إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

هؤلاء هم الأخوان المسلمون
الجزء الأول

الفصل الرابع

الأخوان المسلمون والديمقراطية


ليس في الشريعة ديمقراطية!!


ليس في الشريعة الإسلامية، الموروثة، ديمقراطية، لأن البشرية في القرن السابع الميلادي لم تكن مستعدة للحكم الديمقراطي، وإنما كان الحكم الإسلامي، يومئذ، هو حكم الشورى، وهو حكم الفرد الرشيد الوصي على قوم قصّر، والذي قد أمرّ أن يستشيرهم ليشعرهم بكرامتهم الإنسانية، وليعطيهم فرصة في مباشرة شئونهم حتى يتعلموا، تحت توجيهه، كيف يحسنون التصرّف فيها، وليتأهلوا لمرحلة الحكم الديمقراطي، حينما يخرجون من القصور الى الرشد!! والشورى ليست ديمقراطية، لأن الوصي ليس ملزما بإتباع رأي القاصر، إذا رأى رأيا يخالفه.. فالشورى مشاورة تملك حق المخالفة، وما هكذا الديمقراطية، فإن الحكم الديمقراطي يقتضي الإلتزام برأي الأغلبية.. وآية الشورى هي: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ، وَلَوْ كُنتَ فَظّاً، غَلِيظَ الْقَلْبِ، لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ، فَاعْفُ عَنْهُمْ، وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر،ِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ، إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ..)) – وقد نزلت آية الشورى هذه ناسخة لآيتي الديمقراطية حينما أديل مستوى التنزيل من المسئولية على الوصاية.. وآيتا الديمقراطية هما: ((فذّكر!! إنما أنت مذّكر* لست عليهم بمسيطر!!)) .. أما اليوم، وقد تهيأت البشرية للحكم الديمقراطي، فقد أنّى أن يتطوّر التشريع من مستوى الشورى إلى مستوى الديمقراطية، بعد أن خدم حكم الشورى غرضه – خدمه حتى استنفده – ولقد كان أمثل أنظمة الحكم في عهده ..
إن جوهر الديمقراطية لهو المسئولية الفردية في ممارسة حق الخطأ.. ولقد كان النبي الكريم، وحده، في الماضي، هو المسئول مسئولية فردية، فيما يأتي، وما يدع، أمام الله تعالى، بينما كان سائر الناس على درجة من القصور إستوجبت وصاية النبي الكريم عليهم.. ولذلك فليس في الشريعة، (مستوى عمل الأمة)، ديمقراطية، وإنما تلتمس الديمقراطية في السنّة (مستوى عمل النبي..)..

الأخوان المسلمون يدعون إلى حكم الوصاية في عهد الديمقراطية


يقول الأستاذ سيد قطب ((كذلك لم أستسغ حديث من يتحدثون عن "إشتراكية الإسلام" و"ديمقراطية الإسلام"..)) "العدالة الإجتماعية في الإسلام – صفحة 97"..
فسيد قطب، بذلك، إنما يرفض أن يكون الإسلام إشتراكيا، وديمقراطيا!! في هذا العصر الذي أصبحت فيه الإشتراكية، والديمقراطية جماع تطلعات الشعوب، وجماع حاجاتها.. حتى صارت سائر الفلسفات، وسائر الأنظمة في العالم اليوم إنما تدّعيها، حتى ولو كان بعضها لا يعنيهما، وقد عجزت جميعها عن تحقيقهما.. وبذلك يجرد الأخوان المسلمون الإسلام من أخص خصائصه التي ترشحه لحل أزمة "التنظيم الإجتماعي" التي تواجهها البشرية المعاصرة وهو العجز عن الجمع بين الإشتراكية والديمقراطية في جهاز حكومي واحد – وذلك حيث عجزت عن ذلك الفلسفات الإجتماعيات، جميعا.. فكأن سيد قطب حينما لم "يستسغ" أن يكون الإسلام ديمقراطيا وإشتراكيا، أراد أن ينزّه الإسلام عن نقص يلحقه به بعض المسلمين!! ولعل في ذهنه تلك الصورة الشائهة للديمقراطية، والإشتراكية، التي أخذها عن التطبيق الخاطيء لهما في عالم اليوم.. فدفعته هذه الصورة الشائهة لرفض الديمقراطية والإشتراكية في جوهرهما!! وليست الإشتراكية هي الماركسية.. وإنما الماركسية مدرسة من المدارس الإشتراكية، سيئآتها أكبر من حسناتها.. وإنما يأتي الإسلام ليصحّح تلك الممارسات، وليحقّق الديمقراطية الصحيحة، والإشتراكية الصحيحة.. فإن الإسلام، في أصوله، إنما هو أولى بهما من غيره، فما ينبغي أن ننسب اليهما تزييف المزيفين لنجرّد الإسلام منهما، وهما من أكبر فضائله..
