إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

التشريع الإسلامي بين أصول القرآن وفروعه
الحلقة الرابعة

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


١٠ مايو ٢٠٢٥

ما هي الأصول؟!!


أصول الإسلام هي الدعوة الأساسية التي عاشها النبي ﷺ في خاصّة نفسه. فهي سنّته، وهي موجّهة لكل الناس، وليست خاصة بأمة المؤمنين.
وعمدة هذه الدعوة: الآيات التي نزلت في مكة، تؤسس للتربية الفردية ولإحسان المعاملة بين الناس على اختلاف معتقداتهم، ليرتفعوا في أخلاقهم نحو الإنسانية، بالتخلص من صفات الحيوان الرابض بداخلنا.
وقد أرست تلك الآيات المكية دعائم الحرية في الفكر والرأي، وحقوق المواطنة المتساوية، فلا وصاية لمواطن على آخر بسبب العقيدة أو النوع أو اللون.
وكمثال:
﴿وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 29)
﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية: 21–22)
﴿لَآ إِكْرَاهَ فِى ٱلدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَىِّ﴾ (البقرة: 256)
وقد بلغت السور المكية ٨٦ سورة، أما السور المدنية التي نزلت في المدينة فعددها ٢٨ سورة فقط، من جملة سور القرآن البالغة ١١٤ سورة.
والتمييز بين المكي والمدني عند بعض الناس، يُعتبر من جهة الشكل، أي مكان النزول أو زمانه. فهم يرون أن ما نزل في مكة قبل الهجرة فهو مكي، وما نزل في المدينة بعد الهجرة فهو مدني.
لكن الأستاذ محمود عمّق الأمر وأضاف البعد المضموني، بوحيٍ من معاني مفهوم *أصول القرآن*، الذي تقوم عليه فكرة الرسالة الثانية من الإسلام.
والأساس في المحتوى هو: أن كل آية تدعو إلى الحقوق الأساسية وكرامة الفرد وتخاطب الناس على أنهم مسؤولون، فهي مكية، وإن نزلت في المدينة.
وأي آية تفرض الوصاية على الناس فهي مدنية.
لقد رأينا في النماذج الثلاثة السابقة كيف كان تصرّف النبي ﷺ إنسانيًا في القمّة، ومنطلقه من الأصول، لكن القرآن كان ينزل على رأي عمر في الفروع، بمقتضى حكم الوقت، لأنه وقت المستوى العقائدي.
وهكذا نُسخ المستوى العلمي في الأصول، وأُرجئ إلى أن يحين وقته في المستقبل بتطور المجتمع عبر الزمن.
وبذلك، كوَّن الإسلام "حوشًا" واسعًا، هو عقيدة المسلمين، وحَصر كل الناس داخله، طوعًا أو كرهًا: فمن استجاب، فبها، ومن نافق، أُبقي عليه، ومن لم يستجب، قُتل.
قال تعالى:
﴿فَإِذَا انسَلَخَ ٱلْأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ (التوبة: 5)
وبهذه الآية، نُسخت جميع آيات الحرية والإسماح المكية.

من آثار الفروع:


بمقتضى الفروع، وبعد حادثة محاولة اغتيال النبي ﷺ يوم الهجرة، صارت العزّة لله ولرسوله وللمؤمنين كما ورد في آيات الفروع، وفقد غير المسلمين سائر الحقوق الأساسية، حتى حق الحياة.
أما أهل الكتاب، فقد فُرضت عليهم الجزية، يدفعونها عن صغار وهوان:
﴿حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍۢ وَهُمْ صَٰغِرُونَ﴾ (التوبة: 29)
وجاء الحديث:
"إذا لقيتم اليهود والنصارى في الطريق فلا تبدأوهم بالسلام، واضطروهم إلى أضيقه."
وقد وجد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب نصرانيًّا يعمل كاتبًا عند أبي موسى الأشعري، فغضب عمر وفصله من العمل وعاتب أبا موسى.
فردّ أبو موسى: إنما لي كتابته وله أجره!
فقال عمر:
"والله لا أعزهم إذ أذلّهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله!"
وهكذا تأسّس المستوى العقائدي، وقامت الشريعة الإسلامية المعروفة اليوم على الوصاية، وهي الشريعة التي لا يعرف المسلمون غيرها.
ويحاولون باستمرار الزج بها في مشاكل العصر، فيشوهونها أيّما تشويه، وتبرز فتن لا حصر لها داخل النفوس وفي المجتمع.
فالعيب، إذن، ليس فيها هي، فقد كانت حكيمة كل الحكمة في وقتها، وإنما العيب في العقول التي تعجز عن فهم أنها شريعة مرحلية، خدمت غرضها حتى استُنفد.
كذلك تعجز هذه العقول أن تفهم أن حكم الوقت يقتضي بعث أصول القرآن (السنة) كما بيّنا في هذا البحث.