إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

هؤلاء هم الأخوان المسلمون
الجزء الأول

الفصل الثاني

إنعدام المذهبية المتكاملة عند الأخوان المسلمين


ومن أبرز سمات دعوة الأخوان المسلمين إنعدام المذهبية المتكاملة التي تطرح محتوى فكريا تفصيليا يعالج قضايا السياسة، والإقتصاد، والإجتماع.. هذا مع أن من أوجب واجبات الداعية الإسلامي، اليوم، أن يبرز أمتياز الإسلام على كل فلسفة إجتماعية معاصرة، وعلى كل دين، في جميع قضايا الحياة العامة، بصورة علمية تقنع العقول الذكية.. لاسيما أن هذه الفلسفات إنما تطرح، اليوم، محتوياتها الفكرية التفصيلية حول هذه القضايا، وتتجه إلى تطبيقها في واقع الحياة المعاش..
ومرد إنعدام المذهبية المتكاملة، عند الأخوان المسلمين إنما هو إلى القصور عن فهم حقائق الإسلام، وحقائق العصر.. مما جعلهم يعيشون تناقضا شديدا بين الولاء للشريعة الموروثة التي لا يرون تطويرها، وبين الإستجابة للحاجات الملّحة، والطاقات الهائلة التي تزّخر بها الحياة المعاصرة.. فهم لم يستطيعوا أن يعيشوا هذه الشريعة في صدق، كما أنهم لم يستطيعوا أن يتفاعلوا مع روح العصر.. ولذلك عمدوا إلى التعميم، وإلى التعمية وإلى التمويه، في كثير من آرائهم، لإخفاء ذلك القصور، وذلك التناقض..
ها هو هنداوي دوير، أحد كبار الأخوان المسلمين، بمصر، يقول عن أستاذه الشيخ حسن البنا: ((فكان رأيه أن محاولة صياغة رأي الأخوان في القضايا التفصيلية، وكيفية تطبيق الشريعة الإسلامية على حياة المجتمع المعاصر هي محاولة، ضررها أكثر من نفعها، فلذا كانت صياغة مثل هذه قادرة على مواجهة الخصوم السياسيين الذين أخذوا على الأخوان دائما أنهم يطرحون شعارات عامة ولا يقدمون حلولا تفصيلية للمشاكل، فإنها تفتح الباب في نفس الوقت لشقاق كبير بين المسلمين أنفسهم لتعدّد المذاهب والإجتهادات)) .. – كتاب ((الأخوان المسلمون)) لريتشارد ب متشيل.
أما الأستاذ سيد قطب فيرى أن السؤال عن تفاصيل دعوتهم إنما هو لإحراج دعاتها!! ويدعوهم الى الإرتفاع عن ذلك! يقول: ((إن الجاهلية التي حولنا، كما أنها تضغط على أعصاب بعض المخلصين من أصحاب الدعوة الإسلامية فتجعلهم يتعجلون خطوات المنهج الإسلامي، هي كذلك تتعمد أحياناً أن تحرجهم. فتسألهم: أين تفصيلات نظامكم الذي تدعون إليه؟؟ ماذا أعددتم لتنفيذه من بحوث و دراسات، ومن فقه مقنن على الأصول الحديثة؟؟)) إلى أن يقول: ((وهي سخرية هازلة يجب أن يرتفع عليها كل ذي قلب يحس لهذا الدين بحرمة!!)) (معالم في الطريق) صفحة 58 – طبعة دار دمشق..
هكذا يرى مؤسس دعوة الأخوان المسلمين أن تقديم رأيهم في "القضايا التفصيلية" وفي "كيفية تطبيق الشريعة الإسلامية على المجتمع المعاصر" إنما هو "محاولة ضررها أكثر من نفعها!!" أما إذا كان يرى صلاحية الشريعة الإسلامية الموروثة لحل مشكلات الحياة المعاصرة، فلماذا يرى أن تقديم هذا الرأي بصورة مفصّلة "محاولة ضررها أكثر من نفعها" وهو مطالب بإقامة الحجة على فضيلة هذه الشريعة على سائر الفلسفات المعاصرة، وعلى سائر الأديان في تقديم الحلول المفصّلة المبوّبة للمشكلات الماثلة؟ إلا إذا كان يرى أن تقديم هذا الرأي المفصّل قد يعرّض هذه الشريعة في صورة دون مستوى تطلعات وقدرات الحياة المعاصر!! والسبب الذي ساقه الشيخ البنّا في أن محاولة تقديم آرائهم التفصيلية حول القضايا المعاصرة إنما "هي محاولة ضررها أكثر من نفعها" لأنها "تفتح الباب لشقاق كبير بين المسلمين" وهم متعدّدو المذاهب والإجتهادات.. هذا السبب ليس له أدنى حظ من الإقناع، ذلك بأن الداعية الإسلامي الذي يثق في صحة دعوته لا يخشى "تعدد المذاهب والإجتهادات" ومن ثمّ فهو لا يمكن أن يعمد إلى إخفاء الرأي التفصيلي لدعوته حول القضايا الحيوية التي يعايشها الناس!! ثم أن من يريد أن يدعو الناس الى واضحة من أمر الدين، فيصدقهم القول، إنما عليه أن يطرح الصورة المتكاملة لدعوته في مواجهة "المذاهب" المتعددة!! ثم هو يدير بينها وبين هذه المذاهب الحوار الفكري الرشيد، المؤدب بأدب الدين حتى يلتقي الناس، في نهاية المطاف، حول المذهبية الصالحة، فتتم لهم بذلك الوحدة الفكرية الشاملة.. فإن ذلك خير من أخفاء المحتويات التفصيلية للدعوات إتقاء "للشقاق" بين المذاهب بينما الخلافات الفكرية قائمة فيما بينها، فعلا..
ولماذا يعتبر سيد قطب أن السؤال عن تفصيلات النظام الذي يدعو إليه إنما هي محاولة لإحراجهم؟! إن إنسان القرن العشرين، الذكي، المتفتح، الذي يسأل، ويستقصي، ويطلب الإقناع، وهو يتعرّض لتيارات فكرية عالمية ومحلية متابينة، عن طريق تطوّر وسائل التعليم والإتصال، إنما صار سؤاله عن تفاصيل الدعوات المطروحة عليه حقا طبيعيا ومشروعا له.. لا سيما أن الإذعان الأعمى لم يعد اليوم هو قصارى ما تطالب به الدعوات الدينيات وغير الدينيات.. ولماذا يعتبر سيد قطب أن مثل هذا السؤال "سخرية هازلة يجب أن يرتفع عليها كل ذي قلب يحس لهذا الدين بحرمة"؟؟! إن حرمة الدين الحقيقية إنما تستمد من مقدرته على حل قضايا الإنسان المعاصر، مقدمة في صورة تفصيلية مقنعة.. وليست حرمة الدين أمرا مبهما يقوم على "ترّفع" الدعاة عن أداء أوجب واجباتهم وهو التدليل على صلاحية الدين على حل مشاكل الحياة الماثلة!! فالداعية الإسلامي الجاد إنما يجب الاّ ينطلق من عقد نفسية تسوّل له أن يظن أن السؤال المشروع الذي يوجه اليه "سخرية هازلة" به..
والحقيقة إن الأخوان المسلمين، بسبب إنعدام المذهبية المتكاملة، إنما لا يملكون الإجابة على مثل هذا السؤال!! فهم عاجزون، تماما، عن استنباط الحلول العلمية المقنعة لمشكلات الحياة المعاصرة من الشريعة الإسلامية الموروثة.. وذلك لأن هذه المشكلات لا تجد حلها في هذه الشريعة، وإنما تجد حلّها في الشريعة الجديدة التي تقوم على أصول القرآن والسنّة النبوية التي لا يعرفون اليها السبيل.. أكثر من ذلك!! فقد اتخذ الأخوان المسلمون من العجز فضيلة فذهبوا ينسبون قصورهم إلى الإسلام!! يقول الأستاذ سيد قطب عن دعوتهم: ((إن قاعدة الدعوة أن قبول شرع الله وحده أيَّاً كان، هو ذاته الإسلام، وليس للإسلام مدلول سواه فمن رغب في الإسلام ابتداء فقد فصل في القضية، ولم يعد بحاجة إلى ترغيبه بجمال النظام وأفضليته .. فهذه إحدى بديهيات الإيمان..)) – "معالم في الطريق" ص 48.
هذه هي قاعدة دعوة الأخوان المسلمين كما يقدمها سيد قطب!! ولكن كيف يتم " قبول شرع الله وحده ورفض كل شرع غيره أيَّاً كان"؟؟ أليس واجب الداعية الإسلامي أن يبيّن فضيلة شرع الله على غيره من الشرائع حتى يتم قبوله؟! وكيف يرغب الفرد البشري المعاصر في الإسلام من غير أن يقدّم له في مستوى حل مشاكله الماثلة بتفصيل مقنع؟؟ أم كيف ينشأ "الإيمان" في نفس هذا الفرد من غير أن تبرز له أفضلية الإسلام على غيره من الفلسفات والأديان في صورة مذهبية متكاملة تواجه الواقع المعاصر بكل تعقيداته ومشاكله؟؟ والأخوان المسلمون إنما يرون أن الإذعان الأعمى هو مدلول الاسلام "الذي ليس للإسلام مدلول سواه".. فيحكمون، بذلك، على الدين بالقصور عن إقناع الإنسان المعاصر الذكي، الحائر، المتسائل.. ولذلك سيبقى السؤال الذي أشار اليه سيد قطب يواجه الأخوان المسلمين بإلحاح شديد: "أين تفصيلات النظام الذي تدعون اليه؟" وهو سؤال موضوعي، وطبيعي، وجاد، وليس "سخرية هازلة" ولن يغني في الرد عليه الهروب الذي يلبسونه ثوب المنطق!!