ولا يرى سيد قطب الاّ أن تقوم سياسة الحكم في الإسلام على أساس: ((العدل من الحكام، والطاعة من المحكومين، والشورى بين الحاكم والمحكوم)) صفحة 101 المصدر السابق – فهو لا يرى نظاما للحكم في الإسلام سوى الشورى.. وهو نظام الوصاية الذي إقتضاه حكم الوقت المتمّثل في قصور الناس في الماضي.. فليس هناك اليوم، رجل هو من الكمال بحيث يؤتمن على حريات الآخرين فيقام عليهم وصيا، وإنما صار ثمن الحرية الفردية هو دوام سهر كل فرد عليها، وإرتفاعه إلى مستوى حسن التصرّف فيها.. وذلك إنما هو مراد الدين بالأصالة حيث نهى الله تعالى نبيه، وهو على ما هو عليه من كمال الأخلاق، والترفع عن السيطرة على الآخرين – نهاه بقوله: ((فذّكر!! إنما أنت مذكّر* لست عليهم بمسيطر))!! وكذلك يرى الشيخ حسن البنا صلاحية نظام الشورى لهذا العصر فيقول بالنسبة للحاكم والأمة: ((وعليه أن يشاورها وأن يحترم إرادتها، وأن يأخذ الصالح من آرائها))!! – مجموعة رسائل حسن البنا صفحة 361 – فهي دعوة للوصاية في غير وقتها، ذلك بأن الشعوب قد تهيأت لها أسباب الإستنارة، وأسباب الأمن، بدرجة أبرزت شخصيتها ونضجها مما يتقاضى الحاكم "ان يحترم إرادتها" المتمثلة في إرادة أغلبية مجموعها، وأن يأخذ برأي الأغلبية.. فلا يعطي نفسه الحق في تقدير ما هو صالح من آرائها، وما هو طالح، للأخذ بالأول وإطّراح الثاني.. وإنما تريد الشعوب، اليوم، أن ترى إرادتها نافذة، وأن يكون الحكام تجسيدا لهذه الإرادة، وتنفيذا لها .. وهذا، كما أسلفنا، مراد الدين بهذه الشعوب بالأصالة..
فالأخوان المسلمون، بذلك، إنما لا يرون مرحلية الوصاية في حكم (الشورى) التي استوجبها حكم الوقت في الماضي – حكم الوقت المتمّثل في قصور الناس عن ممارسة حقوقهم الديمقراطية في المسئولية الفردية، والحرية الفردية.. ولذلك يتحدّث الشيخ البنا عن (الشورى) كصورة واحدة لنظام الحكم، في الإسلام، في كل العصور..
قال العشماوي، عضو مكتب الإرشاد لجماعة الأخوان المسلمين: ((عند أوّل عهدي بعضوية مكتب الإرشاد ثار البحث: هل الشورى في الإسلام ملزمة أم غير ملزمة؟؟ أي هل يتقيّد فضيلة المرشد العام برأي مكتب الإرشاد أو يخالفه إذا شاء؟؟ وكان رأي الإمام الشهيد أن الشورى ليست ملزمة، وللمرشد ان يأخذ برأي المكتب، ويجوز له أن يخالفه)) – كتاب "حسن البنا .. متى .. كيف.. ولماذا؟" للدكتور رفعت السعيد – ص 51 – نقلا عن مجلة الدعوة عدد 12/2/1952.
