إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

مشكلة الشرق الأوسط

قلّة حنكة الزعماء العرب السياسية


وقلة حنكة الزعماء العرب لا يعييك التماسها أنّى اتجهت.. في أقوالهم وفى أفعالهم، وخطاب السيد جمال عبد الناصر الأخير الذي ألقاه بعد الهزيمة، بمناسبة العيد الخامس عشر لثورة الجيش المصري وحده يطفح بالأخطاء التي تدل على قلّة حنكة السيد جمال وهو يعتبر زعيم زعماء العرب.. قال السيد جمال في معرض الرد على تساؤل من تساءل لماذا انصاع لنصيحة الرئيس الأمريكي فلم يبادر بإطلاق النار؟ قال: ((المسألة الثالثة إننا بتحرُّكنا وأخذِنا المبادأة لدفع الخطر عن سوريا كنا ندرك أننا، خصوصاً من وجهة النظر الدولية، أن نبدأ بالضربة الأولى في معركتنا المسلحة.. ولو كنا فعلنا ذلك لكنا قد عرَضنا أنفسنا لعواقب وخيمة تزيد عما كان في مقدورنا احتماله.. ولقد كان أول ما سوف نواجهه هو عمل عسكري أمريكي مباشر ضدنا يجد الحجة والعذر من أننا أطلقنا الرصاصة الأولى في المعركة.. وأريد في هذا الصدد أن ألفت نظركم إلى نقطة هامة.. أول نقطة التحذيرات الأمريكية ويمكن قرأتم عن هذه التحذيرات الأمريكية في الصحف ولكن مستشار الرئيس الأمريكي جونسون طلب سفيرنا في وقت متأخر من الليل في واشنطن وقال له إنه في معلومات عند إسرائيل أنكم حاتهجموا.. وقال أن ده يعرضنا لوضع خطير وناشدنا ضبط النفس)) وفى موضع آخر من هذا الخطاب نفسه يقول السيد جمال: ((فى هذا الاجتماع محدش أبدا اتكلم على الهجوم على إسرائيل مكنش في أبداً أي فكرة أن إحنا حنقوم بعمل هجومي على إسرائيل.. وزى ما وضحت من الأول اللى كان باين من كل تحليلاتنا أن أي عمل هجومي على إسرائيل حيعرضنا لمخاطر كبيرة أول هذه المخاطر هجوم أمريكي علينا نظراً للتصريحات اللى أعلنتها أمريكا وقالت فيها أنها تضمن حدود الدول في هذه المنطقة.. وكان باين لينا أن أمريكا لما تقول أنها تضمن حدود الدول في هذه المنطقة ولا تسمح بأيِّ تغييرات في هذه المنطقة مكنش أمريكا تقصد بهذا أبدأً الدول العربية ولكن أمريكا كانت تقصد بهذا إسرائيل، كانت تقصد أنه إذا حصل عدوان علىإسرائيل أن أمريكا حتنفذ التصريح اللى قاله الرئيس كنيدى قبل كده أن أمريكا تضمن للجميع الحدود في هذه المنطقة على هذا الأساس مكنش في أبدا أي بحث عن موضوع البدء بالهجوم على إسرائيل ولكن عمليتنا كلها في القيادة المشتركة كانت عملية دفاعية وكان حشدنا في تقديرنا في هـذا الوقت هي عملية ردع حتى لا تقـوم إسرائيل بالعـدوان على سـوريا))..
