجمهوريين، والرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، مع اختلاف في الرؤيتين. أصدر الأستاذ محمود محمد طه كتابه "مشكلة الشرق الأوسط"، عقب هزيمة حزيران/يونيو 1967، وأنتقد القومية العربية، وقيادة جمال عبد الناصر للعرب، في وقت كان فيه عبد الناصر معبود الجماهير العربية، والمثقفين العرب. قال الأستاذ محمود، ضمن الكثير الذي قاله، إن عبد الناصر انحاز للكتلة الشيوعية، وأفقد العرب ميزة الحياد، وحمّل، مدفوعًا بجنون الزعامة، العرب من العداوات فوق ما يطيقون. كما أنه تسبب بتحدياته واندفاعاته غير المدروسة، وخطبه العاطفية النارية، في أسوأ هزيمة للجيوش العربية في التاريخ الحديث. كما دعا الأستاذ محمود، للصلح مع إسرائيل، والاعتراف بها، وقيام دولتين متجاورتين متسالمتين، مع ضمان عودة اللاجئين، وتعويض من لا يريد العودة. ويمكن الرجوع إلى كتابه "مشكلة الشرق الأوسط" لمعرفة المزيد من تفاصيل ما كتبه، من مقترحات تحفظ للعرب ماء وجوههم، وتجنبهم الصراع الطويل مع الغرب وإسرائيل، ما يبدد طاقاتهم، ويقود إلى تدهور الأحوال، ويضر بالقضية الفلسطينية. في تلك الفترة المحمومة بالعاطفة الملتهبة، إلى كتابه المذكور.
برر الأستاذ محمود رؤيته، التي ضمنها كتابه "مشكلة الشرق الوسط، المشار إليه آنفًا، بأن الصراع بين العرب وإسرائيل، صراع حضاري، يحتاج فيه العرب إلى أن يشتروا هدنة، يبنوا خلالها أنفسهم، وينهضوا حضاريًا. وأكد أن الصراع ليس مع إسرائيل وإنما هو، لدى التحليل النهائي، مع الغرب الذي خلق إسرائيل ووقف وراءها. ولم يجد، اليساريون العرب، بما فيهم الحزب الشيوعي السوداني، أمام النقد الصريح، وتبيين الأخطاء الشنيعة لناصر، وسوء تقديره للأمور، وتعويله الساذج على الاتحاد السوفيتي، وعدم معرفة وزن قوته بإزاء أوزان القوى الكبرى، إضافة إلى دعوته للصلح مع إسرائيل والاعتراف بها، سوى أن يتهموا الأستاذ محمود محمد طه بالعمالة للصهيونية والإمبريالية العالمية!

كان الأستاذ محمود محمد طه، المثقف العربي والمسلم، الوحيد الذي تجرأ، في تلك الحقبة الملتاثة بعبادة الفرد، ليقول، على الملأ إن، "البغلة في الإبريق". فعل ذلك، في وقتٍ لم يكن ليجرؤ فيه مثقف، أو غير مثقف، أن يجهر بمثل ذلك القول، شفاهًا أو كتابة. بعد أربع سنوات من هزيمة يونيو جزيران 1967، توفي جمال عبد الناصر فجأة، وآلت القيادة لأنور السادات الذي نقض غزل الناصرية أنكاثا، فاغتاله المتطرفون الإسلاميون أمام عدسات الكاميرات العالمية، وهو يحتفل بذكرى العبور الثامنة في 6 أكتوبر 1981. ومنذ تلك اللحظة، أخذت مصر والعالم العربي يدفعان حصاد هشيم الناصرية، حتى يومنا هذا.

لقد كان الأستاذ محمود محمد طه يتقدم العقل العربي الإسلامي، فكريًا، وسياسيًا، في حقبة الستينات، بسنين ضوئية. وهناك ملاحظة جانبية أود أن أبديها هنا، وهي أن انفلات الحبيب بورقيبة من قبضة الناصرية، ومن العقل الجمعي العربي، الذي شكلته الناصرية، وتجرؤه عليه، إضافة إلى انفلاته من قبضة المؤسسات الدينية كالأزهر وغيره، هي الأسباب التي مكّنته من البناء الحديث للدولة التونسية، وللمجتمع التونسي. فقلد وضح الآن أن تلك البنية للدولة وللمجتمع، هي الأرسخ، مقارنةً ببقية الدول العربية، بما فيها مصر، التي كانت تمثل رأس الرمح، آنذاك. ولذلك، لا غرابة أن تكون تونس هي الدولة العربية الوحيدة، التي اتخذ فيها المسار، عقب ثورات الربيع العربي، طريقًا صاعدًا. وما تصويت التونسيين في الانتخابات التونسية الأخيرة، للباجي قايد السبسي، البالغ من العمر تسعة وثمانين عامًا - أمد الله في عمره - سوى احتفاء وامتنان للحقبة البورقيبية، ودورها في بناء تونس الحديثة، رغم إشكاليات البورقيبية التي تجلت، أكثر ما تجلت، في حقبة زين العابدين بن علي.

