إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الاستاذ محمود في الذكرى الثلاثين
محاولة للتعريف بأساسيات دعوته (٦)

خالد الحاج عبد المحمود


يناير ٢٠١٥

نقد الواقع:


إن ما يحدد نظرتنا للواقع، وتعاملنا معه، هو موقفنا من الحقيقة.. بل إن موقفنا من الحقيقة، هو الذي يشكل جميع تفكيرنا، وحياتنا .. وفي الإسلام - كما سبق أن ذكرنا - الحقيقة واحدة، ومطلقة.. وهي الذات الإلهية .. ولأن الحقيقة مطلقة، فلا شئ في الوجود، يمكن أن يقوم من دونها، أو يكون على غير صلة بها .. فكل شئ في الوجود هو وجهها (وأينما تولوا فثم وجه الله) .. فهي مهيمنة على الوجود هيمنة مطلقة .. وهذه الهيمنة، هي دين الإسلام العام، الذي لا يخرج عنه خارج، ولا يشذ عنه شاذ .. فأي نظرة، لأي شئ في الوجود، دون اعتبار هذه الحقيقة، هي نظرة قاصرة، ومنبتة!! ولما كانت الحقيقة هي صاحبة الفاعلية المطلقة في الوجود، فكل ما يحدث في الوجود هو تجلي لقدرتها - تجسيد لهذه القدرة - وهذا هو الواقع .. والقدرة هي تنزل عن الإرادة، والإرادة تنزل عن العلم، ولذلك قلنا إن الواقع هو تجسيد علم الله، فهو مصنوع من مادة الفكر.. وقد أوردنا قول الأستاذ محمود في هذا الصدد، ونعيده هنا، فهو قد قال من كتابه (القراّن ومصطفي محمود والفهم العصري).. "فالعالم هو تجسيد علم الله – هو تجسيد فكر العقل الكلي، المحيط والمطلق في ذلك - وإنه لحق أن العلم قد صنع من مادة الفكر ومن اجل ذلك جاءت كرامة الفكر .. ولم يجعل الله هادياً في شعاب ظلمات العالم غير نور العقل القوي الفكر.. وإنما من أجل تقوية الفكر أرسل الله الرسل، وأنزل القرآن، وشرع الشرائع .. قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس، ما نزل إليهم، ولعلهم، يتفكرون) .. فكأن العقل إذا روّض، وأدب بأدب الشريعة، وأدب الحقيقة، "أدب الوقت"، أصبح شديد القوى، دقيق الفكر، نافذه .." ولو أن الواقع والفكر بينهما اختلاف نوع، لما أمكن للفكر، أن يتعامل مع الواقع .. فكون الواقع، مصنوع من مادة الفكر، هو جوهر العلاقة بين الفكر والواقع، كما هو جوهر تميز الإنسان على جميع خلق الله .. وهو الذي أعطى الإنسان إمكانية، أن يكون خليفة الله، وجعل هذا واجبه الأساسي بل وقدره المقدور.
وفي حين أن الحقيقة واحده، ومطلقة، فإن الحق والباطل، متعددان ونسبيان .. فالباطل ليس أصلا، في الوجود، وإنما هو فرع .. فالباطل لا وجود له في الحقيقة، وإنما وجوده وجود عقلي، وجود شرعي، وذلك لان كل ما يدخل الوجود، لا يدخل إلا بإرادة الله .. وإرادة الله، لا تكون باطلاً، عن ذلك تعالى الله علواً كبيراً .. وإنما هي دائما تكون لحكمة، وهذه الحكمة الإلهية، هي وجه الحق الذي في الباطل.. فالباطل هو وجه الحق البعيد من الحقيقة، في حين أن الحق هو الوجه القريب منها .. وكلاهما متحرك يطلب الحقيقة، ونسبيتهما، هي نسبة قربهما، أو بعدهما من الحقيقة.
وأمر هذه الثنائية، هو أمر ضروري جداً، لإدراك العقول البشرية، فهي لا تدرك الأشياء إلا بضدها، ولذلك خلق الله تعالى الأزواج .. قال تعالى: (ومن كل شئ خلقنا زوجين، لعلكم تذكرون * ففروا إلى الله، إني لكم منه نذير مبين..) فالحكمة من خلق الأزواج هي تمكين العقول من الإدراك: "لعلكم تذكرون" والتذكر عملية مزاوجة بين طرفين: الذاكرة والخيال .. قوله "فروا إلى الله" يعني فروا من التعدد الذي يقوم عليه ظاهر الواقع، إلى الوحدة، التي تقوم عليها الحقيقة .. أو فروا من الإدراك الشفعي - إدراك العقول - إلى الإدراك الوتري – إدراك القلوب!!
لقد سبق أن ذكرنا، أن الواقع هو تجلي الله .. والتجلي هو ظهور "الأمر" في الزمان والمكان يقول تعالى: (كل يوم هو في شان) وشأنه تعالى، هو إبداء ذاته لخلقه ليعرفوه .. ويومه هنا، هو لحظة التجلي، وهي تدق حتى تخرج عن الزمن .. والزمن هو اكبر خلق الله، على الإطلاق، والمكان هو مظهر الزمان، وللوحدة بين الزمان والمكان، أصبح يعبر عنهما في العلم الحديث بالزمكان .. وما يظهر في الزمان والمكان - الواقع - يشمل النور والظلام، الخير والشر، الحق والباطل .. الخ، ولكن هذه الثنائيات ليست متساوية، فدائماً أحدها أصل، والثاني فرع، والاختلاف بينهما اختلاف درجة .. فالنور أصل، والظلام فرع .. والخير أصل والشر فرع.. والحق أصل والباطل فرع ..الخ وجميعها متحركة، والحركة دائماً من الفرع، نحو الأصل، والأصل نفسه متحرك، يطلب الحقيقة – وقد سبق الحديث عن ذلك .. وما نريد أن نؤكده هنا هو أن الحركة في الواقع هي حركة هادفة، وليست عشوائية .. وغايتها النهائية هي الحقيقة .. وهي في سيرها نحو هذه الغاية، في كل وقت جديد تنزل منزلة جديدة.. وهذه المنازل وفقها يتحدد الحق والباطل .. وهذا ما يسمى "حكم الوقت" وهو أمر هام جداً، ولا يمكن من دونه قراءة الواقع، قراءة صحيحة .. هذا الذي ذكرناه، من أن الحركة في الكون، حركة هادفة، هو ما يعبر عنه ب "الغائية الكونية "، وهو أمر غائب تماماً في الفكر الغربي، وهذا من اكبر صور قصور الحضارة الغربية – كما سنري في موضعه .. المهم أن القراءة الصحيحة للواقع، لا تقوم على مجرد رؤية أحداث الواقع، وإنما تقوم على رؤية الحكمة من وراء هذه الإحداث.. وإذا لم يكن هنالك إيمان، بوجود حكمة، وراء أحداث الواقع - وهذا ما عليه الفكر الغربي في معظمه – فلا يمكن أن تكون هنالك قراءة صحيحة للواقع، وإنما ينظر إلى أحداثه كأحداث عشوائية، اعتباطية، وهذا جوهر ما يقوم عليه فكر ما بعد الحداثة.
علينا أن نصطحب هذه النقطة معنا، دائماً، لأنها تشكل جوهر الاختلاف بين الفكر الإسلامي، والفكر العلماني..