هـذا وذاك هو ما قاله السيد جمال عبد الناصر في هذا الخطاب الذي ألقاه بعد الهزيمة بمناسبة العيد الخامس عشر لثورة الجيش المصري، ونحن نرجو أن يتعمق القراء هذه الأقوال، وبخاصة قوله: ((كنا ندرك أننا، خصوصاً من وجهة النظر الدولية، أن نبدأ بالضربة الأولى في معركتنا المسلحة.. ولو كنا قد فعلنا ذلك لكنا قد عرّضنا أنفسنا لعواقب وخيمة تزيد عمّا كان في مقدورنا احتماله.. ولقد كان أول ما سوف نواجهه هو عمل عسكري أمريكي مباشر ضدنا يجد الحجة والعذر من أننا أطلقنا الرصاصة الأولى في المعركة)) لماذا؟ يحدثنا السيد جمال فيقول: ((نظراً للتصريحات اللى أعلنتها أمريكا وقالت فيها أنها تضمن حدود الدول في هذه المنطقة وكان باين لينا أن أمريكا لما تقول إنها تضمن حدود الدول في هذه المنطقة ولا تسمح بأيّ تغييرات في هذه المنطقة مكنش أمريكا تقصد بهذا أبداً الدول العربية، ولكن أمريكا كانت تقصد بهذا إسرائيل.. كانت تقصد أنه إذا حصل عدوان على إسرائيل أن أمريكا حا تنفذ التصريح))..
والسؤال الآن هو، أليس غرض العرب المعلن على العالم دائماً، والقائم خلف عدم الاعتراف بإسرائيل، وعدم الصلح معها، وعدم التفاوض معها، هو أن يمحو العرب دولة إسرائيل من الوجود في أرض فلسطين؟ فاذا كنا نحترم ضمان أمريكا لحدود إسرائيل أو كنا نخاف امريكا إلى حد نشعر معه أننا إذا خالفناها نكون ((قد عرضنا أنفسنا لعواقب وخيمة تزيد عما كان في مقدورنا احتماله)) فهل ننتظر يوماً تتخلّى فيه أمريكا عن هذا الضمان لحدود إسرائيل؟ أم هل ننتظر يوماً يكون لنا فيه من القوة العسكرية والسياسية والدبلوماسية ما يمكننا من مناهضة أمريكا ومن تحدى ضماناتها لحدود إسرائيل؟ أم أن ضمان أمريكا لحدود إسرائيل لا يكون ملزماً لأمريكا إلا إذا كنا نحن البادئين بالهجوم على إسرائيل، فنحن إذن، ننتظر أن تبدأنا إسرائيل بالهجوم لنقوم بمباشرة محوها من الوجود في فلسطين، ونحن في عذر مديد أمام أمريكا؟ فإذا كان التصريح الذي أشار إليه السيد جمال عبد الناصر، والذي ظهر أنه يخشاه كل هذه الخشية، لم يكن جديداً من جانب أمريكا، وإنما يرجع إلى العام 1950م، أفليس من الحق أن نتساءل: هل كان السيد جمال عبد الناصر فعلاً يعنى التهديد الذي يذيعه على العرب كل عام مرة أو مرتين ضد دولة اسرائيل؟ أم هل كان يريد به إلى بسط زعامته على العرب، وذلك بإشاعة جو الخوف حولهم، واستغلال روح القطيـع فيهـم؟..
ولقد يظن ظانٌّ من أشياع السيد جمال عبد الناصر أنه إنما قصد عدم البدء بالهجوم على إسرائيل في الوقت الحاضر فقط، وهو وقت لم يكتمل فيه استعداد العرب للقيام بمباشرة محو إسرائيل من الوجود الفلسطيني، وإنما اضطروا للتحركات العسكرية لأن إسرائيل أصبحت مهددة لسوريا بالغزو، فكان غرضهم من ثمَّ غرضاً دفاعياً لا هجوميا ً.. قد يقول أحد الأشياع هذا القول ونحن لا نملك إلا أن ندعوه إلى أن يقرأ تصريح السيد جمال عبد الناصر الذي أدلى به يوم 29 من شهر مايو من عام 1967م، أي قبل بدء العدوان بأقل من أسبوع، وذلك حيث قال: ((اذا هاجمتنا إسرائيل في أي مكان فسوف نهاجمها في كل مكان وسوف نقوم بتدميرها تدميرا كاملاً ولن تكون المعركة محدودة)).. قال السيد جمال قوله هذا وهو يتحدث عن انسحاب قوة الطوارئ الدولية، وعن إعادة السيطرة المصرية على خليج العقبة، ثم استرسل في القول فتحدث عن ظروف العمل العربى منذ عام 1956م، واهتم بالذات بموضوع قوات الطوارئ الدولية، وخليج العقبة، وحملات التشكيك التي وجهت إلى الجمهورية العربية المتحدة، وقال: ((لقد قلت دائما إذا أردنا إخراج قوات الطوارئ الدولية فإنها تخرج في نصف ساعة وهذا ما حدث))..
