إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

التاريخ والسرد والوعي السياسي.. أو ماذا فعل الطيب صالح بالمحمودين؟

د. أحمد حسب الله الحاج


١٧ فبراير ٢٠١٨

ولكن المهم عندي في هذا السياق أن الطيب صالح قد فرض الصمت على محمود ود أحمد عند اللحظة الفارقة في حياته، تلك التي تحول فيها من أمير إلى أسير، كما صمت عن محمود آخر عند اللحظة الفارقة في حياته. والآخر هو المفكر “الأستاذ” محمود محمد طه الذي أصدر عليه الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري حكما بالإعدام بعد اتهامه وإدانته بالردة. وكما فعل محمود الأول فعل محمود الثاني ومشى إلى المشنقة في ثبات في 18 يناير 1985. والمحمودان شخصيتان يحتدم حولهما الجدل، ولكن السودانيين الذين قد يختلفون مع الرجل حول كيف يعيش يضربون عن ذلك صفحا عندما يعرف كيف يموت. لقد عرف محمود الأول كيف يقاتل وينازل ويواجه مصيره غير هياب، كما عرف محمود الثاني كيف يحيا، وكيف يناضل، وكيف يموت.

صدر حكم الإعدام على محمود محمد طه وتبعه التنفيذ والطيب صالح يكتب وينشر ويتحدث ويشارك في المنتديات الفكرية والمحافل الأدبية، ولكنه صمت تماما عن محمود ولم يكتب عنه إلا بعد ما يزيد على أربع سنوات من “اغتياله”. فبعد سقوط نميري كتب الطيب صالح على صفحات “المجلة” في 5 يوليو 1989 حاكيا كيف أن باربرا براي اتصلت به هاتفيا محاولة دفعه بأن يفعل شيئا حيال حكم نميري على محمود بالإعدام، ولكنه لم يفعل أكثر من أن “يتضاحك.” وانتهى بأن يقول “في تلك الليلة شعرت بخجل عميق. قلت لها وأنا أعلم أن منطقي أعرج وحجتي جوفاء، أنت تعلمين أننا حين ندخل اليونسكو، كما في المنظمات الدولية، نقسم أن نكون محايدين ولا نتدخل في شؤون الدول الأعضاء في المنظمة.” ولكنه كان يعلم، كما يقول، بأن ذلك ليس صحيحا، وأن السبب الحقيقي هو “من يطعم الزوجة والعيال، ويدفع أقساط المدارس والجامعات؟ كل هذه الأشياء الصغيرة أم الكبيرة التي تكبل الإنسان بقيود يشتد وثاقها يوما بعد يوم، وتجعله يصمت حين يجب عليه أن يصرخ، ويذعن حين يتحتم عليه أن يرفض.”

قد يكون قدر الإنسان العادي الانشغال بإطعام الزوجة والعيال ودفع أقساط المدارس والجامعات، ولكن هذا لا ينبغي أن يكون قدر الكاتب والفنان. وهذا هو الفارق بين الطيب صالح وكاتب مثل ولي سوينكا نهض في مواجهة الطغمة العسكرية في نيجيريا لأنها تمارس السلب والنهب وتصدر أحكام الإعدام على صغار اللصوص وتغض الطرف عن كبارهم. ولذلك دفع الثمن كاملا، كما ظل يفعل دوما، دفاعا عن مواقفه ومبادئه. ورمت السلطات النيجيرية بسوينكا في غياهب السجن الانفرادي حيث ظل لمدة خمسة وعشرين شهرا بقصد تحطيمه ليس فقط كفنان، وإنما أيضا كإنسان. ولكي يحتفظ بعقله ويحافظ على إنسانيته كتب في مخيلته وعلى بعض قصاصات الورق “مات الإنسان”. والإنسان الذي مات، كما يقول سوينكا، ليس السجين وإنما الذي يحرم الإنسان من حقه في الفكر والقول والفعل. وعلى نقيض ذلك صمت الطيب صالح عن جريمة اغتيال مفكر. “تضاحك” والحبل يلتف حول عنق شيخ يناهز الثمانين، وعاد إليه بعد بضع سنين ليقدم نموذجا آخر للإخفاق في عملية التعامل الجاد والمنهجي مع جدلية التاريخ والسرد والوعي السياسي. ويزيد من وطأة ذلك الإخفاق أنه تحول إلى مساهمة إضافية في مشروع “إطعام الزوجة والعيال ودفع أقساط المدارس والجامعات.” وأكثر من هذا سخرية ومرارة أنه في الوقت الذي يتأسى فيه الطيب صالح على الأشياء التي “تجعله يصمت حين يجب عليه أن يصرخ، ويذعن حين يتحتم عليه أن يرفض” فإن لجنة تحكيم “جائزة محمد زفزاف للرواية العربية” وجدت لديه ما يكفي للإشادة بدفاعه “الضمني والمباشر عن التعددية وقيم الحرية والعدالة الإنسانية.”