كان الأستاذ محمود مدركًا لعلل الماركسية، وتجربتها الشيوعية في الكتلة الشرقية، وواثقًا أشد الوثوق من انهيارها. جرى منه هذا، في وقتٍ كانت أكثرية المثقفين العرب، ترى أن أفق الثورة العالمية، بصورةٍ عامة، وأفق الثورة العربية بصورةٍ خاصة، لا وجهة له سوى وجهة الثورة البلشفية، في روسيا، على نحوٍ، أو آخر. وحين ابتعد، المثقفون العرب، عن الإسلام؛ وأعني هنا المستلبين يساريًا من جهة، وغربيًا، من الجهة الأخرى، بقي هو مع الجوهر الحضاري للفكرة الإسلامية. قدم الأستاذ محمود من جوهر الفكرة الإسلامية، طرحه الفريد، لتطوير التشريع الإسلامي، الذي حاول أن يخرج به الجمهور المسلم، من قبضة عقول السلف، وآراءهم المجترة عبر القرون، التي خلفتها الحياة الحديثة، وراء ظهرها.

لم يعرف الإخوان المسلمون، ولم يهمهم أن يعرفوا، أن الأستاذ محمود محمد طه، هو أقوى، من وقف، من الناحية المعرفية، ضد المد الشيوعي في المجتمعات الإسلامية. وأنه أفضل من قدم طرحًا يزاوج بين الأصالة والمعاصرة، يحفظ جوهر الهوية الحضارية العربية الإسلامية من جهة، وينسجم مع السياق الكوكبي الحديث من الجهة الأخرى. لم ينتبهوا إلى تنبيهاته المتكررة، في كتاباته الغزيرة، عن الخطر الشيوعي، على الفضاء الإسلامي. فقد رفضوا، بحكم ضمور ثقافتهم وأحاديتها، أن يروا فيه سوى مهرطقٍ خارجٍ عن الإسلام. كما رأوا فيه، على صعيدٍ آخر، منافسًا سياسيًا قويًا، منطلقًا من منصة الإسلام التي كانوا حريصين على احتكارها.

ظل الأستاذ محمود يردد أن الطائفية، والفهم المتخلف للإسلام، هما ما يدفع بالشباب العربي المسلم، دفعًا، إلى أحضان الشيوعية. غير أن الإخوان المسلمين، تشاركوا كراهية طرحه مع الشيوعيين، بل وعملوا على ابتذالها وتشويهها. فالشيوعيون كانوا يرون فيه مفكرًا، يقدم الإسلام بوجهٍ جديد، في صورةٍ عصرية، تجمع بين الاشتراكية والديمقراطية، ما يمثل خطرًا على جاذبيتهم للقوى الحديثة والشباب في الأقطار العربية الإسلامية. وحتى بعضهم الذي كان يستحسن أفكاره التقدمية، لا يلبثون أن يخلصوا إلى شطبها، برميها في سلة "المثالية"، وفق تبسيطات الماركسيين الدوغمائية، المتفشية في أوساطهم، وقتها. أما الإخوان المسلمون فهم مصابون أصلاً برهاب التجديد، كما أنهم رأوا فيه عقلا جبارًا يفكك خطابهم الهلامي العاطفي، من داخله، وبأدواته ذاتها، وقامة أخلاقية لا يستطيعون مجاراتها. واجتمعت ضده، مع كل هؤلاء، في حلف غير مكتوب، الحكومات العربية، والمنظمات والأجهزة التابعة لها. وهكذا بقي الأستاذ محمود مفكرا حرًا، مستقلاً، وحيدًا، معزولا.