((وكان اعتقادنا دائماً أن موضوع خليج العقبة هو موضوع حرب شاملة، لا نواجهها إلا إذا كنا على استعداد لها ولا نتحدث عنها إلا إذا كنا على استعداد للمواجهة))..
((ولقد كانت الجمهورية العربية المتحدة تستعد وتنتظر)) وقال السيد جمال عبد الناصر إن الانتظار وصل مداه بالتهديد الإسرائيلي الذي وجه إلى سوريا..
فقد كانت مصر إذن مستعدة ((لحرب شاملة)) حين طلبت من السكرتير العام لهيئة الأمم أن يسحب قوات الطوارئ الدولية وحين باشرت السيطرة على خليج العقبة وقفلته في وجه الملاحة الإسرائيلية..
ثم إن السيد جمال عبد الناصر يحدثنا عن هذا التهديد الذي صدر عن دولة إسرائيل ضد سوريا، وذلك في خطابه الذي ألقاه بمناسبة الاحتفال بالعيد الخامس عشر لثورة الجيش المصري فيقول: ((المسألة الأولى التي يجب أن تكون واضحة أمامنا جميعا أننا لم نكن البادئين بتأزيم الموقف في الشرق الأوسط.. كلنا نعرف أن هذه الأزمة بدأت بمحاولة إسرائيل غزو سوريا.. من المؤكد لنا جميعا أن إسرائيل في هذه المحاولة مكنش بتعمل لحسابها وإنما كانت تعمل أيضاً لحساب القوى التي ضاقت ذرعاً بحركة الثورة العربية))..
هذا هو الموقف كما يراه السيد جمال ويصوره للشعوب العربية، ولكن أمريكا تراه بصورة أخرى، وعندما تنقل رأيها للسيد جمال يرد عليها بخلاف ما يكلم العرب.. ففى مذكرة من حكومة الولايات المتحدة إلى حكومة الجمهورية العربية المتحدة عن حالة التوتر في منطقة الشرق الأوسط مؤرخة 23 مايو 1967م قالت حكومة الولايات المتحدة إن ثلاثـة أمـور تسبب لهـا قلقا خاصاً: ((أولها أعمال الإرهاب المستمرة التي تجري ضد إسرائيل بموافقة سوريا، والتى تقوم، في بعض الحالات على الأقل، من الأراضي السورية، وهذا يتنافى مباشرة مع اتفاقات الهدنة العامة التي تنادي الدول الموقعة عليهـا أن تضمن إلا يرتكـب عمل شبيه بأعمال الحرب، أو من أعمال العـدوان، من أرض إحدى هذه الدول ضد الطرف الآخر أو ضد المدنيين في أرض يسيطر عليها هذا الطرف الآخر.. ونحن نعتقد أن اتفاقات الهدنة العامة ما زالت تشكل القاعدة المثلى لأن تسود الأحوال السلمية على امتداد الحدود، ونحن نأمل أن تشاركنا الجمهورية العربية المتحدة، هي والحكومات الأخرى، في مناشدة كل أطراف اتفاقات الهدنة أن تحترم مواد هذه الاتفاقات بحذافيرها))..
