إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

خالد المبارك يجهل الحقائق ويضلل القراء

طه اسماعيل أبوقرجة


١١ ديسمبر ٢٠٠٢

خرج علينا الدكتور خالد المبارك بمقال تحت عنوان (مفكرة سودانية بريطانية.. محمود محمد طه وأنصاف الحقائق)، في يوم 18 نوفمبر الماضي، الذي صادف الذكرى الرابعة والثلاثين لمهزلة محكمة الردة التي جرت فصولها في 18/11/1968. والمقال يؤكد ما كان يردده الأستاذ محمود محمد طه دائماً بأن الفكرة الجمهورية لم تناقش، وإنما يثير خصومها أوهاماً يحسبونها هي الفكرة الجمهورية. ومقال الدكتور خالد المبارك في حقيقة الأمر لا يختلف كثيراً عن محتوى المعارضة التي كان يثيرها مدبرو مهزلة محكمة الردة، وإن بدا له غير ذلك. فهو قد تعامى عن الحقائق الظاهرة، ونسب للأستاذ ما لم يقله، بل نسب له عكس ما قاله. كما هو قد التحف عباءة الحداثة، وتدثر باللقب العلمي دون محتوى، تماماً مثلما تدثر أولئك بالدين.

ويكفي في تبيين خلو مقال الدكتور من أبسط مقومات النهج العلمي أنه حين وصف ثورة رفاعة بأنها ثورة رجعية في مواجهة قرار تحديثي وأنها من مخازينا ويقع وزرها على الأستاذ محمود، قال أن: (الأستاذ محمود لم يراجع موقفه علناً أو يذكر مبرراته بعد نيل الاستقلال)!! ولكن بعض الأميين يعلمون أن الجمهوريين قد كتبوا كتاباً باسم "الخفاض الفرعوني" في 1981. كما أن موقع الفكرة الجمهورية بشبكة الإنترنت يحتوي على أكثر من كتاب يتعرض لموقف الجمهوريين من الخفاض، ولثورة رفاعة، منها كتاب معالم على طريق تطور الفكرة الجمهورية خلال ثلاثين عاماً 1945-1975) وبه توضيح لملابسات ثورة رفاعة وأهدافها. كما أن بهذا الموقع مقابلة صوتية أجراها معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية مع الأستاذ محمود خلال 1975 كجزء من برنامج المعهد يومئذ لتوثيق تاريخ الحركة الوطنية، بها حديث مفصل عن هذا الأمر. ولكن يبدو أن الدكتور خالد المبارك لا يقرأ ولا يسمع، وإنما هو يطمر الحقائق تحت ركام من الأباطيل التي يروجها دون أدنى إحساس بالمسئولية، مستغلاً لقبه العلمي الكبير. إن أدنى ما تعطيه برامج الماجستير والدكتوراه هي أن تغرس في الطالب روح البحث وتمحيص الحقائق وإحكام المقدمات من أجل الوصول إلى النتائج السليمة. فأين الدكتور خالد المبارك من ذلك؟ وأين المسئولية العلمية فيما يكتب؟

إن أبسط ما يحتاجه المرء لتقويم أحداث التاريخ هو الإلمام بها. ومن الواضح أن الدكتور خالد المبارك غير ملم بملابسات ثورة رفاعة، مما يفقده الحق في الخوض في تقويمها. فهي أولاً لم تكن ضد قرار كما قال، وإنما كانت ضد أثر عملي لقانون سنه البريطانيون في ديسمبر 1945. والقانون قد صدر بعد أشهر قلائل من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبغرض التنصل عن التزامهم الناشيء بموجب وثيقة الأطلنطي الموقعة في أغسطس 1941 والتي التزمت فيها بريطانيا بمنح الشعوب المستعمرة حق تقرير المصير عند نهاية الحرب إن دعمت تلك الشعوب مجهود الحلفاء الحربي. ولعله لا يعرف أيضاً أن البريطانيين قد ناقشوا ذلك القانون في برلمانهم، على غير عادتهم فيما يتعلق بقوانين المستعمرات، وأن المناقشة رافقتها تغطية إعلامية، بغرض إقناع الرأي العام الغربي بأن السودانيين شعب متخلف يمارس عادة همجية كهذه، مما يوجب استمرار الوصاية البريطانية عليهم. ولعله لا يعرف أن هدلستون، الحاكم العام، قد اقترح بالفعل أن تستمر الإدارة الاستعمارية على السودان نحو عشرين سنة أخرى حتى 1966. إن هذه الملابسات هي التي قادت الحزب الجمهوري لمحاربة قانون الخفاض، مع عوامل أخرى ذكرت وقتها. ولقد كانت تلك الثورة منعطفاً هاماً لتقصير أجل الاستعمار.

