إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

التشريع الإسلامي بين أصول القرآن وفروعه
الحلقة الثانية

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


٨ مايو ٢٠٢٥

تحدثنا عن السنة وقلنا إنها تعني عمل النبي عليه الصلاة والسلام في خاصّة نفسه.
وقد كانت معاملته لكل الناس قمة في الإنسانية، كما جاء في الحديث:
"الخلق عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله"
وقد كرّم القرآن بني آدم كافة دون تمييز، قال تعالى:
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ (الإسراء: 70)
وعندما مرّت جنازة يهودي، وقف النبي الكريم، فقال له بعض الأصحاب: إنه يهودي يا رسول الله!
فردّ عليهم: "أليست نفسًا بشرية؟!"
وبوحيٍ من روح أصول القرآن هذه، رحّب النبي بدعوة عبيد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول، زعيم المنافقين، ليتولى تجهيز والده ويكفنه ببردته ويصلي عليه. وقد فعل النبي كل ذلك رغم اعتراضات عمر بن الخطاب في الميدان، بألا يصلي عليه، وحاول إبعاد بردة النبي حتى لا يُدفن ابن سلول فيها.
لكن نزل القرآن مؤيدًا موقف عمر، ومنع النبي بعدها من الصلاة على المنافقين، وكان هذا نزولًا من المستوى العلمي في الأصول إلى الفروع، فرضه واقع الناس.
وقد أشرنا في الحلقة الأولى أن عمر كان يمثل قمة المستوى العقائدي، ولذلك دائمًا يقرّ القرآن رؤيته شريعةً عامة للمجتمع.

نطالع ما جاء عن هذه الحادثة في تفسير ابن كثير، أخذًا عن البخاري:
حدثنا عبيد بن إسماعيل، عن أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال:
لما توفي عبد الله - هو ابن أبي سلول - جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله ﷺ، فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول الله ﷺ ليصلي عليه، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله ﷺ فقال:
"يا رسول الله، تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟!"
فقال رسول الله ﷺ:
"إنما خيّرني الله فقال: (ٱسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ۖ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَهُمْ) وسأزيده على السبعين"
قال: إنه منافق!
قال: فصلى عليه رسول الله ﷺ، فأنزل الله عز وجل:
﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍۢ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًۭا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ۚ إِنَّهُمْ كَفَرُوا۟ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَمَاتُوا۟ وَهُمْ فَـٰسِقُونَ﴾ (التوبة: 84)

وأحب أن أذكر دقّة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتمسكه بالحق ولو على نفسه، فعندما حضره الموت، طلب من حذيفة بن اليمان، خبير المنافقين، أن يخبره هل اسمه ضمن المنافقين الذين حدّدهم له النبي ﷺ!
فأقسم حذيفة له أنه ليس منهم. ورغم ذلك، أوصى ابنه عبد الله أن يتأكّد عند الصلاة على الجنازة في المسجد: هل حذيفة موجود في الصفوف؟ فإن كان غائبًا فادفنوني في أي مكان، ولا تجعلوا قبري في حجرة عائشة مع النبي وأبي بكر.
الشاهد أن حذيفة حضر الصلاة، فدُفن عمر بن الخطاب مع النبي وأبي بكر.

نواصل إن شاء الله.