والهدنة التي تشير إليها مذكرة حكومة الولايات المتحدة هذه هي الهدنة التي أجريت اتفاقاتها في منتصف عام 1949م تحت رعاية الأمم المتحدة ووقعتها كل الدول المعنية وهي مصر، وسوريا، ولبنان، والأردن، وإسرئيل..
فماذا قال السيد جمال في الرد عل هذه المذكرة؟ في جواب له مؤرخ 2 يونيو عام 1967م إلى الرئيس جونسون قال: ((ولقد أشرتم في رسالتكم إلى نقطتين:
أولاهما: ما أشرتم إليه من أننا ينبغي أن ننحي الماضى جانباً، وأن نعمل على إنقاذ الشرق الأوسط، بل والعالم كله، بتجنب الأعمال العسكرية.. فبالنسبة لهذه النقطة أود أن أشير إلى أن سياسة الجمهورية المتحدة لا تكتفي باتخاذ السلام العالمى هدفاً، بل إننا، في سبيل هذا الهدف، نأخذ دوراً ايجابياً لا أرى الاستطراد في بيانه تجنباً للوقوع في دائرة التمجيد الذاتي.. أما بالنسبة للقيام بتجنب الأعمال العسكرية فيكفي أن أكرر ما سبق أن أعلنت من أن كافة ما قمنا به هي إجراءات فرضتها قوى العدوان، ومع ذلك فإن قواتنا لم تبدأ بأيِّ عدوان، ولكننا بلا شك سندافع ضد أي عدوان يقع علينا، أو على أيِّ بلد عربى بكل ما نملك من قدرات وإمكانيات))..
وثانيتهما: هو ما أشرتم إليه من أن مشاكل العصر لا يمكن حلها عن طريق اختراق الحدود بين الدول بواسطة الرجال والسلاح، وأنا اتفق معك في هذا الرأي، ومع ذلك فينبغي أن ننظر في كيفية تطبيق هذا المبدأ على كل حالة، فإذا كان قصدكم هو عبور بعض أفراد شعب فلسطين خطوط الهدنه فإنني أود هنا أن أشير إلى ضرورة بحث هذا الجانب في نطاق النظرة الشاملة لقضية شعب فلسطين، وهنا أيضاً أتساءل عن مدى قدرة أية حكومة في أن تسيطر على مشاعر أكثر من مليون فلسطينى فات ما يقرب من العشرين عاماً دون أن تهتم العائلة الدولية - ومسئوليتها هنا مسئولية لا يمكن الفرار منها – بإعادتهم إلى وطنهم وتكتفي الجمعية العامة للأمم المتحدة في كل دور من أدوار انعقادها بتأكيد هذا الحق.. إن ما يقوم به بعض أفراد الشعب الفلسطيني من عبور خطوط الهدنة أن هو في الواقع إلا مظهر من مظاهر الغضب الذي أصبح – عن حق – يتملك هذا الشعب أزاء الإنكار الكامل لحقوقه من جانب العائلة الدولية، ومن جانب القوى التي تقف مع إسرائيل وتعاونها مادياً وأدبياً))..
((وفى الواقع إننا مهما حاولنا أن نفصل بين جوانب المشكلة فلا بد أن نعود في النهاية إلى جوهرها وأصلها الذي يتمثل في حق شعب فلسطين في أن يعود إلى بلاده ومسئولية العائلة الدولية في أن تكفل له ممارسة هذا الحق))..
