إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

التشريع الإسلامي بين أصول القرآن وفروعه
الحلقة السادسة

د. محمد محمد الأمين عبد الرازق


١٢ مايو ٢٠٢٥

قلنا في الحلقة السابقة إن البشرية اليوم في مرحلة "فترة"، وتتهيأ لظهور "بعثة" روحية تلقّح الحضارة المادية.
وفي هذا المعنى يقول الأستاذ محمود محمد طه في ديباجة الدستور، وهي آخر كتاباته:
"ولقد ظلت البشرية، في طول عمرها، تسير على رجلين: من روح، ومن مادة... وهي لم تستغن، في أي وقت من أوقاتها، عن أي رجل من هذين الرجلين... وكل ما هناك أنها كانت، في سيرها، تقدّم رجل الروح تارة، ورجل المادة تارة أخرى...
والآن فإن البشرية قد قدمت رجل الروح في القرن السابع... ثم أخذت تتهيأ لتقديم رجل المادة، من ذلك الوقت البعيد...
اليوم العالم مادي... وحتى المتدينون من يهود، ونصارى، ومسلمين، وغيرهم من الملل والنحل، إنما يُظهرون التدين ويُبطنون المادية...
أسوأ من ذلك، فإن أغلبية المتدينين يتوسلون بالدين، ويستغلونه، للمادة!!"

ما هو "الدستور الإنساني"؟


كلمة دستور فارسية الأصل، وتعني: القاعدة التي يجب أن يسير عليها الناس.
وفي الإسلام، هو: المثل الأعلى للأمة، موضوع في صياغة قانونية.
أساس الدستور هو: كفالة الحقوق الأساسية لجميع المواطنين، دون تفريق بسبب العقيدة، أو اللون، أو الجنس.
لذا، يُعرّف بأنه "القانون الأساسي"، لأنه ينصّ على:
- حق الحياة
- حق الحرية
- وسائر الحقوق المكملة
وسُمّيت "حقوقًا أساسية" لأنها ليست معطاة من أحد، بل هي هبة من الله للإنسان، منذ ولادته، وهي مؤسسة بالإرادة، أو بالقانون الطبيعي الذي سيّر الله به الحياة، من البداية إلى النهاية.

الحقوق ليست قابلة للسلب


لا يحق لأحد أن يسلب هذه الحقوق من غيره، فهي منحة ربانية مقدّسة، وهي روح الدستور.
وأي دستور لا ينص على هذه الحقوق بوضوح، ليس بدستور، بل هو تزييف وخداع وتسويغ لاستبداد الحكم المطلق.
وقد وقع بعض أساتذة الفقه الدستوري في هذا الخطأ، فصاروا يعدّون حتى "وثائق الحكم الوراثي المطلق" دساتير!

من كتاب الجمهوريين: مقترحات الأزهر للدستور الإسلامي جهالة لا تمثل الإسلام:
"الدستور ليس أي وثيقة تنظم أجهزة الدولة، بل هو القانون الذي يضمن ويحمي الحقوق الأساسية:
حق الحياة وحق الحرية.
فإذا أهدرت الوثيقة أي صورة من صور هذين الحقين لجميع المواطنين، دون تمييز، فهي ليست دستورًا...
دستورية القوانين لا تعني فقط عدم مخالفة نصوص الدستور المكتوب، بل تعني أيضًا الوفاء بجوهر الدستور، وهو حماية هذه الحقوق.
وهذه النقطة نحب أن تكون مركّزة في الأذهان، لأنها تضيف البعد الروحي الذي سيظل دائمًا مصحّحًا للتجربة، ولا يتجاوزها."


الفرق بين الدستور والقانون


الدستور أصل، والقانون فرع.
ولا بد للقانون أن يعمل لتحقيق أهداف الدستور، وإلا أصبح باطلًا.
فالقانون الدستوري هو الذي:
- يحمي الحقوق الأساسية
- يحقق العدالة
- يضمن الحرية الفردية
- ويصون الأمن الجماعي
وأدق القوانين هي: قوانين الحدود والقصاص الإسلامية، وقد جعلها الإسلام مقياسًا لبقية القوانين.

