إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..
عندما يموت الضمير وتسوء الأخلاق وتصبح كلمة الحق شيئاً مائعاً ولزجاً من السهل بلعه وابتلاعه دون عناء أو تعب .. عندما يعم وباء السكوت والتغاضي .. تعلو طحالب الباطل وتبين .. مما ران على القلوب من غشاوة السطحية والغرض .. كأنها الثم الرواسي .. تنقلب المقاييس وتضطرب الموازين .. وتنهار القيم .. ويعيش الإنسان في متاهات دونها متاهات لا متناهية .. وليست لها حدود.
في مثل هذه الحالة يتسلق الذرائعيون والوصوليون وذوي الأغراض قمم التوجيه والإرشاد ويتحولون إلى قديسين وأطهار .. وأبطال .. ويتحولون بقدرة. مثل هذا الواقع. إلى موزعين لأقدار الخلق وإلى أوصياء عليهم وأولياء على الحياة نفسها.
وعندما يصبح قولهم الحق ورأيهم الحكمة وخلقهم هو الجمال نفسه .. وهذه باختصار هي مرحلة انهيار القيم العليا عند الإنسان وانطماسها .. وهي الحالة التي يصبح فيها الخير شراً والعدل ظلماً والجمال قبحاً والحكمة ضرباً من ضروب الغباء.
في مثل هذه الحالة على اللبيب أن يتدارك نفسه من احن الليالي وعلى المؤمن أن يقي نفسه فتنة الباطل ويفر بدينه إلى الله فالعاض على دينه كالعاض على الجمر .. صدق رسول الله ..
هذا هو عين الواقع الذي نعيشه هذه الأيام في الأحداث الكبيرة التي تمر ببلادنا اقال الله عثرتها ويسر لها من المخلصين من يعرف داءها .. ويعمل على دوائها .. ويعمل جاداً على تخليصها من ضعفها الذي بدأ يستثمره كل راغب في أن يضع لنفسه عرش سليمان!!
آخر هذه الأحداث .. ذلك الافتراء الشنيع على المفكر السوداني المسلم محمود محمد طه والذي حكم بردته استغفر الله من كلمة الكفر تطلق على رجل يقول ربي الله !!
لا أريد أن أدلي برأي في الموضوع كدعوى قضائية فهذا من شأن آخرين أجدر ..
أما الذي أرجو أن أوفق في القاء الضوء عليه هنا هو صدى هذا الحادث والمدلول [...] عليه شخص غني عن كل تعريف مع أنه في أمس الحاجة إلى أن يعرف وتعرف الفكرة على حقيقتها بعيدة عن عمليات التشويه والتشويش. وعملية المصادرة السريعة للمخالفين في الرأي.
فمحمود حسب رأيي ورأي كل من يعرفه رجل ثاقب الفكر صافي الذهن عميق الإيمان وهو فوق هذا يتمتع بخلق رفيع زد على ذلك هو رجل عادي بكل ما تحمل كلمة " عادي " هذه من البساطة والتبسيط ليس على أبوابه حراس لا يضع بينه وبين الناس حجاب يمكنك أن تلقاه في داره في مكتبه مستعد لأن يلقاك أن يتحدث إليك أن يحاضر في أي مكان في أي زمان .. على استعداد مستمر ليقدم فكرة الأصيل. كم مرة دعا العلماء؟ كم مرة دعا السياسيين؟
ولكنهم لا يلبون لست أدري لماذا؟ وإذا تحدث في داره في المنابر العامة في الجامعة في المعهد فهم لا يحضرون وإن حضروا لا يشتركون " لماذا ".
ومن يحضر يخشى على علمه على اللافتة الأنيقة التي يحملها على الهالة .. على أن يعلم مداه وبعده من يشاهد ويستمع .. فتحدث الطامة .. ويقع ما يخشون ويعملون على عدم وقوعه!!