هذا ما قاله السيد جمال عبد الناصر في الرد على الرئيس جونسون، وفى هذا القول تضليل، وفيه التواء.. ولقد يظهر التضليل في هذا التنصل من أعمال الفدائيين العرب، وجعل نشاطهم في التسلل، والإرهاب، والتخريب داخل إسرائيل كأنما هو تعبير عن غضبة شعب خرج عن سيطرة الحكومات العربية.. ((وهنا أيضا أتساءل عن مدى قدرة أية حكومة في أن تسيطر على مشاعر أكثر من مليون فلسطيني فات ما يقرب من العشرين عاماً دون أن تهتم العائلة الدولية – ومسؤليتها هنا مسئولية لا يمكن الفرار منها – باعادتهم إلى وطنهم)) كما ورد في هذا الخطاب.. هذا في الوقت الذي يعلم فيه العالم أجمع أن عمل الفدائيين في إسرائيل إنما هو عمل منظم تشرف عليه منظمة التحرير الفلسطينية وهي منظمة رسمية، تجد الاعتراف والتأييد، والمعونة من الحكومات ومن الشعوب العربية، ويعتبر عمل الفدائيين العرب الذي يقومون به في داخل إسرائيل طليعة الغزو العربي الذي ستباشره الجيوش العربية بغرض محو إسرائيل من الوجود.. فإذا ما تحدث عنهم السيد جمال بالصورة التي وردت في خطابه هذا فإنه يكون قد عزلهم عن الخطه المتكاملة للعمل الحربي الموحد، ويكون بذلك قد انصرف، في الخارج، عن المواجهه الحربيه لإسرائيل التي يحدث بها، في الداخل، الشعوب العربيه دائماً.. ويكون قد مارس تضليلاً، بل كذباً لا يليق بزعيم يتولى الحديث باسم العرب كلهم، ذلك بأن مثل هذا المسلك يقلل من الاحترام الذي يجب أن يلقاه العرب في الدوائر العالميه، ولدى مختلف الحكومات..
ويظهر الالتواء في هذا النكول عن مواجهة الاتهام الأمريكي بتفنيدٍ في مستواه، أو بالاعتراف به، والدفاع عنه بجراءة وصدق.. ذلك بأن الاتهام الأمريكي يقول ((أولها أعمال الإرهاب المستمرة التي تجرى ضد إسرائيل بموافقة سوريا، والتى تقوم، في بعض الحالات على الأقل، من الأراضي السورية ألخ ألخ،)) وواضح أن أهم عبارة في حديث أمريكا هذا هي عبارة ((بموافقة سوريا)) فهل من الصدق والرجولة أن يكون ردنا على هذا الاتهام أن سوريا لم تكن راضية عن أعمال الفدائيين العرب، ولكنها عاجزة عن ((السيطرة على مشاعر أكثر من مليون فلسطيني الخ الخ)) كما يفهم من رد السيد جمال عبد الناصر؟ وهل تعتذر حكومة عن مخالفة رعاية الحقوق الواجبة الرعاية بتقصيرها عن السيطرة على ما يجري في أرضها؟

عدم صدق الزعماء العرب


الحق إن وصف زعماء العرب بقلّة الحنكة السياسية أقل مما يجب في حقهم.. فإن هناك ما هو أخطر من ذلك.. هناك أن جمال عبد الناصر، على الأقل، يتحدث بلسانين.. لسان للشعوب العربية في الداخل، ولسان للرجال المسئولين في الخارج، ولا نحتاج لالتماس البرهان على ذلك للبحث في مكان جديد، غير جوابه للرئيس الأمريكي جونسون الذي نحن بصدده الآن..
فاقرأوا إن شئتم قوله منه ((وفى الواقع إننا مهما حاولنا أن نفصّل في جوانب المشكلة فلا بد أن نعود في النهاية إلى جوهرها وأصلها الذي يتمثل في حق شعب فلسطين في أن يعود إلى بلاده ومسئولية العائلة الدولية في أن تكفل له ممارسة هذا الحق))..
فأما الشعوب العربية كلها فإنها قـد فهمـت عـن السيد جمال عبد الناصر، وعلى طـول المـدى، أن مشكلة فلسطين إنما ((جوهرها وأصلها)) وجود دولة إسرائيل غير الشرعي في أرض لا شبهة حق لها فيها.. وإن حل هذه المشكلة إنما هو باقتلاع دولة إسرائيل من جذورها، والقذف باليهود في البحر ليعودوا من حيث أتوا، لتخلو الأرض الفلسطينية العربية لأهلها العرب.. وهذا حل لا يمكن أن يكون إلا بالحرب وبحد السلاح!!
