لقد أثبتت هذه الأحداث أن الشعب السوداني شعب أصيل، شجاع، كريم .. يجود بالنفس في سبيل العزة، والشرف ولا ينقصه غير القائد الذي يفجر كوامن أصالته، ويحرك حسه الوطني .. فاذا وجد قائدا، في مستواه، فان المعجزات تجري على يديه، والبطولات تسعى اليه خاطبة وده.. حقا كما قال الأستاذ محمود في تحقيق معه في جريدة الأخبار، فيما بعد، ((الشعب السوداني شعب عملاق يتصدره أقزام))

معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية - الكتاب الاول

menu search

الكلام عن الأستاذ محمود سير فى الوادى المقدس

علاء الدين بشير


الشارقة - ١٦ سبتمبر ٢٠٢٥

شكرا يا دكتور على مشاركة المقال والشكر عبرك لكاتبه الأستاذ بدر الدين العتاق ..

بدءا لابد من الاشارة الى انني اجد لغة الكاتب فى هذا المقال تحديدا بها التباسات وليست مُبينة وتركيبه للجمل فيه تعقيد الامر الذى جعله عصيا على الفهم فى بعض جوانبه، على الأقل هذا ما بدا لي حتى لا أقع فى فخ التعميم وربما كان ذلك ناتجا عن قصور عقلى ذاتي عندى أنا..

على اية حال ما فهمته انا باختصار هو انه يستغرب او ينتقد الأستاذ محمود فى عدم تأديته الصلاة ذات الحركات رغم إقرار الكاتب بأنه - الأستاذ محمود - أكبر مُجسِد للسنة النبوية فى الدم واللحم وهو إقرار مهم جدا عندى ويشير الى سعة فى الفهم وينم عن حسن نية كبير عند الكاتب لا يتوفر دائما عند اغلب الذين يتناولون الأستاذ محمود وأفكاره وتلاميذه ولكني مع ذلك وقبل مناقشة بعض نقاط الكاتب أتساءل : هل يستقيم بداهة لمن كرّمه الله والنبي صلى الله عليه وسلم بتجسيد كمالاته كل هذا التجسيد الكبير وشرفه بأن يكون اكبر من دعا الناس فى العصر الحديث إلى العودة الواعية إلى تقليد محمد وتقديسه ،ان يخالفه فى مسألة شرعية وسلوكية ظاهرة مثل أداء الصلاة ذات الحركات إن لم يكن وراء ذلك فهم وأمر؟!..

اول ما تجب الإشارة له هو أن الأستاذ محمود ليس فيلسوفا وإنما هو عارف بالله .. الفلسفة هى نتاج التفكير العقلى فى الظواهر المادية للوجود الحادث وفقا لمعطيات الحواس . بينما المعرفة بالله هى علم وهبي مُفاض من الله نتيجة منهج التقوى (واتقوا الله ويعلمكم الله) القائم على التاسى والتقليد المُجوّد للنبي محمد عليه الصلاة والسلام والالتصاق الشديد بالقرآن الكريم يتمكن العارف بالله من خلال ذلك إلى النفاذ إلى ما وراء الظواهر المادية للوجود والى معرفة أسرار الألوهية وحكمتها الباطنة فى أفعالها الظاهرة فى الوجود المحسوس لنا . وفى شرعة العارفين بالله المزج بين المعرفة بالله والفلسفة أمر منكر .قال شاعرهم العارف بالله عبد الغني النابلسي:

أدر صرفاً خمور الأندرينا
على شعث الرجال الاندرينا

وروّق أيها الساقي شراباً
طهوراً لذة للشاربينا

ولا تمزج فإن المزج شرك
حرام في طريق العارفينا

فإنك أنت نور النور باد
وإن سموك لي طه الأمينا

ألا يا ابن المدامة كن رفيقي
على صرف زكت شرعاً ودينا

وتوكؤا على ذلك اقول لك ان السنة النبوية ليست فلسفة كما قلت انت .. السنة كما جاء تعريفها عند الأستاذ محمود هى النبوة والنبوة هى مقام النبي عليه الصلاة والسلام الذى تنزلت منه الرسالة كوظيفة للتبليغ والتشريع فى القرن السابع .. النبوة هى معرفة وعلم بالله .. هى تلقى عن الله بواسطة الملك جبريل وإبلاغ عنه تعالى .

