إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

هؤلاء هم الأخوان المسلمون
الجزء الأول

الفصل الثالث

أسلوب العنف عند الأخوان المسلمين



مرحلية الجهاد في الإسلام


لقد جاءت الدعوة الإسلامية في مكة تركز على الإقناع، وتمنع العنف، وتحترم الحرية، بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ.. يقول تعالى لنبيه الكريم: ((فذّكر!! إنما أنت مذّكر * لست عليهم بمسيطر)) إلى آخر هذه الآيات التي تنهي النبي الكريم، على ما عرف عنه من نزوع طبيعي إلى عدم السيطرة، عن السيطرة!! فلما أساء الناس التصرّف في هذه الحرية الواسعة التي كفلت لهم، برفضهم دعوة التوحيد، كما بيّنا في مقدمة هذا الكتاب، صودر من حريتهم القدر الذي لا يطيقون حسن التصرّف فيه.. فكانت هذه المصادرة بالنسبة للمشركين، وأهل الكتاب، عن طريق الجهاد.. وكذلك شرع الجهاد .. فالسبب في استعمال العنف قد كان بسبب سوء التصرّف في ممارسة الحرية المتمثّل في الكفر.. قال تعالى: ((وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله، فإن إنتهوا فلا عدوان الاّ على الظالمين)).. ونزلت آية السيف ناسخة لجميع آيات الإسماح والحرية: ((فإذا إنسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم، وأحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد، فإن تابوا، وأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، فخلّوا سبيلهم، إن الله غفور رحيم)).. وهذه في حق المشركين.. وقد نزلت في حق أهل الكتاب آية الجزية: ((قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون..)) و"صاغرون" معناها حقيرون ذليلون.. وهنا جاء الحديث الشريف: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا الاّ اله الاّ الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ويصوموا الشهر، ويحجوا البيت، فإذا فعلوا عصموا مني دماءهم، وأموالهم، الاّ بحقها.. وأمرهم الى الله..))، "وأمرهم الى الله" تعني أن الناس إنما لا يحملون على العقيدة المستكنّة في الصدور بالإكراه، وإنما يحملون بالإكراه على الإذعان لسلطان المسلمين..
والحكمة من وراء الجهاد في الإسلام إنما هي طرف من الحكمة من وراء العذاب – عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة.. قال تعالى في الأمر بالجهاد: ((قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم، وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين)).. وهي حكمة تعليمية.. فليس العذاب إلاّ تجربة أليمة ترد النفس إلى الجادة في مقبل حياتها الدنيا، أو الأخرى، وذلك بعد أن تكون قد خوطبت بسوء العاقبة فعجزت عن تخيلها.. قال تعالى، في حكمة العذاب التعليمية: ((ما يفعل الله بعذابكم، إن شكرتم، وآمنتم؟؟ وكان الله شاكرا عليما..)).. ولقد كانت الأمم المكذّبة برسلها إنما تعذّب بالعناصر الطبيعية كالطوفان، والريح، والصواعق، حيث يلاقي سائر أفرادها المكذبين الهلاك الذريع، ذلك بأن تلك الأمم قد كانت من الغلظة، والفظاظة، بحيث لا يفضي تعذيبها إلى الحكمة منه الاّ بتلك الصورة الغليظة، الفظّة.. ثم لمّا صار الناس إلى اللطافة ورهافة الحس هونا ما، فصاروا يرتدعون بأقل من التعذيب بالعناصر الطبيعية المهلكة، شرع الجهاد بالسيف، عند البعث الإسلامي الأول، فجعل تعذيب المكذبين بأيدي المؤمنين .. ولقد جاء في ذلك قوله تعالى: "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم، وينصركم عليهم، ويشف صدور قوم مؤمنين.." .. تأمل!! يعذبهم الله "بأيديكم" هذه كرامة تحصل لأول مرة فيستبدل الله، في تعذيب المكذبين، أيدي المؤمنين، بدلا من العناصر الطبيعية، الصماء، التي تجتاح إجتياحا، وتعمّم تعميما.. وهذه في حد ذاتها لطف ورحمة!! السبب الذي استحقوا به هذا اللطف هو، إلى جانب الفضل الإلهي، لطافة طبعهم نسبيا، ويقظة عقولهم.. ولقد قال تعالى في ذلك: ((وَإِذْ قَالُوا اللَّـهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ‌ عَلَيْنَا حِجَارَ‌ةً مِّنَ السَّمَاءِ، أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَا كَانَ اللَّـهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ، وَمَا كَانَ اللَّـهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُ‌ونَ..)).. تأمل!! "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم" وهذا محض الفضل، وفيه إشارة لطيفة إلى يقظة عقولهم مما أوجب التخفيف عليهم، وتحويل تعذيبهم من العناصر إلى أيدي إخوانهم المؤمنين.. ثم تجيء الإشارة الصريحة إلى ذلك في قوله تعالى: ((وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون!!))
وفي خط التحوّل من العذاب بالعناصر الصماء إلى العذاب بسيوف ورماح المؤمنين يجيء قوله تعالى من آية شاملة وواضحة: ((قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم، أو من تحت أرجلكم، أو يلبسكم شيعا، ويذيق بعضكم بأس بعض.. أنظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون!!)).. هذه علّة العذاب!! "لعلهم يفقهون"..
وكما كان التعذيب ببأس الطبيعة مرحلة منصرمة في تاريخ الدعوات الدينية فإن للتعذيب ببأس الحرب (الجهاد) نفس المرحلية التي اقتضتها الظروف التاريخية المحيطة بتطوّر الفرد البشري من الغلظة إلى اللطف.. والحكمة من وراء الجهاد بالسيف حكمة تعليمية كما أسلفنا فالمكذّب، يومئذ، قد احتاج تجربة الحرب والموت، أو الخضوع لوصاية المؤمنين عن طريق السيف، وهو القاصر الذي لا يعرف مصلحته الحقيقة.. وكذلك شرّع القتال في الإسلام تلطفا بالمدعوين من تبعة باهظة لا يقوون عليها، وهم قصّر، وهي حسن التصرّف في الحرية .. كما شرّع في وقت كانت فيه الحرب لا تزال لها المقدرة على حل كثير من المشاكل.. والحرب – الجهاد بالسيف – لا يمكن أن تكون أصلا من أصول الإسلام، وإنما أصل الإسلام السلام .. ولذلك فقد كان النبي الكريم يقول رجعنا من الجهاد الأصغر – الحرب – إلى الجهاد الأكبر – مجاهدة النفس بالرياضات والعبادات..

