إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

تعقيب على ورقة: قراءة في المشروع الفكري لمحمود محمد طه

خالد الحاج عبد المحمود


بسم الله الرحمن الرحيم

وصلتني من الأخ عيسى ابراهيم، بعض الكتابات، عن دعوة الأستاذ محمود، من بعض الباحثين.. فالشكر للأخ عيسى أن وفر لي هذه الكتابات.
وأنا هنا، بصدد التعقيب على هذه الكتابات.. وأبدأ بكتابة الباحث، الدكتور باسم المكي، التي جاءت تحت عنوان (قراءة في المشروع الفكري لمحمود محمد طه).
أولاً، أود أن أشكر الدكتور باسم المكي، والدكتور فريد العليبي، على ما قاما به من دراسة حول أفكار الأستاذ محمود، وهي جديدة تماماً على تونس والمغرب العربي عموماً.. والذي يعنيني بصورة خاصة هو موضوع الحوار.. فإننا في العالم العربي والاسلامي مواجهون بتحديات مهمة وخطيرة جداً توجب علينا أن نتحاور حولها، حواراً جاداً ـ رصيناً، يلتزم بأدب الحوار.. وهذا ينطبق على العالم كله.. وقد دعوت عامة المفكرين والمثقفين في العالم، الى تبني الدعوة لعمل مشابه للتجمعات العالمية في مجال الرياضة والفنون، يجتمع فيه مفكرو العالم، اجتماعات دورية، لمناقشة القضايا الإنسانية المهمة، وعلى رأسها قضية السلام، وقضية البيئة، وغيرها من القضايا.
من هنا يأتي تقديري الكبير للدكتور الفاضل: باسم المكي والدكتور الفاضل: فريد العليبي، فأنا اعتبر كتاباتهما عبارة عن مساهمة في تشجيع الحوار المحلي والعالمي.. فنحن في وقت لم تعد فيه القضايا المحلية تنفصل عن العالمية.
بدأ الدكتور باسم كتابته، بتقديم نبذة عن حياة الأستاذ محمود في حوالي ثلاثة عشر سطراً.. ثم قدم كتاب رسالة الصلاة في تسعة أسطر.. وكذلك كتاب: تطوير شريعة الأحوال الشخصية في تسعة أسطر أيضاً.
وبعد ذلك انصرف لدراسة دعوة الأستاذ محمود من خلال كتابه الرسالة الثانية من الاسلام، على اعتبار أنه كتاب عمدة ضمن فيه الأستاذ محمود رؤيته الى الاسلام.. وجاءت كتابة الدكتور الفاضل، في مستويين:
المستوى الأول، حسب عبارات الدكتور: يقوم على تقرير المنطلقات الفكرية له بقصد تبيين آرائه.
أما المستوى الثاني، فقد قال عنه الكاتب: "فإننا سنحاول تبيين حدود موقفه".. فهو عبارة عن نقد الكاتب لأفكار الأستاذ محمود.
ونحن يعنينا المستوى الأول، ونعتقد أن الكاتب قد وفق، في أن يتناول موضوع دعوة الأستاذ محمود من خلال (المنطلقات الفكرية).. فمن غير الممكن أن نفهم أية دعوة إلا إذا فهمنا منطلقاتها الفكرية.. فهل وفق الدكتور في تحديد المنطلقات الفكرية لدعوة الأستاذ محمود، حتى يبني عليها نقده بصورة موضوعية؟ هذا ما سنراه.
