إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الأخوان الجمهويون في جريدة الأخبار المصرية(الكتاب الأول)

محكمة الردة كانت مهزلة


إن الدكتور وصفي، وقد نصَّب نفسه مدافعاً عن مدبري مهزلة محكمة الردة، يلزمه الاطلاع على محتوى تلك المحاكمة، من أقوال المدعيين وشهودهما ليتبين أولاً، صدق هذه الأقوال من كذبها، وليطمئن، ثانياً، أن المحكمة قد سارت السير المفترض في المحاكم، من فحص للبينات، وتوخي الحيدة في الحكم.. ولكن الدكتور في زخم التفخيم القانوني، الذي أغرقه فيه أشياخ الجامعة الإسلامية بأمدرمان، قد ذُهل عن أن يتثبت، وأن يتبيَّن، التبيُّن، والتثبُّت اللذين تحتمهما المسئولية الدينية، وتفرضهما الأمانة القانونية.
إذا كان الدكتور وصفي لم يطلع على محضر مداولات المحكمة، وهو الذي قال: "عندي ملف كامل بالموضوع" أفلم يطلع على كتابنا: "بيننا وبين محكمة الردة" الذي صدر في تلك الأيام، وفضحنا فيه زيف أقوال المدعيين، وزور شهادات شهودهما، وتحريفهم، وبترهم لأقوالنا، مما جاء على المحكمة المزعومة، التي لم تكلف نفسها مراجعة هذه الأقوال، ومضاهاتها مع كتبنا التي زعم المدعيان أنهما نقلا منها ادعاءهما. ولو قد فعلت المحكمة هذا، لما جرؤت على الحق تلك الجرأة الحمقاء..
بل إن تلك المحكمة قد استمعت، لثلاث ساعات، إلى أقوال الادعاء، ثم رفعت جلستها لمدة ثلث ساعة، قرأت علينا بعده حيثيات حكمها الهزيل، الذي لا يكفي ثلث الساعة لمجرد كتابته!! مما يدل على أن الحكم كان جاهزاً، وما تلك المحكمة، وقاضيها، توفيق أحمد صديق، إلا مخلب قط، وضحية لرؤوس أكبر منهما.

جهل المحكمة وتآمرها


إن دليلنا على جهل تلك المحكمة وتواطؤها مع المدعيين، ما جاء في حيثياتها. فقد قالت فيها: "إن المدعيين قد ادعى كل منهما حسبة وشهد في أقواله المدونة بمحضر القضية وفي كل ورقة قدمها كل واحد وتلاها أمام هذه المحكمة وكانت تدل على ردة المُدَّعى عليه عن الإسلام"
فما هي تلك الأقوال التي تدل كلها على الردة؟.. أليست هي ذلك النقل المبتور من كتبنا؟.. لقد قال المدعي الأول عن الأستاذ محمود محمد طه: "يقول بالحرف الواحد (نجد أن حظ المرأة في تشريع الإسلام الذي بين أيدينا حظ مبخوس، فهي على النصف من الرجل في الشهادة، وعلى النصف منه في الميراث، وعلى الربع منه في الزواج وهي دونه في سائر الأمور الدينية والدنيوية... فلماذا؟؟)
ويقف المدعي، في نقله، عند هذا الحد، متعمداً حذف باقي الحديث ليضلل المحكمة والرأي العام.. بل إنه قد حذف أول الكلام أيضاً لنفس الغرض، ليعلق بقوله المزور عن الأستاذ محمود: "نسب المولى، سبحانه، وتعالى إلى عدم العدل".. ولو أورد المدعي النص كاملاً لما وجد سبيلاً إلى تعليقه هذا.. وتمام النص كما ورد في حديث الأستاذ محمود وارد هكذا:
"وحين نجد حظ المرأة في القرآن، من المسئولية الفردية، مساوياً لحظ الرجل مساواة مطلقة، نجد أن حظها، في تشريع الإسلام الذي بين أيدينا الآن، حظ مبخوس.. فهي على النصف من الرجل في الشهادة، وعلى النصف منه في الميراث، وعلى الربع منه في الزواج وهي دونه في سائر الأمور الدينية والدنيوية... فلماذا؟؟
هنا تبرز عوامل التاريخ الموروث، من سوالف الحقب.. فقد عاشت البشرية، حيناً من الدهر، تحت قانون الغابة، حيث القوة هي التي تصنع الحقوق، وهي التي تتقاضى هذه الحقوق، وفي مثل هذا المجتمع، فإن الفضيلة لشدة الأسر وقوة العضلات، وليس للمرأة هنا كبير حظ، ولذلك فقد كانت تعتبر عبئاً ثقيلاً ينوء به ذووها من الرجال حين يطعمونها من ألم الجوع، وحين يصونونها من عار السبي، وهو ما يجعل الناس على عهد الجاهلية يئدون البنات حيات ((وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قُتلت)).. أو ((وإذا بُشِّر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّر به، أيمسكه على هون، أم يدسه في التراب؟ ألا ساء ما يحكمون)).. وإذ ورث الإسلام هذا المجتمع الجاهلي فلم يكن مقبولاً، عقلاً، ولا عملاً، إلا أن يقيد من حرية المرأة مهما بلغ من تحريرها (ولقد بلغ من تحريرها، بالنسبة ما وجدها عليه من الذلة مبلغاً يشبه الطفرة). ثم أنه أشار حين قيد من حريتها إلى أسباب تلك القيود: ((الرجال قوامون على النساء بما فضَّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم)) فالقوامة معلولة ((بما فضل الله بعضهم على بعض)) وهذا التفضيل يرجع الحظ الأكبر منه إلى شدة المراس وطول المصابرة في مواطن البأس.. ثم ((وبما أنفقوا من أموالهم)) وتلك إشارة واضحة صريحة إلى القوة التي بها يكون اقتناء المال، من طول المثابرة وسعة الحيلة.. فإذا جاء الوقت ـ وسيجيء ـ الذي يقوم فيه القانون مقام القوة، والاشتراكية مكان الرأسمالية، فإن القوامة تعطي مكانها للمساواة بلا أدنى ريب، لأن ميدان المنافسة سينتقل إلى معترك جديد السلاح فيه ليس قوة العضلات، وإنما قوة العقل، وقوة الخلق، وليس حظ المرأة من ذلك بالحظ المنقوص."..
فما رأي الدكتور وصفي في هذا القول ـ الذي حرفه المدعي الأول أمام المحكمة ـ هل يؤدي إلى ردة أم هو فهم جيد، وإبراز لحكمة التشريع، وقدرته على التطور ـ مما يشرِّف الإسلام ويُشرِّف المسلمين؟