سقوط أسباب الجهاد اليوم!!


وسبب لجوء الاسلام إلى السيف إنما يجيء من جهتين:
أولاهما المقاومة التي لقيها من أصحاب النفوذ، وممن وقعوا تحت تضليلهم، او تحت إرهابهم، من المستضعفين، وأخراهما إستحالة الإقناع في وقت لم تكن العقول فيه مستنيرة بانتشار التعليم، ولا القلوب فيه سليمة بتوّفر أسباب الأمن.. فالناس لذلك قد كانوا في طور قصور يحتاجون فيه الى وصي رشيد يحملهم على مصلحتهم بالإكراه.. وأما اليوم!! فإن البشرية، في جملة أفرادها، قد قطعت مرحلة كبيرة نحو النضج والأستواء، بسبب انتشار وسائل التعليم، ووسائل الإتصال، وتوّفر أسباب الأمن، وبروز كثير من مظاهر حكم القانون، وذلك بحيث صار أفرادها قادرين على رؤية الحق، وعلى التمييز الدقيق بينه وبين الباطل.. وصارت قوة الحق كافية لإحداث التغيير إلى الأحسن من غير حاجة إلى ممارسة العنف، لا سيما وقد خرج الأفراد من كثير من صور الإستضعاف، والتضليل، والإرهاب التي وقع فيها أسلافهم على يدي أصحاب النفوذ، وذلك إلى حيث صاروا أكثر إدراكا لمصلحتهم الحقيقية، وأكثر إستعدادا للتجاوب مع دعوة الحق..
هذه التحولات الكبيرة تلقى على الدعاة الإسلاميين واجبات جديدة، تمام الجدّة!! وهي أن يقدموا الدعوة في صورة مقنعة ومؤثرة.. وذلك بان يطبقوا ما يدعون إليه على أنفسهم قبل مباشرتهم هذه الدعوة حتى تكون دعوتهم بلسان الحال، وهو الأخلاق، سابقة للسان المقال، وذلك توّرعا من نذير هذه الآية: ((يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لاتفعلون؟؟ * كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون!!)).. ولذلك فقد آن الأوان أن يرتفع أسلوب الدعوة الإسلامية من الجهاد للآخرين بالسيف، الذي اقتضاه حكم الوقت الماضي، إلى مستوى جهاد النفس.. وهذا ما سماه النبي بالجهاد الأكبر، وبفضل هذا الجهاد نرتفع الى مستوى الإقناع، والإسماح، والسلام، الذي تقوم عليه آيات أصول القرآن..

