إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

من دفتر ذكريات فاس: الأشجار تموت واقفة

د. عبد الله صالح أبوبكر


بثت إذاعة (ميدي1) المغربية من طنجة صباح الجمعة 18 يناير1985م خبر إعدام المفكر الشهيد محمود محمد طه في مشنقة سجن كوبر بالخرطوم بعد أن رفض الدكتاتور المخلوع جعفر نميري جميع الوساطات والنداءات الدولية وانساق وراء الهوس الديني الذي سكن نفوس فقهاء وقضاة نظامه الهالك حين حكموا بإعدام هذا المجتهد السبعيني ... هرعت فورا إلى منزل صديقي وزميلي مصطفى أحمد عبدالرحمن وقررنا أن نذهب مباشرة إلى منزل العلامة الراحل عبدالله الطيب بفاس لنعزيه في هذا المصاب الفادح... سبق لنا في آخر زيارة - ضمن سلسلة الزيارات الحميمية الراتبة لمنزله ومنزلته - قد استمعنا إلى حديث شيق عن اجتهادات وآراء الأستاذ الشهيد و لمحنا في الحوار معه شيئا من الحزن والارتياب او التخوف من إقدام النميري على ارتكاب حماقة التصديق على حكم الإعدام لتأكيد التزامه المزعوم بتطبيق الشريعة الإسلامية في السودان في حمأة الهوس الديني يومذاك.... فاجأنا العلامة الراحل حين قرأ علينا نص قصيدته الشهيرة الفريدة (مصاب و حزن) التي كتبها بقلمه وسطرها بفؤاده بل : سكب جماع كيانه شعرا في رثاء المفكر الشهيد الذي كان يحتفظ منه وله بمنزلة في قراءة خاصة: وطني مجاهد/ واديب منشيء/ مفكر صنديد... وهي القصيدة التي يمكن قراءتها بتأويل خاص يرفعها إلى مقام تتنزل منه وفيه منزلة الفتوى الفقهية بالنظر إلى المقام العلمي والفكري للعلامة الذي قال "يقولون مارق. ..وهو عندي شهيد". وهي القصيدة التي صفع بها القتلة والظلم والظلاميين.
غير بعيد عن هذا المقام مقال شعري سطره قلم صديقنا الشاعر الألمعي عالم عباس في حق المفكر الشهيد في ديوانه (من شمس المعشوق إلى قمر العاشق):
"أنت الأغلى و الأعلى والأنبل"
رجعت إلى غرفتي في غربتي الفاسية يومذاك مسكونا حد الامتلاء بما غرفته فغمر عقلي وروحي من وفي حضرة العلامة عبدالله الطيب... أمسكت القلم فانسكب المداد وسطرت مقالي الحاوي لقراءتي وموقفي من مسار نضال وفكر وكتب الشهيد فجاء العنوان (محمود محمد طه: قراءة بلا رثاء.... الأشجار تموت واقفة) ...سافرت الى الرباط بالكار (=الحافلات العتيقة) واستقبلني الصديق الصدوق الشاعر الفحل محجوب البيلي بفؤاد منفطر ودخلنا في دوامة حوار تارة متصل وأخرى منفصل عن المفكر الشهيد والوطن الحزين.... كان يشتعل و...، يشتغل عندها على تخمير قصيدته/ الأسطورة "عزة قصيدتي" التي أتحفنا بها في قراءة منبرية صادقة وصادعة بالحق .... في المنتدى الذي نظمناه - الطلاب والجالية - بقاعة با حنيني بوزارة الثقافة بالرباط غداة احتفالاتنا بإنتصار ثورة أبريل المجيدة 1985م .
يممت وجهي صوب مكتب جريدة أصدقائي في جريدة (العلم) لسان حال حزب الاستقلال المغربي فاعتذروا بلطف بليغ عن نشر المقال كما أعتذر الآخر في جريدة (الميثاق الوطني) .... ذهبت لمقر جريدة (أنوال) الأسبوعية اليسارية المغمورة والتقيت برئيس التحرير الصديق النبيه الأستاذ طالع سعود الأطلسي فاستقبلني هاشا باشا بكوب من القهوة (=الكحلة) ودفع المقال للنشر: تضامنا مع ارهاصات الثورة ومحبة والتزاما برسالة الفكر والتنوير.... تم نشر المقال الذي عرف بمقام المفكر الشهيد في المشهد الثقافى المغربي من جهة وفتح جبهة للنقاش مع نخبة من الكتاب و المثقفين المغاربة واساتذتي بشعبة الفلسفة وأخص منهم بالذكر أستاذي د.محمد المصباحي وهو من كبار الباحثين الرشديين.... عند عودتي الى الساحة.... و ما أدراك ما الساحة حينذاك .... بجامعة فاس: معقل النضال ومحاضن المناضلين.
انتهزت فرصة وجودي كرهين للمحبسين:كرونا وحظر التجوال هذه الأيام لأعود بمزاج جارف الي مكتبتي فتناولت الكتاب الضخم الذي حرره الصديق الباحث عبدالله الفكي البشير (محمود محمد طه و المثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ) 1278 صفحة - كمناسبة والمناسبة شرط كما يقول الفقهاء - لتجديد ثلة الوصل بالحوار مع قطعة من التاريخ الفاسي الأصيل.