صحيح أن المرشد الديني، صاحب الدعوة الدينية، الذي يدعو الناس الى الدين، فيلتف حوله الأتباع، إنما هو، في أي زمان، وفي أي مكان، في وضع الوصي الرشيد على أتباعه.. ذلك بأنه مصدر التلقي، والفتوى، في أمر ترشيدهم، وتسليكهم، فلا يعقل أن يكون ملزما بالأخذ برأي تلاميذه، وإطرّاح رأيه، في مسألة تتعلّق بهذا الترشيد والتسليك.. ولما كان هذا الوقت هو وقت الحكم الديمقراطي، وليس هو وقت الشورى في الحكم، فإن دأب المرشد الديني، اليوم، هو أن يبلغ أتباعه، عن طريق الترشيد، والتسليك، والتربية، مبلغ النضج، والرشد، الذي يؤهلهم لممارسة حقوقهم الديمقراطية في الحكم كاملة، فيرفع عنهم جميع صور الوصاية المرحلية عليهم.. حتى أنه ليخرج نفسه تماما من بينهم وبين ممارسة الحكم الديمقراطي الكامل كلما وسعهم ذلك.. غير أن الأخوان المسلمين لا يرون هذه المرحلية للوصاية، وإنما هم يسحبونها على نظام الحكم، في هذا الوقت، الذي إستأهلت فيه الشعوب نظام الحكم الديمقراطي.. ومن ثم يتوّرط الأخوان المسلمون في التخليط بين الوصاية في أمر الإرشاد الديني، والوصاية في أمر الحكم.. كما يتّضح من أقوال الشيخ البنا..
أكثر من ذلك!! فإنهم إنما يتورطون في التخليط بين أحكام الشريعة الإسلامية والأنظمة الحديثة للحكم، من غير أن يقدموا فكرة محددة لسياسة الحكم.. قال الشيخ البنا: ((بهذا الإعتبار يمكن أيضا أن نقول في إطمئنان ان القواعد الأساسية التي قام عليها الدستور المصري لا تتنافى مع قواعد الإسلام، وليست بعيدة عن الإسلام، ولا غريبة عنه)) مجموعة رسائل حسن البنا صفحة 366. هذا ما قاله الشيخ البنا وهو يحاول التوفيق بين أحكام الشريعة الإسلامية و" القواعد الأساسية التي قام عليها الدستور المصري" وهو يعني، هنا، دستور عام 1923.
أما بالنسبة للقواعد الأساسية لذلك الدستور، ونحن نفترض هنا أن الشيخ البنا يعني بالقواعد الأساسية الحقوق الأساسية التي نصّ عليها ذلك الدستور، فقد جاء في المادة الثالثة منه: ((المصريون لدى القانون سواء، وهم متساوون في التمتّع بالحقوق المدنية والسياسية وفيما عليهم من الواجبات والتكاليف العامة لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الأصل أو اللغة أو الدين)).. ونصت المادة 12 من ذلك الدستور على: ((حرية الإعتقاد مطلقة)) .. ونصت المادة 13 على: ((تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقا للعادات المرعية في الديار المصرية على الاّ يخل ذلك بالنظام العام ولا ينافي الآداب)).. وتنص المادة 14: ((حرية الرأي مكفولة، ولكل إنسان الإعراب عن فكره بالقول أو الكتابة أو بالتصوير أو بغير ذلك في حدود القانون)).. وتنص المادة 15: ((الصحافة حرة في حدود القانون، والرقابة على الصحف محظورة وإنذار الصحف أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإداري محظور كذلك إلا إذا كان ذلك ضروريا لوقاية النظام الاجتماعي))..
وتنص المادة 20: ((للمصريين حق الاجتماع في هدوء وسكينة غير حاملين سلاحا..)).. وتنص المادة 21: ((للمصريين حق تكوين الجمعيات، وكيفية استعمال هذا الحق يبينها القانون))..
إذا كان الشيخ البنا يعني بـ "القواعد الأساسية" للدستور المصري هذه الحقوق الأساسية: ((المساواة أمام القانون، حرية الإعتقاد، وحرية الرأي، وحق الإجتماع، وحق تكوين الجمعيات الخ..)) ويعني بـ "قواعد الإسلام" أحكام الشريعة الإسلامية الموروثة.. فليس في هذه الشريعة حقوق أساسية، لأنها قامت، كما أسلفنا في مقدمة هذا الكتاب، على الوصاية، بل أن آياتها قد نزلت ناسخة لآيات الحقوق الأساسية، ومن ثمّ فليس في هذه الشريعة دستور.. وإنما الحقوق الأساسية "الدستور" في أصول القرآن الكريم التي نسختها فروع القرآن (الشريعة الموروثة).