مفهوم الجهاد عند الأخوان المسلمين


وفي هذا الوقت الذي تهيأت فيه البشرية للتبشير بالإسلام في مستواه العلمي القائم على الإقناع، والإسماح، والسلام، حيث اتجه الرأي العالمي إلى نبذ العنف، ولم تعد الحرب لتحل مشكلة من المشاكل، يجيء تنظيم الأخوان المسلمين ليدعو المسلمين إلى الجهاد!! فها هو الشيخ حسن البنا، مؤسس الدعوة، يفرد رسالة خاصة بالجهاد، أسماها "رسالة الجهاد" أورد فيها العديد من النصوص التي تحّض على الجهاد، داعيا إلى إتخاذه أساسا لأسلوب الدعوة الإسلامية اليوم، وقد وجه في خاتمة هذه الرسالة هذه الدعوة إلى الأخوان المسلمين:
((أيها الأخوان إن الأمة التي تحسن صناعة الموت وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة يهب لها الله الحياة العزيزة في الدنيا، والنعيم الخالد في الآخرة، وما الوهن الذي أذلنا الاّ حب الدنيا، وكراهية الموت، فأعدوا أنفسكم لعمل عظيم واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة)) صفحة 6 – مجموعة رسائل حسن البنا.
والشيخ البنا كثير الحديث عن "صناعة الموت" فقد كتب عام 1934 (مقالا عن الجهاد أسماه "صناعة الموت"، وفي أوج نشاط الجهاز السرّي وقوته أعاد البنا نشر نفس المقال بعد أن غيّر العنوان ليصبح أكثر غرابة "فن الموت") ص 132 من كتاب "حسن البنا متى.. وكيف.. ولماذا؟" للدكتور رفعت السعيد – أخذا عن جريدة "الأخوان المسلمون" عدد 16/8/1946..
هكذا يدعو الشيخ حسن البنا إلى إتقان "صناعة الموت" او "فن الموت" في هذا العصر الذي يوجب علينا الإسلام أن نتعلّم "فن السلام"، وأن نعلّمه البشرية التي قضت تاريخها كله محاربة حتى لم تعد الحرب لتحل مشكلة واحدة من مشاكلها، وحتى صارت حاجتها إلى السلام هي حاجة حياة أو موت..
لقد لبّست على الدعاة الأسلاميين، كالشيخ حسن البنا، أمر الجهاد تلك النصوص الصريحة المستفيضة في القرآن، والحديث الشريف التي تحض عليه.. فخفيت عليهم حكمته، واتسامه بسمة الموقوتية.. وفي أصل الدين، الذي لم تكن الظروف التاريخية، يومئذ، ملائمة للتشريع في مستواه، كما أسلفنا، فإن الحياة في سبيل الله أولى بالإنسان من الموت في سبيل الله.. الحياة في سبيل الله تقتضي مجاهدة النفس، التي أسماها النبي الكريم الجهاد الأكبر، في مقابل جهاد الأعداء الخارجيين – الجهاد الأصغر – ذلك بأن أعدى الأعداء، بالنسبة لكل منّا، إنما هو نفسه.. قال النبي الكريم ((إن أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك)) حتى لقد ذهب بعض العارفين يؤّل قوله تعالى: ((يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة، وأعلموا أن الله مع المتقين..)) بأن من يلوننا من الكفار، وهم أقربهم إلينا، إنما هم نفوسنا.. فالكفار في خارجنا إنما هم آيات آفاق، ويقابلهم الكفار في داخلنا – وهم نفوسنا .. ((سنريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق!! أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد؟؟))