وأما الرجال الرسميون في الخارج فإن السيد جمال يخبرهم أن مشكلة فلسطين ((جوهرها وأصلها)) حق شعب فلسطين في أن يعود إلى بلاده، ثم هو يجعل تمكين شعب فلسطين من ممارسة هذا الحق مسئولية العائلة الدولية.. ومعلوم أن العائلة الدولية قد أعطت دولة إسرائيل وجودها الشرعي، وذلك بإقرار مبدأ التقسيم عام 1947م، ومعلوم أيضاً أن العرب قد رفضوا ولا يزالون يرفضون، مبدأ التقسيم هذا.. فماذا عسى يعنى السيد جمال بهذا القول؟ هل يعني، أو يمكن أن يعني، أن مسئولية العائلة الدولية أن تمحو إسرائيل من الوجود الفلسطيني، ثم تعيد شعب فلسطين إلى تلك الأرض ليمارس حق البقاء فيها، وإسرائيل نفسها عضو في العائلة الدولية منذ عام 1949م؟ أم أنه يعنى بمسئولية العائلة الدولية في إعادة شعب فلسطين إلى أرضه تنفيذ مبدأ التقسيم، وهو مبدأ، كما قلنا، رفضه العرب، ولا يزالون يرفضونه، والسيد جمال عبد الناصر في طليعتهم في ذلك؟ أم أن هـذا قول قيل من أجـل الظهـور بمظهـر المعقولية أمام الرجال المسئولين في الخارج، مع الحرص على الظهور بمظهر الثورة والتحدي، أمام الشعوب العربية في الداخل؟
والسيد جمال في جوابه للرئيس جونسون يقول ((أولاهما ما أشرتم إليه من أننا ينبغي أن ننحي الماضي جانباً وأن نعمل على إنقاذ الشرق الأوسط، بل والعالم كله، بتجنب الأعمال العسكرية، فبالنسبة لهذه النقطة أود أن أشير إلى أن سياسة الجمهورية العربية المتحدة لا تكتفى باتخاذ السلام العالمى هدفا، بل إننا، في سبيل هذا الهدف، نأخذ دورًا ايجابياً لا أرى الاستطراد في بيانه تجنباً للوقوع في دائرة التمجيد الذاتي)) هذا ما قاله السيد جمال للرئيس جونسون.. وإن المرء ليحار كيف يجوز أن يقول مثل هذا القول رجل بنى مجده السياسي على معاداة إسرائيل، وهو لا يكاد يطلق تصريحاً سياسياً، أو يلقي خطاباً قومياً إلا يتوجه إليها بالوعيد بحرب قريبة تلقي بها في البحر؟ أليس واجب الزعامة، والرجولة، والوضوح، والصدق مع نفسه ومع شعبه كان يوجب على السيد جمال عبد الناصر أن يقول للرئيس جونسون بدلاً من القول السالف الذكر.. قولا مثل هذا؟ ((أولاهما: ما أشرتم إليه من أننا ينبغي أن ننحي الماضي جانباً وأن نعمل على إنقاذ الشرق الأوسط، بل والعالم كله، بتجنب الأعمال العسكرية، فأني ما أدري هل نملك، أنا وأنت، أن ننحي الماضي جانباً وقد ارتكبت فيه من الأخطاء ما سلبت الحقوق من ذوي الحقوق ونحلتها غير أهلها؟ وهل نملك، أنا وأنت، أن نجود، وأن نتجاوز عن حقوق لا ينام عن نشدانها أصحابها الشرعيون؟ وما أدري أيضاً كيف يمكن تجنب الأعمال العسكرية في وقت لا تبدو لنا فيه بارقة أمل في تطبيق العدالة؟ أليست الأعمال العسكرية هى، في جميع حقب التاريخ، الأسلوب الذي يلجأ إليه طلاب الحقوق المهدرة كلما أدركهم اليأس من عدالة الضمير البشري؟ إنني، يا سيدي الرئيس، استطيع أن أعدك بشئ واحد هو السعي إلى رد حقوق شعب فلسطين إلى أهلها بأساليب السلم حيث أمكنتني الفرصة من ذلك، فإن العدالة هي وحدها القادرة على أن تغنينا عن اللجأ إلى الأعمال العسكرية، وهي من ثم وحدها القادرة على إنقاذ الشرق الأوسط وإنقاذ العالم كله من شرور ما يتهدده من حروب))..