ثم أنه لا عبرة بالحقوق الإساسية التي نصّ عليها دستور 1923 المصري، فهي قد كانت حبرا على ورق.. وتمويها للديمقراطية، وتضليلا للشعب المصري.. فالمادة الأولى من ذلك الدستور تنص علي: ((مصر دولة ذات سيادة، وهي حرة مستقلة ملكها لا يجزأ ولا ينزل عن شيء ومنه وحكومتها ملكية وراثية وشكلها نيابي)).. والمادة 33 من ذلك الدستور تقول: ((الملك هو رئيس الدولة الأعلى وذاته مصونة لا تمس))!! ولا يمكن أن يكون الحكم ديمقراطيا، ولا الحقوق الأساسية للمواطنين مرعية، في نظام ملكي مطلق، يتمتّع فيه الملك ببقايا حق الملوك المقدس، إذ أن: ((ذاته مصونة لا تمس))، وهو الحق الذي عطل حركة الشعوب نحو الحرية، وأخّر مجيء الديمقراطية في العالم.. ثم أن ذلك الدستور ليتنافى، أشد التنافي، مع أحكام الشريعة الموروثة التي تقوم على الوصاية الرشيدة، وليس على الحكم المطلق الغاشم، أو "الملكية الوراثية".. وأين الإقرار بأن ذات الملك "مصونة لا تمس" من قول أبي بكر غداة توليه الخلافة: ((وإن رأيتموني على باطل فسددوني))؟؟. إن دستور 1923 المصري ليتنافى مع أصول القرآن، كما يتنافى مع الشريعة الإسلامية الموروثة .. وليس رأي الأخوان المسلمين عنه إلا من قبيل مخططاتهم السياسية لممالأة الحكام من أجل إحتواء السلطة.. وإلاّ فكيف يجوز لدعاة إسلاميين أن يخاطبوا الملوك بهذه العبارات: ((إلى سدة صاحب الجلالة الملكية حامي الدين ونصير الإسلام والمسلمين مليك مصر المفدى))!! كما فعل الأخوان المسلمون – مذكرات الدعوة والداعية صفحة 156؟؟
هذا!! والدستور المصري لسنة 1923 إنما كان يعتبر منحة من الملك للشعب.. جاء في كتاب (موجز القانون الدستوري) للدكتور عثمان خليل والدكتور سليمان الطماوي (الطبعة الثالثة 51-1952) صفحة 265-266:-
(2) الدستور المصري منحة: وذلك إستنادا إلى نصوص، وتصريحات رسمية مختلفة رافقت وضع الدستور، وأبدت صراحة، أو ضمنا، فكرة المنحة هذه.. جاء في ديباجة الدستور:-
((نحن ملك مصر - بما أننا مازلنا منذ تبوأنا عرش أجدادنا، وأخذنا على أنفسنا أن نحتفظ بالأمانة التي عهد الله تعالى بها إلينا، نتطلب الخير دائما لأمتنا بكل ما في وسعنا، ونتوخى أن نسلك بها السبيل التي نعلم أنها تفضي إلي سعادتها وارتقائها وتمتعها بما تتمتع به الأمم الحرة المتمدينة.))
((ولما كان ذلك لا يتم على الوجه الصحيح إلا إذا كان لها نظام دستوري كأحد الأنظمة الدستورية في العالم وأرقاها.))
((وبما أن تحقيق ذلك كان دائما من أجل رغباتنا ومن أعظم ما تتجه إليه عزائمنا.))
((أمرنا بما هو آت...))
كونت "لجنة الثلاثين" لوضع الدستور.. قال السيد يحيي ابراهيم باشا في جلساتها: ((على أنه فيما يتعلّق بمصر يجب لأجل تعيين السلطة التي تتولى وضع الدستور الرجوع إلى قانوننا العام، وقد جرى الأمر فيه على أن تصدر القوانين النظامية من ولي الأمر وحده.))..
ولعل في طريقة تكوين لجنة الثلاثين وفي كون الدستور قد ترك بعد هذه اللجنة بين يدي "اللجنة الحكومية" (وهي اللجنة الإستشارية التشريعية) التي عدّلت بعض أحكامه ما يؤيد فكرة المنحة التي نحن بصددها..)