استعصى الأستاذ محمود محمد طه، على الإرهاب والتخويف من جهة، كما استعصى على الترغيب والتدجين من الجهة الأخرى. وحقيقة الأمر، لم يقترب منه أحد لترغيبه أو تدجينه. فقد كان الجميع يعرفون صلابة معدنه، حق المعرفة. فرغم تواضعه، ولين عريكته، كان مهابًا من خصومه، بصورةٍ لم تتفق لمثقف سوداني قط. لذلك لم يطمع فيه أحد قط. لقد بسط الأستاذ محمود سلطان المعرفة، وأكد جلالها، وهيبتها، بصورة أبعدت عن ساحتها، في المستوى الذي تحقق به، كل متطفل. ولذلك، لا غرابة أن قل نصراؤه. ولذلك، أيضًا، ذهب إلى منصة الإعدام وحيدًا. غير أنه كما رأينا جميعنا، ذهب راضيًا، بل ومبتسمًا. فمعرفته الراسخة بطول مشوار التغيير في الفضاء الإسلامي، وصعوبة المهمة، وجسامتها، جعلته موقنًا، منذ مطلع الخمسينات، من القرن الماضي، من مصيره الشخصي، ومتصالحًا معه، على النحو الذي عاش به، والنحو الذي مات به. فلقد ظل يعد نفسه لذلك المصير، طيلة حياته.

حكت لي زوجتي، ابنته أسماء، ولعلني ذكرت هذا في كتابةٍ سابقة، أنها زارته في السجن قبل التنفيذ مباشرة، وكانت تقول له إننا، أي تلاميذه الجمهوريين، نجري اتصالات مكثفة بالنقابات، والقوى السياسية، والهيئات، للعمل المكثف، من أجل الحؤول دون تنفيذ الحكم. قالت أسماء، أنه نظر إليها بإشفاق، وقال لها: "الناس ما بجوا معاكم في الضربة الأولى". لقد كان مشفقًا عليها، في تقديري، من أن تتعلق بأملٍ، كان هو يعرف، يقينًا، أنه لن يتحقق. ولقد ظللت أفكر لوقتٍ طويلٍ حول قوله: "الضربة الأولى". فما هي إذن الضربة الثانية المتضمَّنة في عبارة "الضربة الأولى"؟ هل كان يتوقع أن يصمد الجمهوريون الأربعة الذين كانوا معه، على مبدئهم، مثلما صمد هو، وتكون تلك هي الضربة الثانية التي يقف فيها الناس مع الجمهوريين؟ خلاصة الأمر، أنه ذهب وحيدًا، ودخلنا، نحن تلاميذه، في زمرة من أنكروه، رغم نعينا الانكار على المنكرين الآخرين، ومعرفتنا باختلاف الإنكارين. لقد تنصلنا عنه نحن تلاميذه، حين حصحص الحق، وجد الجد، وهكذا يؤتى الحَذِرُ من مأمنه.

سمعته يقول عن الآية الكريمة: "وينصرك الله نصرًا عزيزا"، إن النصر العزيز: "هو النصر الذي لا يكون لأحدٍ به مِنَّةٌ عليك"، وكان يقولها هكذا، بالفصحى. ظل الأستاذ محمود طيلة حياته عابدًا متبتلا متهجدًا في صومعته، لا ينام من الليل إلا أقله، واستمر على تلك الحال، لعقود طوال، معدًا نفسه لتلك الوقفة العظيمة. وبالفعل، أكرمه الله بالنصر العزيز. فقد مشى وحيدًا أعزلاً، لم يستطع أن يقف إلى جانبه أحد؛ لا ولا أكبر تلاميذه. نعم، لقد نصره الله النصر العزيز، الذي لم يكن لأحدٍ، سوى الله، مِنَّةٌ به عليه. انتصر لنفسه، وللإنسانية، مقدِّمًا، إنسانًا، ومثقفًا، من طرازٍ فريد، أيقن، على مستوى حق اليقين، الارتباط العضوي الذي لا ينفصم، بين عدوتي الغيب والشهادة، في مقامٍ عزيزٍ، لا يطاله وسواس الشكك، ونقص الثقة في الله. فدى الأستاذ محمود محمد طه، السودانيين، عامتهم، وخاصتهم، ففُدِّي من جانب الحضرة العلية، أكبر فداء، وجوزي بالرضوان العظيم، فسلامٌ عليه في الخالدين.