والمقتبس الأخير لا يعدو أن يكون نزرا يسيرا من حيثيات منح “جائزة محمد زفزاف للرواية العربية” للطيب صالح. وتمضي الحيثيات لتؤكد “نجاح الطيب صالح بمعظم رواياته في تكريس الهوية المحلية والحرية المنفتحة على آفاق كونية رحبة. – تمثل الروائي لروح العمل الفني ورسالته واتقانه المتفوق لأدواته وفق المقاييس والامكانيات التي تضعه في مصاف كبار الروائيين العالميين. – تفوق المبدع في التعبير عن ضرورات التسامح، وربط تلك القيمة الأساسية في السياق الحضاري بالكبرياء الإنساني الذي يصبح التسامح دونه مجردا من المعنى. – المساهمة المحمودة في إيجاد مزايا لأسئلة الوجود الكوني تساهم دون أن تقطع باليقينيات في إغناء الفكر والشعور. – الحفاوة الفائقة بالفرح والسلام الداخلي، وكافة أوجه التألق المغتبط الذي يعلي من شأن الكرامة الإنسانية ومنجزات المعرفة.” والطيب صالح يستحق أن يفوز “بجائزة محمد زفزاف للرواية العربية” وغيرها، ولكن ليس استنادا على مثل هذه الحيثيات التي تنطبق على كل كاتب ولا تنطبق على أي كاتب في ذات الوقت. وإذا قارنا هذه الحيثيات، وهي أهمها فقط، كما ورد في صحيفة “الشرق الأوسط” بتاريخ 8/8/2002، بحيثيات منح جائزة نوبل للآداب لبعض مستحقيها للمسنا الفارق بين ما يستطيعون وما لا نستطيع. فالغربيون يستطيعون ليس لأنهم جماعات أكثر خصوصية، ونحن لا نستطيع ليس لأننا جماعات أقل خصوصية، وإنما لاختلاف بيننا في أساليب البحث والرصد والمتابعة. فبينما يؤسس الغربيون معارفهم وأحكامهم على قواعد التراكم والتعددية، نؤسس نحن معارفنا وأحكامنا على قواعد التكرار والتبعية، ونعول كثيرا على العنعنة التي هي عندنا ليست فقط دليل إثبات، وإنما أيضا أسلوب حياة ونهج ومنهجية.

وعودة إلى حيثيات نوبل للآداب نجد أنها تقول في حال غابرييل غارسيا ماركيز “لرواياته وقصصه القصيرة التي يجتمع فيها الخيالي والواقعي في عالم ثري من مكونات الخيال لينعكس في حياة قارة بأكملها.” وفي حال ديريك والكوت “لإنتاج شعري عظيم الجلاء نجح في تكريس رؤية تاريخية ناتجة عن الإلتزام بالتعدد الثقافي.” وفي حال نجيب محفوظ “لأنه استطاع من خلال أعمال عامرة بالتميز، تبدو واضحة في واقعيتها حينا ومستثيرة في غموضها حينا آخر، صياغة سرد عربي في متناول جميع البشر.” ثم أنه لو أعدنا قراءة حيثيات جائزة محمد زفزاف مقارنة بحيثيات جائزة نوبل للآداب لأدركنا مدى هلامية وترهل وتهاون النقد العربي الأدبي وتجاوزاته المسؤولة عن توليد ورعاية أجواء الوثنية الثقافية التي تصنع أصناما يسجد لها ويسبح بحمدها الخاصة قبل العامة.