رؤية الكاتب للأستاذ محمود:
كيف نظر السيد الدكتور للأستاذ محمود؟ وهل نظرته هذه صحيحة، بالصورة التي تجعله ينطلق منها لدراسة فكره؟
نظر الدكتور للأستاذ محمود كمجدد!! وهذا أمر يتضح من أول سطر كتبه عن الاستاذ محمود، فقد جاء فيه: "لا شك في أن محمود محمد طه (1909ـ 1985) يمثل علماً بارزا في تجديد الفكر الاسلامي".. فالأستاذ محمود عنده: (علماً بارزا في تجديد الفكر الاسلامي).. وهذه الرؤية هي ما تقوم عليها، كل كتاباته اللاحقة، خصوصاً نقده الذي أسماه (حدود موقفه) يقول مثلاً: "على الرغم من أنّ النسخ موقف ينفرد به طه فإنّنا نراه قريبًا من رأي الإصلاحيين في الأخذ ببعض ما في الرسالة المحمدية وترك بعضها الآخر" ويقول: "إنّ فكر طه، وإن كانت تعوقه حدود عدّة، بقي، وإن أوهم موقفه بالجدّة، في دائرة الفكر السلفي الإصلاحي".. ويقول تحت عنوان: "فكر الداعية ما نصه: "إنّ هذا التعامل الذاتي مع النصوص وعدم دراستها دراسة علمية دقيقة كان ناجمًا عن أنّ طه كان "داعية"، وفكر الداعية ليس فكرًا نقديًّا يقوم على النقد والتشكيك والتمحيص، وإنّما يقوم على جلب الحجج للانتصار إلى موقف، وتغلب عليه النفعية المباشرة للخروج من مأزق الخصم كما أنّ فكر الداعية ليس موجهًا أساسًا إلى العقل بقدر ما يتوجه إلى العاطفة والوجدان. وفضلاً عن ذلك نلاحظ أنّ هذا الفكر تتحكم فيه النظرة التمجيدية للإسلام، فاعتبار طه أنّ الإسلام "هو المنقذ من الضلال" وإنّ كل الفلسفات الغربية فاشلة دليل على اعتقاده أنّ الإسلام هو الحقيقة وأنّ غيره من الأديان والفلسفات حياد عن الحقّ وبدعة يجب تصحيحها. وما إقرار طه بأنّ اللغة العربية "أكمل اللغات" (الرسالة الثانية ص 153) لأنّها لغة القرآن إلا دليل على هذا الفكر التمجيدي أو على هذا الحد الذي يعوق الفكر عن المقاربة العلمية والموضوعية" .. لو عرف الدكتور للقرآن بعض مكانته، لما اعترض على القول بأن اللغة العربية هي أكمل اللغات لأنها لغة القرآن.. وسيعرف للقرآن قدره إن شاء الله، ووقتها سيفهم حديث الأستاذ عن مكانة القرآن.. من أين أتى الدكتور بهذه الأوصاف المرذولة التي يصف بها الداعية!؟ الحق عندنا أن الداعية هو عكس ما تقول، إلا إذا كان داعية باطل.. والدعاة عندنا هم الرُسل، وعلى رأسهم أفضل المرسلين، ونموذجه هو النموذج الذي يرفعه الأستاذ محمود للناس، وهو تنزه عن أن يلحق به شيء من أوصافك المرذولة.. ومن قال لك أن الأستاذ محمود يعتمد على الخطابة!؟ إن الأستاذ محمود، وتلاميذه لا علاقة لهم بالخطابة.. وهم في محاضراتهم يطرحون مواضيع فكرية، ويفتحون الباب للحوار الذي يأخذ أكثر من زمن المحاضرة.. وهذا ظل يجري في العديد من مدن السودان وقراها، وقد عُرفت ب (أركان النقاش).. وهي عكس الخطابة لأنها تعتمد على النقاش، وتعطي فرصاً واسعة له.
لاحظ أن الدكتور ينقد تمجيد الاستاذ محمود للاسلام وللقرآن وللغة العربية.. كما يتهمه بعدم دراسة النصوص دراسة علمية دقيقة.. و"أن فكره ليس فكراً نقدياً ، "وتغلب عليه النفعية المباشرة للخروج من مأزق الخصم".. فمن كل هذا يتضح أن الدكتور يعامل الأستاذ محمود ودعوته على اعتبار أنها دعوة تجديدية، وكدعوة تجديدية ينقصها ما ذكره، حسب زعمه!! .
وتوكيداً لسلفية الأستاذ بزعمه، يقول: "إنّ النفعية والتعامل الذاتي مع النصّ والنظرة التمجيدية تمثّل حدودًا مشتركة بين طه والفكر السلفي عمومًا!!"، ويقول في نفس الإطار: "إنّ فكر طه، وإن كانت تعوقه حدود عدّة، بقي، وإن أوهم موقفه بالجدّة، في دائرة الفكر السلفي الإصلاحي"، لقد سمعنا الكثير جداً، من التشويه المتعمد، خصوصاً، من جماعة الاسلام السياسي، والسلفيين، ولكننا لم نسمع قط من اتهم الأستاذ محمود ودعوته بالسلفية، والذاتية، وعدم الموضوعية، والنفعية.. هذا أمر ينفرد به الدكتور ونحن لنا اليه عودة، ولكن ما يعنينا هنا هو منطلق الأستاذ محمود ودعوته، هل الدعوة دعوة للتجديد؟! وهل الأستاذ محمود داعية تجديد؟!.