الأمر الثاني هو أن الصلاة لا تسقط عن اى انسان لأنها وسيلة الصلة بالله لكن ما يسقط عن البعض من العُبّاد المجودين للعلاقة بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام وبالقرآن هو التقليد او صلاة الحركات.. فالأستاذ محمود قال في محاضرة (تعلموا كيف تصلون) التي قدمها في نادي الأعمال الحرة بالأبيض في عام 1972:
".. وانت محتاج للصلاة احتياج سرمدي.. بصورة من الصور لأنه انت في الدنيا بتصلي بصورة.. في البرزخ بتصلي.. ناس القبور في القبور بيصلوا.. بصورة.. وناس الجنة في الجنة بيصلوا.. وناس النار في النار بيصلوا.. لأنه الوجود، الجسد والروح الاتنين في.. الروح شريعتها العلم.. الجسد شريعته العمل.. والانسان لا يمكن أن ينفك عن الثنائية.. البيخلص من الثنائية خلاص مطلق دي الذات الالهية وحدها.. لكن الانسان دائما خلط بين طرف غليظ وطرف لطيف.. الطرف الغليظ جسد.. والطرف اللطيف روح.. الروح شريعتها وعملها العلم.. الجسد تطبيق العلم في العمل ليرتقي الجسد نحو الروح.. وده السير السرمدي.. فالصلاة إذن ما بتنتهي.. "

والأستاذ محمود هو أكبر داعية إلى الصلاة والى إتباع النبي عليه الصلاة والسلام وقد كتب فى هذا الخصوص كتب (تعلموا كيف تصلون + رسالة الصلاة + طريق محمد ) وكتب عبر تلاميذه عددا من الكتب والمنشورات فى هذا الإطار ،أذكر منها (أدب السالك فى طريق محمد + الصوم ضياء والصلاة نور .. الخ) . ودعا تلاميذه والناس فى كتاب طريق محمد إلى (إدمان الإطلاع على كتب السيرة والشمائل المحمدية ليحصل التعلق والمحبة بالنبي صلى الله عليه وسلم مشددا على أن محبته ليست بالأمر السهل وانها أمر عزيز يبذل دونه كل غالى ونفيس.

صحيح الأستاذ محمود هو أكبر من قلّد النبي بإتقان وهو داعية للناس إلى إتباع محمد وتقليده وقد أكد ذلك حتى لتلاميذه فى جلسة تسجيلها مبذول انه ليس شيخهم وإنما الشيخ وقدوة التقليد هو النبي محمد عليه الصلاة والسلام وقال عن نفسه لهم انه زميل سبقهم فى الطريق النبوى وجاء ليرشدهم فيه.

ورغم كل ذلك إلا أن الأستاذ محمود قال أيضا أن كمال اى انسان ليس فى أن يكون النبي على كماله الذى يفوق كل كمال دونه ،وإنما كمال كل شخص أن يكون نفسه مع التشديد على أن تحقيق هذه الكمالات لا يمكن أن يتم إلا بإتباع الوسيلة النبوية الشريفة ..

إستنادا إلى ما تقدم فإن الأستاذ محمود اتبع النبي محمد عليه الصلاة والسلام بتجويد وإتقان من خلال أداء الصلوات الخمسة المكتوبة والنوافل إلى جانب صلاة الثلث الأخير من الليل حتى أفضى به ذلك الى اصالته وقال له النبي نفسه : ها انت وربك وقد أخذ صلاته الخاصة من الله كفاحا كما أخذ النبي قبله صلاته عن الله كفاحا . وقد قال الاستاذ محمود لبعض سائليه عن عدم ادائه للصلاة ذات الحركات مثل الناس: انا بصلّى وصلاتى هى نفسى الطالع والنازل ده . او كما قال .