هذا، والحياة في سبيل الله أصعب، وبما لا يقاس، من الموت في سبيل الله، ذلك بأن الحياة في سبيل الله تقتضي التطوّر، في مضمار النفس، من النفس الحيوانية إلى النفس الإنسانية.. بترويض النفس، واستئناسها، وكبح جماح أهوائها، ومراغمة بدواتها.. وهو عمل تربوي جد عسير، وجد طويل.. فدعوة الشيخ حسن البنا إلى إتقان "صناعة الموت" إنما هي تنّكب عن أصل الدين، في وقت إستبعد فيه الفرد البشري، والمجتمع البشري، لأن يشرّع له في مستوى هذا الأصل الذي لم ينّزل عنه التشريع، إلى الفرع، في الماضي، الاّ بسبب حكم الوقت.. فالدعوة إلى الحرص على الموت، كما جاء على لسان الشيخ حسن البنا: ((وأحرصوا على الموت توهب لكم الحياة))، في هذا العصر، إنما هي دعوة إلى النصول عن الواجب الديني المباشر، وهو تسليك النفس، وفق المنهاج النبوي في العبادة، وفي العادة، وما تقتضيه من مجاهدة جادة، وطويلة.. ويلبّس هذا النصول عن هذا الواجب بطلب الإستشهاد!! مع أن طلب الإستشهاد، مع غياب حكم الوقت الذي يقتضيه، إنما هو استجابة لحظ من حظوظ النفس، وهو من أهوائها، هو اصطناع البطولة، وتصيّد السمعة..
ومع أن مفهوم الجهاد، عند الأخوان المسلمين، مستمد، أساسا من مؤسس الدعوة الشيخ حسن البنا، الاّ إن كتابات الأستاذ سيد قطب هي التي بلورت هذا المفهوم، وركزت عليه، أشد التركيز.. قال في كتابه "معالم في الطريق": "إن الجهاد ضرورة للدعوة إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلانا جادا يواجه الواقع العملي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه، ولا يكتفي بالبيان الفلسفي النظري!! سواء كان الوطن، الإسلامي – وبالتعبير الإسلامي الصحيح: دار الإسلام – آمنا أم مهددا من جيرانه"!!
هذا ما قاله الأستاذ سيد قطب.. وهي قولة تحتاج إلى قدر كبير من المراجعة.. فتحرير الإنسان في هذا العصر، لا يتم عن طريق الجهاد، وإنما يتم عن طريق تقديم الإسلام كعلم نفس، يحرّر الإنسان من الجهل بحقيقة الوجود، ومن الخوف الموروث، والمكتسب، نتيحة لذلك الجهل.. أكثر من ذلك!! فإن الجهاد كأسلوب للدعوة الإسلامية، في هذا العصر، إنما هو معوّق، أشد التعويق، لتحرير الأنسان – الذي أخذ يشب عن طوق الوصاية في شتى صورها.. وما هو "الواقع العملي" الذي يعنيه الأستاذ سيد قطب، وهو يتحدّث عن الجهاد كأسلوب للدعوة، "يواجه الواقع العملي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه"؟؟ أليس هو الواقع العملي للحياة المعاصرة الذي لم تعد فيه الحرب بقادرة على حل المشاكل، وأصبح قصاراها أن تسوق المتحاربين إلى تربيزة المفاوضات لحل مشاكلهم بالتفاوض؟؟ أليس هو الواقع العملي للحياة المعاصرة الذي تطوّرت فيه أسلحة الحرب تطوّرا جعل الجهاد "عمليا" غير ممكن، إلى جانب أنه دينيا غير مطلوب؟!
وسيد قطب، وهو يرى أن الجهاد ضرورة لا تنفك للدعوة لتحرير الإنسان، في هذا العصر، إنما يلتقي تماما، ومن غير وعي منه، مع الماركسيين، الذين يرون أن العنف، والقوة، شرطان ضروريان لإحداث أي تغيير إجتماعي أساسي!! هو يلتقي بهم هذا الإلتقاء في أمر العنف وذلك بعد أن خلّفت البشرية عهد التغيير بالعنف، وأخذت تستقبل عهد التغيير الفكري.. أو "الثورة الفكرية".. والأستاذ سيد قطب إذ يرى أن الجهاد "ضرورة" للدعوة الإسلامية، لا ينفك عنها، على الإطلاق، كأنه يرى أن ليست ثمة صورة يقدم فيها الإسلام إلى البشرية المعاصرة سوى صورة الوصاية.. وها هو الشيخ البنا يقرّر ذلك بصورة مباشرة فيقول، بعد أن أورد نصا من نصوص الجهاد: ((ومعنى هذا أن القرآن الكريم يقيم المسلمين أوصياء على البشرية القاصرة، ويعطيهم