إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

"الضحية" اليوم فداء الحيوان "بعلم التوحيد"!!

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


بسم الله الرحمن الرحيم
(لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ).
صدق الله العظيم

في عهد النبي موسى عليه السلام، كان السحر لغة العصر فقاد موسى مواجهة مع السحرة فانتصر عليهم ومن ثم خضعوا له وآمنوا به، وكذلك قام النبي عيسى عليه السلام بإبراز علم الطب وكان لغة عصره كذلك، كما أبرز القرآن فصاحة اللغة في مواجهة فخر العرب بأشعارهم، فبزهم وبهرهم بحلاوته وبلاغته، وقد ورد في القرآن في هذا الباب: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ".. وقد نزل الإسلام على مستويين: المستوى العلمي وهو السنة التي كان عليها عمل النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في خاصة نفسه.. والمستوى العقائدي وهو الشريعة المرحلية التي طبقتها الأمة في المدينة بعد أن ثبت عمليا عجزها عن التزام السنة.. وبما أن النبي الكريم قد بشر بأن الإسلام سيعود في المستقبل ببعث السنة، فإن هذا التحديد يعني أن للإسلام لسان "علم النفس" في عصرنا الحالي.. والإشارة إلى المستويين واردة بكثرة في القرآن والسنة، ويكفي أن نورد الآية: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ"، فالذين "آمنوا" تشير إلى مستوى العقيدة، والذين "أوتوا العلم" تشير إلى مستوى العلم.. ولذلك فإن على المسلمين واجب أن يطهروا أنفسهم من أمراض النفوس بعلم التوحيد، حتى يتمكنوا من إبراز الإسلام كعلم نفس له القدرة على تخليص الإنسان من النزعات الحيوانية مثل اتخاذ العنف منهجا بديلا للحوار الفكري..
قال الأستاذ محمود في إحدى زياراته لحديقة الحيوان السابقة بالخرطوم: إن الإنسان كلما زار الحديقة، وشاهد بالتجسيد الحي السلوك الحيواني المشترك بين جميع الحيوانات كالشره والحرص والاتجاه إلى العنف، فإنه يحس بالتفوق الإنساني عنده، مهما كان مستواه، ومن ثم يخلف طرفاً من "حيوانيته" فيها، ويتعزز بفضل هذه المشاهدة الحية السلوك الإنساني عند الزوار عامة باستمرار على حساب السلوك الحيواني..
والتخلص من صفات الحيوان في الإنسان يقرب الإنسان إلى الله، فالأصنام اليوم ليست هي الأصنام الحسية التي كانت في عهد المستوى العقائدي في القرن السابع الميلادي، كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، وإنما هي أصناما معنوية قابعة في داخل النفس البشرية كالحرص والبخل والشره وجميع مذام الصفات الموروثة فينا من الحيوان، وهي السبب الأساسي في الخوف والعنف وكل ما يعرف بأمراض المدنية كالقلق والتوتر وإدمان المخدرات.. وإنما يتم التحرر من عبادتها بتحقيق كلمة التوحيد من جديد، بمعنى جديد كان عليه النبي الكريم، ويقوم على أن الفاعل واحد هو الله وليس هناك فاعل غيره في الوجود، ولذلك فإن كل ما يحدث من أفعال إنما وراءه حكمة، والمطلوب منا أن نتعمق في خلق علاقة بالله وصلة به لنفهم عنه أسرار فعله فينا، وفي بيئتنا ومن ثم نسلم له وننقاد فنلقح الإرادة بالرضا..
وكلمة التوحيد التي كانت في المستوى العقائدي تعني "لا معبود بحق إلا الله" فإنها تعني في المستوى العلمي "لا فاعل لكبير الأشياء ولا لصغيرها إلا الله"!!
وقد فدى النبي صلى الله عليه وسلم أمته بأن ضحى عنها، فأسقط الضحية عن كافتها!! جاء في تفسير ابن كثير الجزء الرابع صفحة 642 (عن علي بن الحسين عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتى بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: (اللهم هذا عن أمتي جميعاً: من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ) ثم يأتي بالآخر فيذبحه بنفسه ثم يقول: (هذا عن محمد وآل محمد) فيطعمهما جميعاً للمساكين، ويأكل هو وأهله منهما. رواه أحمد، وابن ماجة..) ثم يمضي ابن كثير فيقول ، في صفحة 646: (وقد تقدم أنه عليه السلام ضحى عن أمته فأسقط ذلك وجوبها عنهم).. فالنبي الكريم بضحيته عنه وعن آل بيته، وعن أمته إنما فعل سنة أبيه إبراهيم على حد تعبيره في الرد على من سأل: ما هذه الأضاحي يا رسول الله!؟ فأجاب: هذه سنة أبيكم إبراهيم.. فالنبي إذن، فعل سنة أبيه إبراهيم، وقد كانت سنة عادة، فاختتمها، وفدى أمته عنها وافتتح عهداً جديداً للتقرب إلى الله بالعلم، وفدى أمته بالفكر، لا بالحيوان، وهو وفي نفس الوقت، إنما جارى عادة سائدة، فهذبها وتسامى بها، وفتح الطريق إلى ما هو خير منها..