الدستور الإلهي


الدستور الإنساني هو صورة تحاول الاقتراب من الدستور الإلهي (القانون الطبيعي)، الذي قامت عليه قصة الخلق.
قال تعالى:
﴿قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَـٰمُوسَىٰ قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِىٓ أَعْطَىٰ كُلَّ شَىْءٍ خَلْقَهُۥ ثُمَّ هَدَىٰ﴾ (طه: 49–50)
وهو الذي خلق الحياة والحرية، وجعل لهما مقصدًا:
﴿تَبَارَكَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌ ٱلَّذِى خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَوٰةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (الملك: 1–2)
الحياة من الله، والحرية من الله، ولا يحق لنا أن نُقيّدها إلا بما يحقق مقاصدها، لا بإلغائها.

كيف نكتب الدستور؟


- الدستور يُكتب مرة واحدة، وتُقره الجمعية التأسيسية المنتخبة.
- المحامون لا يضعون الدستور، بل يساعدون في الصياغة الفنية.
- مواد الحقوق الأساسية محصّنة، لا يجوز للأغلبية تعديلها.
- الأقلية محمية بالدستور، فلا يجوز أن تنتقص الأغلبية من حقوقها.

الحرية في أصول القرآن


القرآن قرّر المسؤولية الفردية أمام الله، وقال:
﴿إِن كُلُّ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ إِلَّآ ءَاتِى ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْدًۭا لَّقَدْ أَحْصَىٰهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّۭا وَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ فَرْدًۭا﴾ (مريم: 93–95)
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ﴾ (فاطر: 18)
﴿كُلُّ نَفْسٍۢ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ (المدثر: 38)
إذا كان الإنسان مسؤولًا فردًا، فلا معنى للمسؤولية من دون حرية.
لذلك، أعطى القرآن الحرية كاملة بشرط ألا يعتدي بها على غيره:
﴿وَقُلِ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 29)
﴿ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ﴾ (النحل: 125)
﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية: 21–22)

الشريعة التقليدية تتعارض مع هذه الأصول


لقد أشرنا في الحلقات الماضية إلى أن هذه الأصول نُسخت بالفروع في القرن السابع الميلادي، لإعطاء الشريعة آنذاك صبغة الوصاية.
لكن اليوم، بعد 1400 عام، صارت الحقوق الأساسية ثقافة عالمية، وأصبح الجميع يدّعيها!
لذلك، نقول بصراحة:
الشريعة الإسلامية التقليدية تتعارض مع دستور أصول القرآن المرتكز على السنة النبوية.

من أقوال الأستاذ محمود


ولكي نكون واضحين فإن الشريعة الإسلامية تتعارض مع دستور أصول القرآن. المرتكر على السنة النبوية..
ولذلك عندما سأل المتحري الأستاذ محمودحول منشور (هذا.. أو الطوفان):
لماذا تعارض الشريعة الإسلامية!!؟؟
رد عليه: (إذا في إنسان قال قوانين سبتمبر مخالفة للشريعة، لا يتهم بأنه ضد الشريعة وإنما يفهم أنه ضد قوانين معينة!!
بل هو يدافع عن الشريعة..
ويمكن أن يسأل عن برهانه على مخالفات القوانين..
ولكننا نقول إن الشريعة الإسلامية على تمامها وكمالها حين طبقها المعصوم في القرن السابع الميلادي لا تملك حلا لمشاكل المجتمع المعاصر، فالحل في السنة وليس الشريعة)

خاتمة


حين رفع الإسلام في أصوله رايات الحقوق الأساسية لم تكن في الأرض دعوة لها ولا للدستور، واليوم كل الشعوب تبحث عن حقوق الإنسان ونحن المسلمين نقف عاجزين عن إبراز فكرة تطوير الشريعة المؤسسة على أصول القرآن كما قدمتها الرسالة الثانية من الإسلام..