ويقصد بذلك أن كل ذرة من ذرارى جسده فى حالة حضور دائم مع الله وصلة به . (وإن من شئ إلا يُسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم). (قل إن صلاتي ونسكي ومحياى ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك اُمِرت وانا اول المسلمين...)

واستنادا إلى كتابة الكاتب واشاراته لابد انه سمع بعبارة الصوفية التى يصفون فيها النبي عليه الصلاة والسلام بانه (الحجاب الأعظم) والتى يريدون بها إلى الإشارة والتفهيم بأن الانوار النبوية فى النهايات (ولا نهايات) هى حجاب عن الذات الإلهية التى هى مقصود السائرين إلى الله رغم أن النبي محمد عليه الصلاة والسلام هو باب الدخول إلى الحضرة الإلهية ولذلك اقترن اسمه بالله فى الشهادة المثنية (لا إله إلا الله محمد رسول الله) .. وعن ذلك قال شاعرنا الكبير الأستاذ الراحل عوض الكريم موسى :

لقينا الباب وبرضو حجاب
قاصدنو وطنا بقينا أغراب

والوطن المقصود هنا هو ذات الله التى عنها صدرنا وإليها نعود .

هناك خلط وخطأ وقع فيه الكاتب من خلال إعتباره الشريعة الفردية هى الرسالة الثانية من الاسلام والتى بشّر بها الأستاذ محمود . والصحيح أن الشريعة الفردية هى مرحلة متقدمة فى درجات السلوك والقرب من الله فاز بها أهل الاصطفاء والاجتباء من انبيائه واوليائه بعد ان فُتِح لهم وعرفوا أن الشريعة الجماعية ليست هى الكلمة النهائية فى الدين وأن اتباعها بصدق وإخلاص وتجويدها يفضى بالسائر على قدم النبي عليه الصلاة والسلام إلى شريعته الفردية التى ينماز بها عن بقية أفراد القطيع البشرى لانه ارتفع فوق قانون الجماعة و سما عليها إلى آفاق أخلاقية لا يطيقها بقية أفراد المجتمع .

أما الرسالة الثانية التى عاشها النبي عليه الصلاة والسلام فى خاصة نفسه وأجملها إجمالا فى القرن السابع ولم يفصّلها لاعتبارات حكم الوقت ،أُذِن للأستاذ محمود التبشير بها فى القرن العشرين فهى سنة النبي محمد فهى تشريع جماعى أيضا .. هى تطوير للتشريع لكنه جاء ليناسب طاقة وحاجة الإنسانية المعاصرة فى مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع وفى مضمار الاخلاق ايضا وذلك لاعتبارات حكم الوقت كذلك وهى ليست دعوة باطنية وإنما هى دعوة داعيها محمد نفسه الذى عاشها فى خاصة نفسه و اجملها إجمالا بينما فصّل الأولى فى القرن السابع وكلتا الرسالتان مصدرهما القرآن إستندت الاولى على فروع القرآن (القرآن المدني) بينما قامت الثانية على أصول القرآن (القران المكي) . والفرق بينهما هو فى مستوى المخاطبين حيث توجه قرآن الفروع إلى مجتمع المؤمنين المحصور فى القرن السابع والقرون التى اعقبته من حيث تشابه الخصائص . فيما تتجه اصول القرآن التى نزلت بمكة لمخاطبة مجتمع إنساني عريض متجاوزة لحواجز الدين والجنس والعرق بقدر كبير من السعة والاسماح . وقد عرف بعض كبار العارفين بالله من المتصوفة ذلك ولكن لم يفصحوا عنه لانه لم يكن ماذونا لهم بذلك لاعتبارات حكم الوقت ولكن أُذِن للاستاذ محمود التبشير بها فقط وسيتم تطبيقها حينما يأتى رجلها المأذون بإذن التطبيق وتجيئ امتها .