يبدو أن الدكتور خالد المبارك لا يعرف شيئاً من هذا رغم أنه يربط مفكراته ببريطانيا، أو أنه لا يعرف كيف يستثمر معلوماته في التفكير. والحق أن المسألة لا تحتاج إلى تفكير، إذ أن الحزب الجمهوري قد بين أنه ضد عادة الخفاض. ففي كتاب معالم الذي أشرت إليه آنفاً وردت مقتطفات من أول بيان أصدره الحزب الجمهوري في عام 1946 ضد قانون محاربة الخفاض، أسوق منها العبارة التالية:- (لا نريد بكتابنا هذا أن نقف موقف المدافع عن الخفاض الفرعوني، ولا نريد أن نتعرض بالتحليل للظروف التي أوحت به لأهل السودان، والضرورة التي أبقته بين ظهرانيهم إلى يومنا هذا. ولكننا نريد أن نتعرض لمعاملات خاصة، وأساليب خاصة، وسنن خاصة سنتها حكومة السودان، أو قل ابتدعتها ابتداعاً وأرادتنا أن ننزل على حكم ابتداعها إرغاماً). وورد أيضاً (ومن الآيات الدالة على سوء القصد في هذه الأساليب، إثارة الخفاض الفرعوني في هذا الظرف، وأساليب الدعاية التي طرقتها له، والطرق التي ارتأتها مناسبة لإبطاله، والقضاء عليه. ولقد جاءت هذه الآيات دليلاً واضحاً على التضليل المقرون بسبق الإصرار). هذا هو محتوى بيان الحزب الجمهوري الأول في 1946 بشأن قانون الخفاض، فهل يجوز لأحد أن يقول أن الأستاذ محمود محمد طه دافع عن الخفاض؟ الحق أني لا أعتقد أن كاتباً يحترم قلمه وقراءه والدرجة العلمية التي يحملها يمكن أن يغالط الحقائق على هذا النحو المؤسف ويذهب ليناصر ما يسميه بالحداثة. وأي حداثة في محاربة العادات المتأصلة بالقوانين؟ ولماذا لم يصدر الإنجليز قانوناً لمحاربة الخفاض منذ 1898؟ وماذا فعلوا في مجال التوعية باعتبارها الوسيلة الناجعة لمحاربة العادات الضارة؟ إن الدكتور يغفل كل ذلك ويذهب ليصور المسألة بأن المرء إما أن يكون ضد الخفاض وعليه مناصرة ذلك القانون الإنجليزي، وإما أنه يشجع الخفاض. هل رأيتم هذا اليسر الذي يتناول به الأمور؟

لا أريد أن أطيل هنا في تتبع ما قال الدكتور خالد المبارك، إذ سأفعل ذلك في حيز آخر، ولكن لابد أن أعرض لقوله:- (قيل للعامة: "يريد الإنجليز أن يتدخلوا في كل شيء حتى .. بناتكم). وهي عبارة توحي إلى القاريء بأن الأستاذ محمود قال كلمة بذيئة يعف قلم الدكتور خالد المبارك عن ذكرها. حسب الدكتور ذلك من السوء. أن من ضمن ما قاله الأستاذ يومئذ عن ذلك القانون العجيب أنه يحارب عادة الخفاض بطريقة "تعرض حياء المرأة السودانية للابتذال، وعلى الحياء تقوم الأخلاق كلها، والأخلاق هي الدين". ثم أن الأستاذ لو كان يتلفظ بهذه الألفاظ، لما ثار للعرض وكرامة المرأة، ولما هبَّت من خلفه مدينته التي تعرف خلقه. إن ما قاله الأستاذ معلوم ومرصود، فمن أين أتى الدكتور خالد المبارك بهذه الكلمات؟ هل له أن يجيبني؟ وهل هذه هي مساهمته في تنوير الشعب السوداني الذي اقتطع من لقمة عيشه الخشنة ليعلمه إلى هذا المستوى الرفيع؟

حسبي هذا الآن، وسأحاول متابعة ما قاله الدكتور خالد المبارك في حيز آخر.

طه إسماعيل أبو قرجة
المنامة، البحرين، في 11 ديسمبر 2002