رأي الإخوان المسلمين في حقوق غير المسلمين


أما فيما يتعلّق بحقوق غير المسلمين في الدولة التي تحكم بالشريعة الإسلامية الموروثة، والتي يدعو اليها الإخوان المسلمون فيقول الشيخ حسن البنا في "مذكراته" – ص 184:
((فلم يصدر – الإسلام – دستوره المقدس الحكيم الاّ وقد اشتمل على النص الصريح الواضح الذي لا يحتمل لبسا ولا غموضا في حماية الأقليات، وهل يريد الناس أصرح من هذا النص ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم إن الله يحب المقسطين)) فهذا نص لم يشتمل على الحماية فقط، بل أوصى بالبر والإحسان إليهم)) .. هكذا يعمد الأخوان المسلمون إلى التمويه الذي يبلغ مبلغ التزييف فيما يتعلّق بحقوق أهل الكتاب في الشريعة الإسلامية الموروثة التي يرون صلاحيتها وتطبيقها بكل صورها، على مجتمع القرن العشرين، بغير تطوير إلى أصول القرآن الكريم.. والشيخ حسن البنا يتحدّث هنا عن "دستور" الإسلام.. وهو يعني الشريعة الإسلامية الموروثة، كما قد بيّنا في مقدمة هذا الكتاب.. وقد أشرنا في هذا الفصل إلى أنه ليس في هذه الشريعة ديمقراطية، وأنها قد قامت على الوصاية، ومن ثمّ فليس فيها دستور، وإنما الدستور في أصول القرآن، وفي السنّة النبوية، بل إن هذه الشريعة، حينما شرّعت، فقد نسخت آياتها آيات الحقوق الأساسية، مثل: ((وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر.. )).. والدستور هو القانون الأساسي، وهو إنما سميّ بالقانون الأساسي لأنه يدور، كله، حول مركزية الحقوق الأساسية.. ومع هذا التمويه الذي حاول الشيخ حسن البنا أن يسبغه على حقوق غير المسلمين في الشريعة الإسلامية الموروثة ذهب ليصفهم بـ "الأقليات".. مما يدل على ما يراه، في دخيلته، من التمييز بينهم وبين المسلمين: "الأغلبية"!! وأورد الشيخ البنا آية يستدل بها على ما أسماه: "حماية الأقليات"، وهو يجب أن يعني أهل الكتاب، فإن من سواهم من غير المسلمين إنما يعتبرون محاربين، وموقف المسلمين منهم: إما الدخول في الإسلام وإما القتال.. وما يسميه الشيخ البنا: "الحماية" ويستحسنه بالصورة التي ذكرناها عنه، هو في حد ذاته، إهانة في مفهوم حقوق المواطن في الوقت الحاضر..
وفي الحقيقة إن حكم الآية التي أوردها الشيخ البنا منسوخ بآية الجزية: ((قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله، ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)).. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "وهذه الاَية الكريمة أول الأمر بقتال أهل الكتاب، بعدما تمهدت أمور المشركين، ودخل الناس في دين الله أفواجاً واستقامت جزيرة العرب، أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى.." وقال في تفسير: ((حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)): "إن لم يسلموا: {عن يد وهم صاغرون} أي عن قهر لهم وغلبة {وهم صاغرون} أي ذليلون حقيرون مهانون.. فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة أشقياء.. كما جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه))". هذا ما قاله ابن كثير، وهو ما عليه الأمر في الشريعة .. فالشريعة قد كانت حكيمة، كل الحكمة، وعادلة كل العدل، في فرض الجزية على أهل الكتاب، وفي التضييق عليهم بتلك الصورة.. فقد أرادت، بكل أولئك، أن تحملهم على مصلجتهم بالإكراه، حتى يحفزهم التمييز ضدهم إلى الدخول في الإسلام فينتقلوا من حالة دفع الجزية، وهي حالة مهانة، إلى حالة دفع الزكاة، حيث وجدت، وهي حالة كرامة.. ذلك أن مال الزكاة عبادة، ومال الجزية عقوبة.. ثمّ إن أهل الكتاب حين يعيشون في المجتمع الإسلامي بهذه الصورة إنما يعيشون فترة إنتقال يعرفون خلالها الإسلام مطبّقا ومعاشا في حياة المسلمين، فتبرز لهم فضائله، وتتّضح لهم أوجه صحته.. وهم أثناء ذلك ملتزمون بعقد الذمة على إعطاء الجزية للمسلمين، وعلى إلتزام أحكام الشريعة الإسلامية في المعاملات، والعقوبات، مقابل عدم قتلهم، وإقامتهم في دار الإسلام على دينهم، يمارسون شعائره، ويتزاوجون وفق شريعته.. هذا هو معنى "حماية الأقليات".. حمايتهم من القتل، وحمايتهم في ممارسة شعائر دينهم، ما أعطوا الجزية..
هذا هو وضع أهل الكتاب، اليهود والنصاري، في الشريعة الإسلامية الموروثة.. فعلى الدعاة الإسلاميين أن يبرزوه في إطاره التاريخي، الحقيقي، وأن يقدموا مبرراته المرحلية المقنعة.. ثم يجب أن يقدموا، اليوم، الإسلام في صورة دستور إنساني يقوم على أصول القرآن التي تقر الحقوق الأساسية للإنسانية، فلا تميز بين المسلم ولا غير المسلم..