حق الهيمنة والسيادة على الدنيا لخدمة هذه الوصاية النبيلة.. وإذن فذلك شأننا لا من شأن الغرب ولمدنية السلام لا لمدنية المادة)) – مجموعة رسائل حسن البنا – ص 127 – هذا ما قاله الشيخ حسن البنّا، وهو لا يرى للدعوة الإسلامية من صورة، الاّ صورة الوصاية .. أكثر من ذلك!! فإنه يرى أن المسلمين أولى بأن يكونوا أوصياء على البشرية المعاصرة من الغرب!! مفترضا أن هذه البشرية قاصرة!! مفترضا أنها ستذعن لوصاية المسلمين، بعد أن تتحرّر من وصاية الغرب!! فهل يمكن أن يقبل الإنسان المعاصر، بذكائه، وتفتحه، على دعوة تعلن هذا الرأي الغريب عنه؟؟
ثم يتحدّث الشيخ البنا عن "مدنية الإسلام" و"مدنية المادة"، وهو يخلط بين المدنية والحضارة خلطا واضحا.. فإن ما عليه الغرب اليوم من تقدّم مادي إنما هو حضارة وليس مدنية.. فالحضارة هي هذا الإرتفاق بوسائل الحياة الحديثة التي أنتجها العلم الحديث، والتكنلوجيا، بينما المدنية هي الإلتزام الأخلاقي الذي ينم عن حرية الفرد الداخلية.. ولذلك فإن عبارة الشيخ البنا "مدنية المادة" عبارة تحتاج إلى قدر كبير من المراجعة..
ومفهوم الجهاد عند الأخوان المسلمين لا يقف عند حد الحرب لنشر الدعوة الاسلامية، وإنما هو عبارة عن عملية تحطيم شاملة!! فقد قال الأستاذ سيد قطب: ((وكما أسلفنا فإن الإنطلاق بالمذهب الإلهي تقوم في وجهه عقبات مادية من سلطة الدولة، ونظام المجتمع، وأوضاع البيئة، وهذه كلها هي التي ينطلق الإسلام لتحطيمها بالقوة!!))
وأعمال العنف التي يسميها الأخوان المسلمون جهادا في سبيل الله، ويسمون الموت فيها استشهادا، إنما هي موجهة أساسا للمسلمين!! هذا في حين أن الأمر للنبي الكريم بالقتال إنما هو يعصم دماء، وأموال، الناس إذا ما شهدوا الشهادة، وأقاموا أركان الإسلام الأخرى.. حتى ولو كانوا بذلك منافقين!! كما قرّر الإسلام، بصورة لا لبس فيها ولا غموض، أنه: ((كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه، وأن يظن به ظن السوء!!)) وقد نهى النبي الكريم، نهيا قاطعا، عن قتال أي فرد يشهد الشهادة، حتى ولو كان إنما يشهدها تقية منه للقتل!! رويّ أن أحد الأصحاب قال: ((يا رسول الله أرأيت لو أن مشركا قاتلني، فضرب يدي، فقطعها، ثم لاذ بشجرة، وقال: "أشهد الاّ إله الاّ الله، وأشهد أن محمدا رسول الله.." أأقتله؟؟ قال: لا!! قال: ولكنه إنما قالها ليحمي نفسه مني!! فقال: لا تقتله!! فإنك إن تقتله تكن في مكانه قبل أن يقولها، ويكن في مكانك قبل أن تقتله!!)) .. وقال النبي الكريم: ((إنه يستعمل عليكم أمراء، فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد بريء، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع!! قالوا: يا رسول الله الا نقاتلهم؟؟ قال: لا!! ما أقاموا فيكم الصلاة!!)) ومن هنا تبرز مفارقة الأخوان المسلمين التامة لأحكام الجهاد.. فالجهاد إنما كان موجها أساسا لغير المسلمين، ثم إنه كان لا يقوم على الغدر، وأسلوب الإغتيال الذي يمارس الأخوان المسلمون اليوم.. وسنرى في الباب الثاني من هذا الكتاب: ((الأخوان المسلمون في مجال الممارسة)) كيف يمارس الأخوان المسلمون أسلوب الإغتيالات الفردية للمسلمين، وكيف اشتركوا في تخطيط، وتنفيذ الغزو الأجنبي، والمؤامرات الدموية التي راح ضحيتها عشرات المسلمين!!

