إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

التشريع الإسلامي بين أصول القرآن وفروعه
الحلقة الثالثة

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


٩ مايو ٢٠٢٥

الأسر كان واقعًا قبل الإسلام كإفرازٍ للحروب، فورثه الإسلام. وكان الأسير يُحكم بثلاثة خيارات: يُعفى، أو يفدي نفسه بالمال، أو يُقتل.
وقد أمر الإسلام بإحسان معاملة الأسير، قال تعالى:
﴿وَيُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ مِسْكِينًۭا وَيَتِيمًۭا وَأَسِيرًۭا﴾ (الإنسان: 8)
وجاء في تفسير الطبري للآية:
﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ ۖ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا۟ ٱلْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّۭا بَعْدُ وَإِمَّآ فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ ۖ وَلَوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍۢ ۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُوا۟ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ﴾ (محمد: 4)
قال الطبري:
"يقول تعالى ذكره لفريق الإيمان به وبرسوله: (فإذا لقيتم الذين كفروا) بالله ورسوله من أهل الحرب، فاضربوا رقابهم.
(حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) أي حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم، فصاروا في أيديكم أسرى، فشدوهم في الوثاق كي لا يقتلوكم، فيهربوا منكم.
(فإما منًّا بعد وإما فداءً) أي فإذا أسرتموهم بعد الإثخان، فإما أن تمنّوا عليهم بعد ذلك بإطلاقكم إياهم من الأسر، وتحرروهم بغير عوض، أو أن يُفادوكم فداءً بأن يعطوكم من أنفسهم عوضًا حتى تطلقوهم."
وهكذا حدّدت هذه الآية خياري: إطلاق سراحهم، أو فداؤهم بالمال.
فاتفق النبي ﷺ وأبو بكر لاحقًا على أخذ الفداء من أسرى بدر، ومن ليس له مال يفدي نفسه بتعليم عشرة من صبيان المدينة القراءة والكتابة.
ولم يأخذ النبي عليه الصلاة والسلام برأي عمر، المحدد الصريح، وهو قتلهم جميعًا بلا تردد.
لكن القرآن نزل مؤيدًا لرأي عمر، ومعاتبًا النبي ﷺ على أخذ المال كفدية، قال تعالى:
﴿مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِى ٱلْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ يُرِيدُ ٱلْآخِرَةَ ۗ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿67﴾ لَّوْلَا كِتَـٰبٌۭ مِّنَ ٱللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿68﴾ فَكُلُوا۟ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَـٰلًۭا طَيِّبًۭا ۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌۭ رَّحِيمٌۭ﴾ (الأنفال: 67–69)
الشاهد في الأمر أن عمر بن الخطاب كان يعبر عن واقع الناس في ذلك الوقت، ولذلك تنزل فروع القرآن على رأيه، ناسخةً أصوله العلمية، بمقتضى حكم المستوى العقائدي صاحب الوقت.

وهذه تفاصيل أوفى في الطبري:
ورد عن عبد الله بن عباس قال:
"لما أسروا الأسارى يوم بدر، قال رسول الله ﷺ: أين أبو بكر وعمر وعلي؟ قال: ما ترون في الأسارى؟
فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم بنو العم والعشيرة، وأرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام!
فقال رسول الله ﷺ: ما ترى يا ابن الخطاب؟
فقال: لا والذي لا إله إلا هو، ما أرى الذي رأى أبو بكر، يا نبي الله، ولكن أرى أن تمكننا منهم، فتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان - نسيب لعمر - فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها."
فهويَ رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قلتُ.
قال عمر: فلما كان من الغد، جئت إلى رسول الله ﷺ، فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان،
فقلت: يا رسول الله، أخبرني من أيّ شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت!
فقال رسول الله ﷺ:
"أبكي للذي عرَض لأصحابي من أخذهم الفداء، ولقد عُرِض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة"
وأشار إلى شجرة قريبة منه.
فأنزل الله عز وجل:
﴿مَا كَانَ لِنَبِىٍّ أَن يَكُونَ لَهُۥٓ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِى ٱلْأَرْضِ﴾
وأحلّ الله الغنيمة لهم.

-