هذا المدخل الذي دخل منه الدكتور، وبدأ به كتابته، وختمها به، ليس له أي وجه من الصحة!! الأستاذ محمود ليس داعية تجديد، ولا دعوته دعوة تجديد، وهذا أمر يلحق بالبداهة لمن اطلع على الدعوة.. والدكتور، على الأقل، يُفترض فيه أنه اطلع على كتاب الرسالة الثانية من الاسلام!! .
مجرد اسم الكتاب: (الرسالة الثانية من الاسلام) يدحض مزاعم الدكتور.. الدعوة تقوم على (رسالة ثانية من الاسلام).. والرسالة لا يمكن أن تكون مجرد تجديد!! وما هي الرسالة الثانية؟ هي أصول القرآن، التي كان يعيشها المعصوم في خاصة نفسه، يقوم عليها العمل الفردي، والعمل الجماعي، في تنظيم المجتمع في جميع مجالاته.. وهذه الأصول هي الاسلام الأخير، الذي لم يحققه في التاريخ سوى الأنبياء، مطروحة في وقتنا الحاضر، لتقوم عليها (أمة المسلمين) لأول مرة في التاريخ، وبها تدخل البشرية، ولأول مرة في التاريخ مرحلة الإنسانية، وهي مرحلة يدخلها الفرد من البشر المعاصرين بقفزة هائلة، تشبه القفزة من مرحلة الحيوان الى مرحلة البشر!! وهذه قمة الكمال الموعود في الأرض.. وبها تتحقق جنة الأرض، ويسود السلام في البيئة كلها، حتى أن شجر الشوك يفقد شوكه لعدم الحاجة اليه.. وكل هذا مفصل في الكتب الثلاثة التي ذكر الدكتور أنه اطلع عليها.. المهم أن دعوة الأستاذ محمود، دعوة لبعث ديني جديد، به تتوج جميع رسالات السماء، ويتوج كل الجهد البشري في التحضر والتمدين.. فإذا قال الدكتور أنها مجرد إصلاح، فنقول له ببساطة، أنت خارج الموضوع!!.
والأستاذ محمود كمبشر بهذه الدعوة، لا يعلق به القول أنه مفكر تجديدي!! هو عارف بالله!! ومنهج المعرفة بالله، يختلف بصورة جذرية، عن منهج الفلاسفة والمفكرين التجديديين.. العارف يتلقى علمه عن الله من القرآن!! وهذا واضح جداً في كتاب الرسالة الثانية، ومنذ المقدمة.. موضوع العارف هو الإذن الالهي، فهو لا يتحدث إلا بما له فيه إذن من الله.. هذا في حين أن الآخرين فكرهم يقوم على الفكر المجرد، وحتى دون ان تكون هنالك رياضة للعقول.. الدين يقوم على عقل المعاد، والفلسفة تقوم على عقل المعاش.. منهج الدين يقوم على العمل، يقوم على قوله تعالى: "وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ".. ويقول المعصوم: "من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم".. الدين كله يقوم على خلق العلاقة بالله.. وهذا ما يدعو له الأستاذ محمود.. وخلق العلاقة إنما يكون بالعمل بالقرآن ـ كلام الله ـ واتباع النبي (صلى الله عليه وسلم) وتقليده في عبادته، وفي ما يطاق من عاداته.. دعوة الأستاذ محمود للمسلمين، ومن بعدهم لجميع البشر، هي دعوة لطريق محمد) صلى الله عليه وسلم)، وقد صدر كتاب (محمود محمد طه يدعو الى طريق محمد) في هذا الصدد، كما صدر كتاب (تعلموا كيف تصلون) وهو يحتوي على تفاصيل منهج الطريق..
إنه أمر عجيب جداً أن يؤخذ على داعية اسلامي، أنه يمجد الاسلام، ويمجد القرآن!! كما فعل السيد الدكتور.. في الاسلام، من لا يمجد القرآن، ولا يمجد النبي الكريم، وهو محروم من الدخول في حضرة الدين.. الأستاذ يمجد القرآن، لأنه مجيد، ومن المجيد!! يقول تعالى عن القرآن: "بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ" .. ويقول: "ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيد"ِ".. ويقول تعالى عن نفسه: "رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ".. ويقول: "وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيد"ُ.. وتمجيد المعصوم وتمجيد القرآن عند السالك المجود يتسامى الى أن يكون معرفة بالحقيقة المحمدية!! .
أستطيع أن اقول، إن الدكتور الفاضل، حسب كتابته هذه، عن دعوة الأستاذ محمود، يكاد يكون، بصورة مبدئية خارج الموضوع!! وتفاصيل أقواله تؤكد ذلك تأكيداً شديداً، فلنر..