إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

التشريع الإسلامي بين أصول القرآن وفروعه
الحلقة الخامسة

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


١١ مايو ٢٠٢٥

إن القاعدة الأساسية في هذا البحث، التي انطلقنا منها لإحياء أصول الإسلام، إنما ترتكز على الانتقال من الشريعة التي طُبقت في المدينة (الرسالة الأولى)، والتي خدمت غرضها حتى استُنفد، إلى شريعة جديدة تقوم على السنة النبوية (الرسالة الثانية).
وخُطتها: بعث آيات الأصول المكية التي نُسخت في ذلك الوقت، ومن ثم نسخ الآيات المدنية المحكمة في تلك الشريعة السلفية. أي: هجرة عكسية من المدينة إلى مكة من جديد!
السؤال:
إن نسخ الآيات المكية في القرن السابع الميلادي قام به النبي الكريم المرسل من الله، فكيف يتسنى لإنسان أن يدعو لمثل هذا التحول الأساسي الجوهري في القرآن وهو ليس نبيًّا؟
الجواب هو:
إن الله فتح طريق المعرفة أمام الناس، ودعاهم لتطبيق المنهاج النبوي بتجويد وإتقان، ليعلّمهم أسرار دينه.
وليس لهذا التعليم حدود، فكلما زاد الإنسان في التقوى، زاده الله في العلم.
قال النبي ﷺ:
"إن من أمتي عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء لمكانتهم من الله."
وقال أيضًا:
"علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل."

ما هي وسيلة الدعوة الإسلامية الجديدة؟


الجواب: الحجة والمنطق، والإقناع بحسن السيرة والاستقامة، وبالحوار.
إن الرسالات السماوية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحركة تطور المجتمع، وبالأعراف التي يتواضع عليها الناس.
ويمكن أن نلخص مسيرة البشرية من خلال دورتين:
1. دورة الحقيقة
2. دورة الشريعة
وهما محكومتان بالآية:
﴿وَهُوَ ٱلَّذِى فِى ٱلسَّمَآءِ إِلَـٰهٌۭ وَفِى ٱلْأَرْضِ إِلَـٰهٌۭ ۚ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْعَلِيمُ﴾ (الزخرف: 84)

أولًا: دورة الحقيقة (الفترة)


الحقيقة، في معناها العام، هي ما عليه الخلق من خير وشر.
وهي الفترة التي ليس فيها رسالة نبوة، وإنما تتحرك البشرية من خلال الصراع في الحياة بوسيلة العقل، بالحلال وبالحرام، حسب ما تعطيه التجربة المادية.
فتنبت أعراف من هذا الواقع، فيها الصالح وغير الصالح، وتصبح قواعد ثابتة يُنبنى عليها تنظيم المجتمع. وتستمر هذه المرحلة حتى تظهر بعثة.

ثانيًا: دورة الشريعة (البعثة)


تبدأ بظهور نبي مكلّف برسالة، فيقوم هذا النبي المرسل الممدود بالوحي بتنقية تلك الأعراف، فيُبقي على الصالح منها، ويزيل غير الصالح.
وبهذا تكون شمس الشريعة قد سطعت، ونظمت حياة الناس.
ثم يمضي الزمن، وتتغير أحوال الناس، فتضيق تلك الشريعة، فيخرج المجتمع عنها تدريجيًّا، حتى يدخل الناس في دورة الحقيقة من جديد.
قد تبقى من الشريعة السابقة صور شكلية لا وزن لها في ميزان القيمة، وتنبت أعراف جديدة لا تنضبط إلا بمجيء نبي جديد بشريعة جديدة.

تشبيه الأنبياء بالمزارعين


مثل الأنبياء في التعامل مع الأعراف، كمثل المزارع الذي يزرع القمح، فتنبت الحشائش، فيزيلها ليبقى القمح ينمو.
وقد وردت كلمات العرف والمعروف في القرآن في نحو تسعة وثلاثين موضعًا، منها:
﴿خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ ٱلْجَـٰهِلِينَ﴾ (الأعراف: 199)

استمرار المسيرة


هذه المسيرة لم تتوقف، وإنما هي مستمرة.
فعندما جاء الإسلام في مكة، نظر في الأعراف، فأقرّ إكرام الضيف، وإغاثة الملهوف، وأزال وأد البنات وعبادة الأصنام.
ثم أقام شريعته في المدينة من وحي ذلك الواقع، فنسخ القيم الرفيعة التي ثبت بالتجربة أنها فوق طاقة المجتمع في ذلك الوقت، ولكنه ترك الآيات الداعية إليها في المصحف، معطّلة في الحكم، لإتاحة الفرصة للعودة إليها.
ومع مرور الزمن، ضاقت الشريعة عن مواكبة التطور السريع، فاستجدّت مفاهيم وأفكار جديدة انطلقت من تطور العلم المادي.

نحن اليوم في فترة "حقيقة"


نحن إذن في "فترة" من دورات الحقيقة.
ولا يُبطل ذلك دعاوى الحركات الدينية بأنها متمسكة بالشريعة، لأن الشريعة لم تُفصّل لهذا العصر أصلاً.
إذن، نحن نحتاج إلى بعثة جديدة، تعيد شمس الشريعة إلى كبد السماء، توجه البشرية توجيهًا روحيًا، مثل ما كان يفعل الأنبياء.
فإذا نهض عارف بالله، قوي الحجة، مستقيم السيرة، واستخرج من القرآن معالم الشريعة الجديدة، فلا حجة لرد دعوته فقط لأنه ليس نبيًّا.
وإنما يجب النظر في الاستقامة والخلق وقوة الاستدلال، فقد ورد في الحديث:
"إن العلماء ورثة الأنبياء."

دور النبي لم يتوقف


إن الدور الذي كان يقوم به النبي المرسل لم يتوقف، وإنما الذي توقف هو النبوة الممدودة بالوحي الملائكي، لحكمة، هي أن الناس يمكنهم أخذ المعرفة من القرآن.