ولعله من الواضح جدا في هذا العمل النبوي ارتباط تطوير الضحية بالتوحيد "اللهم هذا عن أمتي جميعا من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ" فقضية الضحية في أساسها، لا علاقة لها بالغنى والفقر، ومن أسوأ ما يذاع من الأئمة في خطبة عيد الأضحى عندنا اليوم، قولهم: "لا تحزن أيها الفقير فقد ضحى عنك البشير النذير" وهو لا يختلف اثنان في أنه مخالفة غليظة للنبي الكريم تستوجب توبة تصوحة بجميع أركانها: الإقلاع الفوري والندم على ما مضى والإصرار على عدم العودة!!
وفي تاريخ البشرية الطويل كان التقرب إلى الآلهة يتم بذبح الإنسان على المعابد كظاهرة "عروس النيل" المعروفة في تاريخ مصر القديم، ثم تطور من الزمن وتحول إلى ذبح الحيوان بدلا عن الإنسان كما نعرف من قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام حين أقبل على ذبح ابنه اسماعيل وتم فداء الابن بالحيوان.. وفي هذا الإطار يجئ من أصول القران، الفهم العلمي الذي يدعو للانتقال باستمرار من الخارج إلى داخل النفس البشرية، والعمل على تهذيبها وتنقيتها من صفات الحيوان نحو صفات الإنسان..
جاء في (سبل الإسلام) صفحة 96: (واخرج البيهقي من حديث عمرو بن العاص أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله عن الضحية وأنه قد لا يجدها فقال: (قلم أظافرك، وقص شاربك، واحلق عانتك، فذلك تمام أضحيتك عند الله عز وجل!! – ورواه أبو داوود في (سنن أبي داوود) الجزء الثالث صفحة 93. وفي هذا الحديث إشارة لطيفة إلى استبدال الضحية بالحيوان بعمل يتجه إلى تهذيب بقايا الموروث الحيواني في البشر أنفسهم وهي الشعر والأظافر، مما يفتح الطريق أمام قيمة جديدة هي أن يفدي الإنسان نفسه، بتهذيب نفسه، لا بكائن خارجه إنساناً كان أو حيواناً!!
وهذه النهاية كانت جميع التجارب السابقة العنيفة بالفرد البشري وبالحيوان مقدمة لها، ولذلك فإن التقرب إلى الله اليوم، قولا واحد، إنما يكون بالتخلص من صفات الحيوان فينا وليس بذبح الحيوان خارجنا بأي حال من الأحوال، ونحن نحب أن تكون هذه الحقيقة مركزة في الأذهان لأنها أساسية في أمر الدين وبدونها لن تقوم للمسلمين قائمة في عصرنا هذا..
إذن الضحية بالحيوان التي يقوم بها المسلمين اليوم غير واجبة لا على الفقراء ولا على الأغنياء!! بل الواجب تركها بتطويرها في نقلة علمية بالانتقال من ذبح الحيوان إلى التخلص من صفات الحيوان فينا، فهي في أساسها كما قررنا لا علاقة لها بالغنى أو الفقر وإنما تحتوى على قيمة تربوية عميقة متجذرة في تاريخ تطور النفس البشرية وهي فداء الكامل بالناقص..
ونسوق فيما يلي أدلة أخرى على إسقاط الرسول الكريم للضحية عن أمته:
1- جاء في "سبل السلام" الجز الرابع ، صفحة91 : (وقد أخرج مسلم وغيره من حديث أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسل: (إذا دخلت العشر فأراد أحدكم أن يضحي فلا يأخذ من شعره شيئاً) قال الشافعي: (إن قوله "فإذا أراد أحدكم" يدل على عدم الوجوب)، وفي (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) ، الجزء الأول صفحة 464 مثل هذه الرواية ومثل هذا التعقيب..
2- وتدل الروايات على أن النحر قد كتب على الرسول الكريم، ولم يكتب على أمته، قياماً عنها بسنة هذه العادة الموروثة، وفداء لها بإسقاطها عنها.. فقد أورد (سبل السلام) في نفس الصفحة السابقة: (ولما أخرجه البيهقي أيضاً من حديث ابن عباس قال: ثلاث هن على فرض ولكم تطوع وعد منها الضحية. أخرجه أيضاً عن طريق آخر بلفظ: (كتب علي النحر، ولم يكتب عليكم) .. فالنبي الكريم ضحى إسقاطاً لوجوبها على أمته، وضحى أصحابه تطوعاً، لا وجوباً، وكبارهم، وعلماؤهم وأثرياؤهم تركوها فلم يضحوا، عملاً بحكم إسقاطها)..
3- جاء في تفسير ابن كثير الجزء الرابع صفحة 646 (وقال أبو سريحة كنت جاراً لأبي بكر وعمر وكانا لا يضحيان خشية أن يقتدي الناس بهما) وجاء في سبل الإسلام الجزء الرابع ص 91: (وأفعال الصحابة دالة على عدم الإيجاب – إيجاب الضحية – فأخرج البيهقي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما كانا لا يضحيان خشية أن يقتدى بهما)، وجاء في (الاعتصام) للشاطبي الجزء الثامن صفحة 91 (وكان الصحابة رضي الله عنهم لا يضحون – يعني أنهم لا يلتزمون)..
وهكذا .. ولو لم تسقط الضحية عن الأمة لكان الأصحاب ، وعلى رأسهم الشيخان أولى الناس بأدائها.. وأبو بكر هو من عرف بتحري الاتباع والتجافي عن الابتداع وقد أورد عنه كتاب (الاعتصام) للشاطبي في صفحة 55: (وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: لست تاركا شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، أني أخشى أن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ)!!
وبعد فهل عسانا نحتاج بعد قول النبي الكريم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وأقوال صحابته، وأفعالهم إلى دليل نقلي آخر لسقوط الضحية في حق الأمة؟؟