إن الذي تتضمنه الحيثيات المشار إليها من عبارات عبثية مثل “ربط تلك القيمة الأساسية في السياق الحضاري بالكبرياء الإنساني الذي يصبح التسامح دونه مجردا من المعنى”، وبهلوانيات لفظية على غرار “لقد كان شرق الطيب صالح وغربه وشماله وجنوبه هو الإنسان”، وأوهام رغبوية مثل “وهذا يعطي لأعماله الروائية كعرس الزين، وموسم الهجرة إلى الشمال، وبندر شاه نكهة عالمية ساعدت على ترجمتها -الروايات- لكل اللغات”، قد يوفر مادة طيبة للحديث بين الأصدقاء في المقاهي والصالونات الأدبية، ولكن لا يصمد أمام الفحص النقدي الصارم. إن “عرس الزين” ليست رواية. بل أن “موسم الهجرة إلى الشمال”، وفقا للقياسات السردية، ليست رواية novel وإنما هي novella. و”النوفيلا” شكل سردي له وجود في الأدب العربي ولكن ليس له مسمى. ومن نماذج هذا الجنس الأدبي “قلب الظلام” لجوزيف كونراد، “العجوز والبحر” لإرنست هيمنغوي، و”المسخ” لفرانز كافكا، و”موت في البندقية” لتوماس مان، و”رجال وفئران” لجون شتاينبيك، و”الغريب” لالبير كامو ، وجميعها أعمال أدبية متميزة ولكنها ليست روايات وفقا للتصنيف الأدبي الذي يؤسس وصفيا، وليس معياريا، مستندا على الطول الذي يتراوح عادة بين 30 و50 ألف كلمة. وتتبع “موسم الهجرة إلى الشمال” في هذا التصنيف “ضو البيت” و”مريود”. ولهذا إذا أراد المرء أن يعلق على “عبقرية” النقد الأدبي العربي، فيمكنه أن يقول مازحا وساخرا في ذات الوقت إن “عبقري الرواية العربية” لم يكتب رواية واحدة.

وإذا كان غياب المصطلح العربي novella يفسر الخلط غير الدقيق بين الأجناس الأدبية، فإنه ليس هناك ما يبرر الادعاءات المضللة مثل “ساعدت على ترجمتها – الروايات – لكل اللغات.” وقد يكون من المفيد هنا الإشارة إلى أن رواية باولو كويلو “الخيميائي” تعدّ أكثر الروايات المعاصرة ترجمة حيث أنها ترجمت إلى بضع وسبعين لغة حتى الآن. ولكن إذا وضعنا في الاعتبار أن لغات العالم المكتوبة تقارب 4000 لغة، فإن أكثر المتحمسين لباولو كويلو لن يحلم بأن رواياته ستترجم لكل اللغات.

وبعيدا عن فلتات وانفلاتات النقد العربي نجد أن دروب الطيب صالح وسوينكا ظلت تتقاطع لتظهر تباينا بينا بين تجليات التفاعل واختلافات المواقف عندهما، وفي الحالين يحدث ذلك وفقا لجدلية التاريخ وتنويعات السرد واختيارات الوعي السياسي. وموقف الطيب صالح من سوينكا يقدم نموذجا آخر على عدم قدرته استيعاب الدلالات التاريخية للأحداث حتى عندما تدور في فلك اهتماماته. فعندما منحت الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم ولي سوينكا جائزة نوبل للآداب في 1986 لم يستطع الطيب صالح أن يحتفي بفوز أول إفريقي بالجائزة، بل أنه لم يستطع أن يخفي امتعاضه لذلك، وراح يحط من قدر سوينكا من خلال مقارنته بمن يرى أنهم أفضل منه على الساحة الإفريقية. وبعد إشارات مبهمة إلى أشيبي ونقوقي مضى ليؤكد في عنصرية لا تكاد تستر سوأتها أن “ذلك النيجيري” لا يستحق الفوز بالجائزة. ومن المدهش حقا أن الطيب صالح رأى أن غراهام غرين، رجل المخابرات البريطانية، أجدر من سوينكا بذلك التكريم. وفي سرد لاحق له عن جائزة نوبل يقول: “الأستاذ نجيب محفوظ كان يستحق الجائزة، وأعماله الروائية خير دليل على ذلك، أما الجائزة نفسها فقد نشأت في الغرب، وموجهة في الأساس إلى الإبداعات الغربية، وعندما توجه إلى الإبداعات العربية أو الإفريقية فهذا يكون شيئا عارضا.. وهي تخفي دائما وراءها أبعادا سياسية.”

ومع يقين الطيب صالح بوجود أبعاد سياسية متخفية للجائزة فإنه لم يتفضل بتوضيح “الأبعاد السياسية التي تختبئ” وراء فوز محفوظ وقورديمار وكوتزيه ووالكوت وماركيز بالجائزة. ومع ذلك فإن ما قاله أعطى ببغاوات النقد العربي الجرأة على أن يخوضوا فيما لا يعرفون. ومن أولئك جاسم المطيري الذي سارع بعد تقديم تهنئته للطيب صالح بجائزة “ملتقى القاهرة للإبداع الروائي” في 2005 إلى أن يلفت الانتباه إلى “دور بعض المؤسسات الصهيونية في بعض قرارات المحكمين، وحرمان الكاتب العبقري العالمي ليو تولستوي من جائزة نوبل هو خير مثال بسبب أفكاره الروائية والسياسية المناوئة للعنصرية الصهيونية.” يقول المطيري هذا غافلا عن أن أفكار تولستوي السياسية تعد من روافد الفكر الصهيوني. ويمكن للباحث الجاد أن ينظر إلى ذلك في كتاب عموس أوز “قصة الحب والظلام” الذي يزاوج فيه بين أفكار تولستوي والصهيونية، أو إلى كتاب ولتر لاكوير عن تاريخ الصهيونية والذي تكفي قراءة عنوانه للتدليل على وجود تلك العلاقة: “تطور العمل الصهيوني: من تأثير تولستوي إلى الكيبوتز الإسرائيلي.”