من أجل هذا يفضل علماء الإسلام ودعاته وحماة عقيدته والحادبين على عقائد الناس من التصدع أن يتصيدوا اخبار محمود وآراءه من أفواه من لا يؤخذ عنهم علم وقد يكون منهم من لم ير محمود البتة .. فمحمود لا يلي لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر .. ومحمود منته .. ومحمود قال لجماعة كذا ومحمود قال البلد " كذا " .. الخ
بمثل هذه الأقاويل كانت تتكون كثير من خطبا لجمعة في المساجد والزوايا وتنتقل إلى الناس باعتبار أنها أفكار محمود مع تذييلها بالحث والتوصية مما تجود به قريحة العالم النحرير!!
في أيام الحكم العسكري قامت جماعة من أجل العلماء باستعداء السلطة على محمود وحرمانه من الكلام حماية للإسلام ولعقائد المسلمين من الزيغ .. وكان من أجل ذلك محاولة إلغاء محاضرته عن الصلاة في الجامعة ومؤاخذة الاتحاد يومها!!
والتحدث في هذا الموضوع يطول والأدلة والشواهد لا يمكن حصرها لست جمهورياً ولكن ليس لعيب في الفكرة الجمهورية وإنما العيب فيّ أنا شخصياً ..
وقديماً قيل " رحم الله إمرء عرف قدر نفسه " فالجمهوريون قوم خلص .. ولا أزكي أحداً على الله.. ولكن العلم بالشئ فرق عن تصوره.. يعبد الفرد منهم الله كأنه يراه .. بكثير من التجرد والخلوص وهذه في زماننا .. نادرة النوادر .. بل أندر من لبن الطير!!؟
والجمهوريون قوم ذوو خلق رفيع .. والفرد منهم خير صورة للتطبيق العملي للتربية الإسلامية الحقيقية وتخالهم من فرط التمسك مصاحف تتعامل مع الناس .. فهم أطهار متفانون ومؤثرون وفوق هذا هم جادون في طلب الحقيقة والحرية لهم ولسواهم..
الجمهوريون هم الأصلاء .. الذين يرون في الإسلام الحل الحاسم والدواء الناجع لمعضلات البشرية ومشاكلها في مشارق الأرض ومغاربها إذا ما فهم الإسلام الفهم الصحيح المستمد من القرآن الكريم الذي لا يتحدث وإنما يتحدث عنه الرجال كما يقول علي كرم الله وجهه لهذا هم يرون ان الإسلام بكماله هو الذي سينهي هذه التناقضات التي تعاني منها البشرية إذا ما فهم بفكر صاف .. وانعتاق لا يشوبه التقليد الأعمى والاستلاف اللا واعي.
ومحمود محمد طه صورة صادقة للداعية المسلم الذي يقدم لك المصحف بلا ترغيب ولا ترهيب ولكن يقدمه لك لأنك أنت في عصرك ذي المشاكل الطاحنة والظروف المعقدة .. والأزمة المعقدة والقلق المتجدد تبحث عن الحل والخلاص مما أنت فيه والحل والخلاص عند الجمهوريين في كتاب الله وفي طريق محمد عليه الصلاة والسلام غذا فهمها بما يستحقانه من صفاء الذهن وسلامة الطوية والتجرد من الغرض وابتغاء المصلحة.
ليس هذا دفاعاً عن محمود محمد طه ولا عن أفكاره ! .. فأنا أصغر من أن يدافع عن محمود خاصة في مثل هذه الظروف .. ومحموداً أكبر من ان يحتاج إلى دفاع أمثالي !!
لكن الذي دفعني لتسجيل هذه الخواطر هو إحساس [...] كقيمة مجردة والخوف عليها من عملية المصادرة لها بسبب أو بغير سبب أو لا وهي المسببات.
الحرية التي بدأن يشعر بها الإنسان وبخطورة فقدها منذ اليوم الأول لانخراطه في مسلك حياة الجماعة وبدأ شعبنا منذ فجر تاريخه يكافح عنها ومن أجلها على الأقل كمطلب عام يجب أن يتضمنه الدستور خاصة والدستور على الأبواب لأهميتها لحاجة الناس إليها على الأقل.