الأساليب التي تغذّي روح العنف عند الأخوان المسلمين


وهكذا يلتقي الأخوان المسلمون، من حيث لا يشعرون، في ضرورة أسلوب العنف لإحداث أي تغيير أساسي في المجتمع، مع الماركسية التي يعادونها بغير وعي.. وقد ظلّ العنف هو السمة الملازمة لسلوك الأخوان المسلمين، كتنظيم، وكأفراد، منذ أن نشأت حركتهم في مصر، في حوالي عام 1928.. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب، منها ضعف التوحيد عند أساتذتهم، مما جعل دعوتهم تقوم على فهم خاطيء للجهاد، كما رأينا، ومنها غياب المذهبية الفكرية المحددة، ومنها إغفال أساليب التربية، والتسليك الديني، والإستعاضة عن كل أولئك بالحماس العقيدي..
ثم أن هناك عدة روافد غذّت هذا الإتجاه إلى العنف عند الأخوان المسلمين.. منها، مثلا، أن أغلبية الذين ينتمون إلى تنظيمهم من الطلاب، ومن الشباب، ممن يعيشون في مرحلة المراهقة، أو ممن يتأثرون بآثارها، وهم، بذلك، إنما يميلون إلى الإندفاع، والحماس، ويملكون من الطاقات الجسدية، والعاطفية، ما لاتجد، عند تنظيم الأخوان المسلمين، المنهاج التربوي الذي يستوعبها، ويهذبها، ويحد من إندفاعاتها.. بل، على العكس من ذلك تماما، فهي لا تجد عند هذا التنظيم الاّ الإثارة التي تغذيها، وتلهبها، وتبرّر إتجاهها إلى الحماس الطائش!! أضف إلى ذلك الملابسات التاريخية التي نمّت عند هذا التنظيم روح العنف، ولبسته عليه بمفهوم الجهاد في البعث الإسلامي الأول.. تلك الملابسات التي صحبت نشأة هذا التنظيم في مصر من المشاركة في بعض الأعمال العسكرية في حرب فلسطين، وحرب السويس.. ومن الصراع العنيف الذي دار بينهم وبين الحكومات المختلفة في مصر، وما تعرضوا له من إضطهاد وتصفية، وما قاموا به من محاولات للوصول إلى السلطة عن طريق القوة، ومن محاولات لإرهاب، أو أغتيال، خصومهم السياسيين.. ومن العوامل التي تغذى اتجاهات العنف عند الأخوان المسلمين أساليب التعبير.. فهي أقرب إلى الأحاديث الإنشائية الأدبية منها الى التعبير العلمي الذي تصحبه الضوابط الفكرية.. فهم شديدو الإهتمام بالخطابة، وبالشعر الحماسي، مما يحد من الفكر الموضوعي، ويذّكي الإندفاعات، والإنفعالات العاطفية.. كما ظلّ الأخوان المسلمون، دائما، شديدي الإهتمام بضروب التدريبات العسكرية والرياضة البدنية، التي تعدّهم لأعمال العنف.. وهم إنما يتخذون من أشكال التنظيم ما يتمشى مع روح العسكرية، عندهم، فيقسمون أنفسهم إلى وحدات، مثل: "الأسرة" و"الكتيبة" .. بل أن لهم فرقا عسكرية بحتة مثل: "فرق الجوّالة"، و"الكتائب"، ولهم تنظيمات فدائية معدّة بالسلاح، وبالتدريب على استعماله، كما أن لهم تنظيما سريا كان يسمى عندهم في مصر "بالنظام الخاص" حيث كانوا يتخذون من الأناشيد الحماسية ما يغذي فيهم روح العنف، مثل هذه الأبيات من نشيد "الكتائب" – كما جاء في مجموعة رسائل حسن البنا:
هو الحق يحشد أجناده ويعتد للموقف الفاصل
فصفوا "الكتائب" آساده ودكوا به دولة الباطل
تآخت على الله أرواحنا إخاء يروع بناء الزمن
وباتت فدى الحق آجالنا بتوجيه "مرشدنا" المؤتمن
أخا الكفر إما اتبعت الهداة فأصبحت فينا الأخ المقتدى
وإما جهلت فنحن الكماة نقاضي الى الروع من هددا
إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ولن تنجدا!!