أمر آخر مضى فيه الكاتب بدون تعمّق فكرى فى تقديرى وبخلط حينما ذكر أن الأستاذ محمود نأى بنفسه عن (التلفظ بالصلاة على النبي) واعتبرها جعجعة وربط ذلك بمقولة الأستاذ التى قالها فى سياق آخر ومختلف تماما عن هذا السياق: (ولم تطب لى نفسي أن اجعجع دون طائل ففاقد الشئ لا يعطيه) .
وأود التساؤل مرة أخرى فى هذا الخصوص: هل يستقيم عقلا أن يبخل وينأى ويمتنع من كرس حياته لتجسيد الكمالات النبوية فى الدم واللحم وأكبر من دعا إلى اتباع النبي محمد عليه الصلاة والسلام والى محبته وتقديسه فى العصر الحديث، عن ترديد الصلاة اللفظية عليه؟
لقد سبق وسُئِل الأستاذ محمود عن هذه المسألة من أحد مشائخ الطرق الصوفية فى ستينيات القرن الماضي وقد أجابه الأستاذ فيما معناه بأن كل عمل الجمهوريون وكتابتهم هو صلاة على النبي وان المعرفة الكبيرة بالنبي صلى الله عليه وسلم ومقاماته الثلاثة (الرسالة والنبوة والولاية) هى فى جوهرها صلاة لفظية عليه فى مستوى أكبر . وذلك الرد مبذول ويمكن أن تجده وفيه تفاصيل اكثر واوضح منشورا فى كتاب (أسئلة وأجوبة - الجزء الثاني) على موقع الفكرة الجمهورية فى الإنترنت www.alfikra.org.

اما حديث الاستاذ محمود عن عدم الجعجعة فقد جاء فى سياق رده على كلمة نشرها الاستاذ سعيد الطيب شايب (تلميذه الأكبر (لاحقا) بجريدة الشعب عام 1951 يتساءل فيها عن أسباب إعتكاف الأستاذ لثلاثة سنوات إضافية بعد اكماله عقوبة السجن التى قضى بها عليه المستعمر الانجليزى لمدة عامين بسبب قضية فتاة رفاعة الشهيرة فى التاريخ المعاصر وكان سؤال الاستاذ سعيد هو هل السبب وراء هذا الاعتكاف طلب المعرفة ؟ وقد كان وقتها الأستاذ محمود فى نهايات خلوته ،فشرح له السبب ومن ضمن ما ذكره: (فأنت، إذا أردت أن تدعو إلى الإسلام، فإن عليك لأن ترده إلى المعين المصفى الذي منه استقى محمد، وأبوبكر، وعمر.. وإلا فإن الدعوة جعجعة لا طائل تحتها.. ولم تطب نفسي بأن أجعجع..)
وقد نُشِر الرد فى صحيفة الشعب فى يناير من ذات العام وقد جمعه الجمهوريون فى كتاب تحت عنوان (رسائل ومقالات - الجزء الثاني) وتجده مبذولا أيضا فى موقع الفكرة الجمهورية على الإنترنت المشار إليه اعلاه .

وبعد فإنى أود أن الفت إنتباه الأستاذ بدر الدين العتاق الى ان الحديث عن الأستاذ محمود وأفكاره يقتضى إطلاعا دقيقا على ما كتب وقال ،فهو داعية إلى الله على بصيرة كرس حياته ووقته كله للدين وعاش له واستشهد من أجله وتعرضت أفكاره وحياته لتشويه شديد من خصومه بسوء نية ومن البعض بحسن نية وعدم معرفة وانى احسبك فى زمرة المحبين ولا اريد لك التورط فى التشويه ولو بحسن نية.

هذا مع خالص شكرى وتقديرى

علاء الدين بشير - الشارقة
16 سبتمبر 2025