هذا خير للدعاة الإسلاميين من تزييف الشريعة لإتقاء معارضة المواطنين غير المسلمين، الذين يعيشون بينهم، وللظهور بمظهر التقدمية والعصرية الزائف..
ويقول محمد قطب، وهو من كبار مفكري الأخوان المسلمين، في كتابه "شبهات حول الإسلام" الصفحة 53 (ولقد كان مقررا على طلبة المدارس الثانوية العليا في السودان):- ((فمن أبى الإسلام وأراد أن يحتفظ بعقيدته في ظل النظام الإسلامي - مع إيمان الإسلام بأنه خير من هذه العقيدة وأقوم سبيلاً - فله ذلك دون إكراه ولا ضغط، على أن يدفع الجزية مقابل حماية الإسلام له، بحيث تسقط الجزية أو ترد إن عجز المسلمون عن حمايته))!! فهو يرى أن الجزية على غير المسلم في الشريعة إنما هي ثمن لحماية المسلمين له!! وهذا مما يتنافى مع حكمة الجزية التي بيناها، تماما!! فالجزية إنما كانت تسقط عمّن تعجز الدولة الإسلامية عن حمايته بسبب خروجه عن سلطانها إلى سلطان آخر بحيث لم يصبح من رعاياها.. ولا ترد الجزية عن أي فترة سابقة في هذه الحالة..
ومثل آخر لهذا الإتجاه إلى تمويه حقوق أهل الكتاب في الشريعة الإسلامية الموروثة هو ما ذهب اليه الدكتور حسن الترابي، زعيم الأخوان المسلمين في السودان في محاضرة له بجامعة الخرطوم في يوم 26/12/77 (قمنا بالتعليق عليها في كتابنا "الدكتور الترابي يخرج عن الشريعة باسم تحكيم الشريعة") وذلك حينما طوّقه بعض الطلاب المسيحيين من الإقليم الجنوبي للسودان ببعض الأسئلة حول حقوق غير المسلمين.. فقال: ((ليس هناك ما يمنع رجلا في جنوب السودان أو في شرقه أو في شماله أن يكون رئيسا لجمهورية مسلمة، ليس هناك ما يمنعه، ليس الذي يمنعه كونه جنوبيا وإنما الذي يمنعه كون حزبه يخالف حزب الأغلبية، فإما أن ينضم إلى حزب الأغلبية أو أن يقنع الأغلبية بالإنضمام إلى حزبه)) فالترابي يرى أن للمسيحي الحق في أن يكون رئيسا لدولة تحكم بالشريعة الإسلامية الموروثة!! ثم يستدرك فيشترط أن ينضم إلى حزب الأغلبية بأن يصير مسلما!! أو أن يقنع حزب الأغلبية، وهم المسلمون، بالإنضمام إلى حزبه، وهو المسيحية!! ثم ذهب ليفتي بجواز خروج المسلم عن الإسلام بقوله: ((وأود أن أقول أنه في إطار الدولة الواحدة، والعهد الواحد يجوز للمسلم كما يجوز للمسيحي أن يبدّل دينه إذا لم يخرج على جماعة الأمة وعلى الدولة))!! يفتي الدكتور الترابي بذلك من غير أن يقيم فتواه على سند من الكتاب الكريم، أو على سند من الحديث الشريف.. هذا مع أن الرسول الكريم يقول: ((من بدّل دينه فأقتلوه!!)) ويقول: ((لا يحل دم إمري مسلم الاّ بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير نفس!!))..
إن أولى بالدعاة الإسلاميين أن يعرفوا للشريعة الإسلامية الموروثة مرحليتها، والأغراض الجليلة التي خدمتها، ومقدرتها، وانفتاحها على التطوّر بدلا من هذه المحاولات القاصرة لتمويهها، وتزييفها، وإلباسها غير لبوسها.. فليس هناك في هذه الشريعة ما يعيبها حتى تجرى تلك المحاولات لتمويهها، وتعميتها، فقد كانت بمثابة القفزة بالنسبة لما ساد البشرية في ذلك الوقت من شرائع وأعراف.. وإنما العيب هو في محاولة نقلها إلى غير وقتها، وإلى غير أمتها لتحل مشاكل جديدة، كل الجدة عليها، لا تتسع لها الا شريعة جديدة عمدتها آيات أصول القرآن، وسنّة النبي الكريم.. العيب في العقول التي تتحدّث عن الشريعة، وليس العيب في الشريعة!!