أما أن تصادر حرية محمود أو أي فرد. أن يتهم في أكرم مقدساته في إيمانه .. أعز مقدراته بمستوى: لقد انتشر الفساد والضلال في محاربة الرياضة وبمستوى : " السينما سودنما " في محاربة دور الملاهي والفجور وبمستوى: " ليس للنساء صوت. وإنما صوتهن همس في السرير " في حالة محاربة إعطاء المرأة حق التصويت باعتباره أمر يحرمه الدين!!
فهذا لعمر الحق سخرية ومسخرة .. وأن على صاحب كل فكر أن يهيء نفسه فالليالي حبالى .. وقديماً قيل. كان شفت أخوط زينو أخير تنبل .. بكسر التاء ..
تذكرني حادثة تكفير السيد محمود محمد طه بفتوى كبار العلماء بالأزهر الشريف عام 1954 أيام مشكلة الإخوان المسلمين والتي حكم فيها بإعدام عدد من خيرة علماء الإخوان المسلمين على رأسهم عبدالقادر عودة ومحمد فرغلي رحمهما الله.
فقد أفتى كبار علماء الأزهر بتكفير جماعة الإخوان المسلمين وخروجها عن الإسلام وقالت الفتوى أن حكم الإسلام فيهم وهو حكم الله يومها .. أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف .. الخ.
فما رأي الإخوان المسلمين وعلمائهم في فتوى علماء الأزهر الشريف يومها على اعتبار أنها رأي الإسلام.
ثم هل بمثل هذه المصادرة لأفكار السيد/ محمود محمد طه أو أفكار أي مخالف في الرأي غيره .. هل سيرتاح الذين يسكنون في بيوت من زجاج ويخشون على أشيائهم الثمينة من الضياع والتلف؟ هل سيرتاحون وهل سيظل عقل الشعب في أذنيه إلى الأبد؟ أنا شخصياً .. واستغفر الله من هذه " الأنا" لا أظن ذلك إطلاقاً؟
فالفكرة الخاطئة لا تدحضها إلا الفكرة السليمة .. والحجة الواهية لا تهدها إلى الحجة القومية المدعومة والرأي لا يذيبه إلا أقوى منه فلو كان لمثل هذه الأحلام الوردية أن تثمر عنباً! لما أصبح الأخدود الذي حفره يوسف ذو نواس للمسيحيين سنة 523م قصة يعظنا بها القرآن الكريم ولما تحولت محاكم التفتيش إلى تاريخ نأخذ منه العبر .. والدروس .. إن لم يكن يقرأ من أجل الاستمتاع.
وعليه .. يجب ألا تمر هذه الأحداث الجسام التي تعيشها بلادنا في فترة اصطراع الآراء فيها .. بل يجب أن تستنبط منها العبرة اللازمة ونأخذ منها الزاد الذي نحتاجه في مسيرة حياتنا فالشعوب تتعلم من تجارب الآخرين .. ناهيك عن تجاربها هي .. فالإنسان يمتاز على سائر أصناف الحيوان بأن يجعل من المحادثة العفوية سابقة يستعين بها .. تجربة يستخلص منها معاني .. فالاختلاف دليل الحيوية .. والخصوبة إذا ما تحلينا بفضيلة التسامح والانضباط وتزودنا بالشجاعة والصبر!!
لذا يجب علينا أن نفكر بعقولنا وأن تخرس السنة عواطفنا لأن العاطفة عمرها قليل والاقتناع ليس كمثله فضيلة إلا الإقناع .. لأن " الشارع " ليس هو الحكم الفصل رغم لجوئنا إليه كثيراً هذه الأيام فهو أكثر زئبقية من العاطفة الجامحة.
تذهب العاطفة الجياشة .. ويبقى الفكر الراسخ الذي لا تستطيع الزوابع أن تعبث به أو تزعزعه .. والشارع نحفظ كرامته وكبرياءه بدلاً من هذا الاستقلال ..
وأخيراً لا خير فينا إن لم نقلها ولا خير فيكم أن لم تسمعوها .
عمر علي أحمد
حلفاية الملوك
المصدر: ملحق رقم (78)، ضمن: عبدالله الفكي البشير، الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف، دار باركود للنشر، الخرطوم، 2020