ألا ترون أن مثل هذا القول يكون أقرب إلى طبيعة تفكير السيد جمال عبد الناصر الذي يعلنه على العرب في الداخل في كل مناسبة؟

قلّة حنكة الزعماء العرب الدبلوماسية


وأما قلة حنكة زعماء العرب الدبلوماسية فهي أيضا بادية، وما يحوجنا التماسها إلى كبير عناء.. وما الفشل الذي مُني به العرب في الدورة الاستثنائية للجمعية العامة ببعيد.. ومن طبيعة ضعف التفكير السياسي أن يورث ضعفاً في المقدرة الدبلوماسية، إذ ما الدبلوماسية، في حقيقتها إلا النهج الذي به يتم توضيح السياسة الخارجية بغية أن يكسب لها التأييد..
ويمكن أن يلتمس الضعف الدبلوماسي حتى في جواب السيد جمال عبد الناصر للرئيس جونسون هذا الذي لا نزال بصدده.. قال: ((أود أن اشير إلى أن سياسة الجمهورية العربية المتحدة لا تكتفى باتخاذ السلام العالمى هدفاً، بل إننا، في سبيل هذا الهدف، نأخذ دوراً ايجابياً لا أرى الاستطراد في بيانه تجنباً للوقوع في دائرة التمجيد الذاتى)) فمنذا الذي يسلم للسيد جمال بأن سياسته تأخذ دوراً إيجابياً في النظرة إلى السلام العالمي مما يغنيه عن الاستطراد في البيان؟ أليس مما يعرفه العالم عن السيد جمال استعراضاته العسكرية، كل عام مرة أو مرتين، وخطبه المشهورة في تهديد إسرائيل؟ أليس مما يعرفه العالم عن السيد جمال يقود العرب في طريق الحرب لاسترداد أرض فلسطين، ولمحو دولة إسرائيل من الوجود؟ فاذا كان من يقف مثل هذا الموقف في نظر العالم لا تحتاج سياسته لتوضيح وشرح وتبرير فمنذا الذي يحتاجه؟ أم هل يظن بالعالم أن ينظر إلى دولة إسرائيل كما ينظر اليها العرب؟ أو يظن به أن ينظر إلى حق شعب فلسطين، في فلسطين، كما ينظر إليه العرب؟
إن ضعف الدبلوماسية العربية يمكن، بإيجاز، أن يلتمس في ضعف الإدراك العام للقضية العربية، وفى العجز عن النظر إلى الأمور من وجهة النظر المعارضة..

قلة حنكة الزعماء العرب العسكرية


وأما قلة حنكة زعماء العرب العسكرية فهى تتحدث عن نفسها بهزائم عام 1948م و1956م و1967م.. ويكفي فيها أن الأخطاء العسكرية في صحراء سيناء عام 1956م تكررت بحذافيرها في هزيمة عام 1967م، وما دمنا بصدد عدم حنكة زعماء العرب فمن الخير أن نخصص الفصل المقبل للنظر في بعض الأخطاء التي يرجع إليها السبب في هزيمة العرب..