والأخوان المسلمون يعتبرون أنفسهم "جنودا" للدعوة، ويسمون دعوتهم غيرهم للإنضمام إليهم "تجنيدا".. وهكذا فإن مفهوم الدعوة العقيدي البحت، وأشكال التنظيم فيها، والظروف التاريخية التي مرت بها، وأسلوب التعبير، والإصطلاح، إنما هي، جميعا، تغذّي ذلك الإتجاه الى العنف، والإرهاب، وتنميه.. كما يربط الأخوان المسلمون إتجاه العنف عندهم بتصوّر خاطيء للبطولة، مما يزيد إغراء المراهقين بهذا الإتجاه.. وحسب "البيعة"، وهي قسم الولاء الذي يؤديه الأخوان المسلمون، يصبح الجهاد في سبيل الله هو الجهاد في سبيل دعوتهم!! وقد أورد الدكتور رفعت السعيد، نص البيعة، كما يلي: ((أعاهد الله العلي العظيم على التمسّك بدعوة الأخوان المسلمين والجهاد في سبيلها والقيام بشرائط عضويتها والثقة التامة بقيادتها، والسمع والطاعة في المنشط والمكره، وأقسم بالله العظيم على ذلك، وأبايع عليه.. والله على ما أقول وكيل)) ص 52 من كتاب ((حسن البنا متى.. كيف.. ولماذا؟)).. ويزيد من خطر هذه البيعة أنها – كما هو واضح من نصها – إنما هي بيعة بالولاء لتنظيم الأخوان المسلمين، وليس للإسلام.. وهي بيعة غير مشروطة!! فهي لا تنص صراحة على اشتراط الا تحيد دعوة الأخوان المسلمين عن مباديء الإسلام، وذلك مما يجعل المبايع ملتزما بحرفية هذه البيعة، وإن حادت الدعوة عن مباديء الإسلام، ومما يجعله مطيعا لقائده وإن كانت أوامر، وتوجيهات هذا القائد مفارقة للدين.. وهذا ما حدث بالفعل كما سنرى في هذا الكتاب...
هذا مع أن البيعة في العهد الأول إنما كانت تقوم على الطاعة في المعروف، وليست على الطاعة المطلقة: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِ‌كْنَ بِاللَّـهِ شَيْئًا، وَلَا يَسْرِ‌قْنَ، وَلَا يَزْنِينَ، وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ، وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِ‌ينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْ‌جُلِهِنَّ، وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُ‌وفٍ، فَبَايِعْهُنَّ، وَاسْتَغْفِرْ‌ لَهُنَّ اللَّـهَ، إِنَّ اللَّـهَ غَفُورٌ‌ رَّ‌حِيمٌ)).. تأمل!! ((ولا يعصينك في معروف!!)) هذا حديث يساق للنبي نفسه!! ولقد سار على هذه البيعة أبوبكر حينما ولي أمر المسلمين، فقال: ((لقد ولّيت عليكم، ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني!! أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم))!!
هذه هي شروط البيعة في الإسلام.. إلتزام من جانبي البيعة على طاعة الله..

وشعار مجلة "الدعوة" التي تصدر الآن، بمصر، إنما يعبّر، تماما، عن روح العنف التي يقوم عليها تنظيم الأخوان المسلمين، ويغذيها، وينميها بين أعضائه، فهو عبارة عن صورة "حمراء" للمصحف فوق سيفين مشرعين، تحتها عبارة "وأعدوا" وهي مأخوذة من آية من آيات الجهاد هي ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)).. وهو استخدام خاطيء للآية الكريمة.. إذ هو استغلال للجهاد، بعد إنصرام حكم وقته، في الأغراض السياسية.. بينما نزلت الآية تحض على الإعداد للجهاد حينما كان للجهاد حكم الوقت، وحيث استخدم أحسن الإستخدام في سبيل نشر الإسلام..