ويمكن القول إن الفرق بين روايات الإمبراطورية التي ترُد على المركز، وتلك التي يستنطقها المركز، هو الفارق بين نهجين، أولهما يتعامل مع السرد كوسيط للوعي يضرب بجذوره عميقا داخل معطيات التاريخ والأيدلوجيا، ويحاول جاهدا أن يمضي إلى ما هو أبعد من مجرد رصد الحقائق التاريخية المتناثرة والمواقف الأيدلوجية المبتسرة. وهذا لن يتأتى إلا من خلال توفير مرجعية تحتوي على رؤية فنية تنجح في تطوير التداخل والانسجام والتنافر بين التاريخ والسرد والوعي السياسي، وتحتويهم في الوقت نفسه. أما النهج الثاني فيراود فيه السرد بلا انقطاع هواجس التأويل وتهويمات التخمين، وتراوده هي الأخرى حتى تقنعه بأن يضع مسئولية التفسير على ناصية الحدس. والآن مع بلوغ هذا السرد نهاياته لا بد لي من التنويه إلى أن التصدير الذي وضعته على رأس المقال مأخوذ من كتاب فردريك جيمسون “اللاوعي السياسي: السرد كفعل اجتماعي رمزي” The Political Unconscious: Narrative as a Socially Symbolic Act وقد فضلت اللاوعي على اللاواعي كترجمة لكلمة Unconscious لأنها تحمل الدلالات التي تنسجم مع ما تنشده حججي ونواياي.

وعلى الرغم مما حققته “موسم الهجرة إلى الشمال” وما ستحققه، فإنها تظل في تقديري نسيجا بديعا يمتلئ بالثقوب. فبالنسبة لرواية يحمل اسمها دلالات جغرافية، تترك الأخطاء المكانية شعورا أقل ما يوصف به هو عدم الارتياح. فعندما يقول الراوي “كان المأمور يغط في نوم مريح حين مر القطار على خزان سنار الذي بناه الإنجليز عام 1925 متجها غربا إلى الأبيض.” لا تدري أي خيار تختار: اتهام الراوي بالكذب أم رمي الروائي بالإهمال؟ ذلك أن القطار في رحلته من الخرطوم إلى الأبيض لا يمر على خزان سنار، ولا يعبر النيل الأزرق.

أخيرا، قد يكون مناسبا ومن قبيل الاعتذار لجوزيف كونراد – الكاتب البريطاني الجنسية والبولندي الأصل كما يحلو للنقاد العرب أن يستهلوا حديثهم عنه – والذي تعود المهتمون بالخطاب ما بعد الكولونيالي أن يغلظوا عليه، أن أسوق بعض ما قاله مع اختلافي معه: “على الذي يريد أن يقنع الآخرين أن يضع ثقته ليس في الحجج الصحيحة، وإنما في الكلمات المناسبة، إذ إن شدة الأصوات تظل دائما أعظم تأثيرا من قوة الحجج”.

لقد حاولت خلال هذا المقال أن أضع ثقتي في الحجج، وأن أكبح جماح الأصوات، أو هكذا أظن. ثم إن لهذا المقال غايات أخرى أهمها التدليل على أن هنالك ضرورة لمحاولة تقديم قراءات سودانية فاحصة لرواية “موسم ألهجرة إلى الشمال” تتجاوز قراءات النقاد العرب الذين يعرفون قليلا عن الأدب، ولا يعرفون شيئا عن تاريخ السودان أو جغرافيته أو إنسانه. فالراوي في “موسم الهجرة إلى الشمال”، من دون قصد من المؤلف، غير موثوق به، والبطل لا يُعتد بمزاعمه التحريرية، والوعي السياسي عند المؤلف يتأرجح بين غواية السرد وصرامة التاريخ.

أحمد حسب الله الحاج، أستاذ سابق للأدب الإفريقي بجامعة نوتينغهام ترنت بالمملكة المتحدة.

صحيفة التحرير "هنا السودان"