إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

التعليم

بسم الله الرحمن الرحيم
(فتعالى الله، الملك، الحق، ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقضى اليك وحيه.. وقل ربي زدني علما..)
صدق الله العظيم


مدخل


ننشر في هذا السفر المستقل خطابا عن التعليم سبق لنا أن نشرناه في الكتاب الثاني من سلسلة ((رسائل ومقالات)) للأستاذ محمود محمد طه.. ونحن نعيد نشر هذا الخطاب، ضمن سلسلتنا عن ((عام الطفل العالمي))، وذلك بعد اضافة مقدمة صغيرة تتناول، بالتوسيع والتعليق، بعض القضايا الرئيسية التي طرحها – تلك القضايا التي تتعلق بفلسفة التعلم، وأهدافه، وتخطيطه...

المقدمة


مقدمة المقدمة


ان التعليم، في كل بقعة من بقاع المعمورة، يمر بأزمة حقيقية، يحس بها، على تفاوت، العاملون في حقل التعليم، الطلاب، والأسر، والسياسيون وغيرهم... وقد وجدت هذه الأزمة تعبيرها في القلق الذي تعيشه جماهير الطلاب، والاضطرابات التي يحدثونها، وفى مظاهر ((الرفض)) الكثيرة التي دفعت بعدد كبير منهم الى قطع دراستهم نتيجة لخيبة أملهم في أساليب التعليم، ومناهجه، ومقرراته.... ولعل سبب هذه الأزمة الرئيسى هو عدم العودة الى الأصول عند تخطيط مناهج التعليم، ولعل من أسبابها الانفجار الكبير الذي حدث في مجال العلم، والمعرفة، في الآونة الأخيرة، مما ولد مشكلات كثيرة تتعلق بتصفية المعلومات الكثيرة، وانتقائها واستيعابها، فكريا، وتطبيقها، سلوكيا، وتمثلها، حياتيا..

العودة الى الأصول


يرى الأستاذ محمود محمد طه: ((أنه لا بد، لتخطيط مناهج التعليم، من الرجوع الى الأصول، إذا ما أردنا لتعليمنا أن يكون مثمرا ونافعا..)) ومن الأصول التي يقررها أن الانسان لا يختلف عن الحيوان اختلاف نوع، وانما هو اختلاف مقدار... ولقد كان الانسان حيوانا فرديا، ولكن قسوة الحياة اضطرته لاختراع المجتمع الذي قيد من حريته كثمن لحمايته وتأمينه ضد جوائح البيئة... ولذلك فان الحرية الفردية لدى الانسان هى الاصل، وأما الحرية الجماعية التي تقوم على الحد من الحرية الفردية فهى وسيلة اليها... ويقرر الأستاذ محمود النتيجة التالية: ((أى تعليم يجب أن يمكن الفرد من التحقيق التام للتوفيق بين الحرية الفردية، والحرية الجماعية، حتى لا يعيش في عداء مع نفسه ومع مجتمعه...))... وهذه مسألة تفتقر اليها كل النظم التعليمية، عالميا ومحليا..
وفى ((الدين والتنمية الاجتماعية)) يقول الأستاذ محمود في الاهداء: ((إن الزمان قد استدار، استدارة كاملة، فعاد كهيئته، يوم خلق الله الإنسان، دودة بين الماء والطين!! يومئذ قام تحدي البيئة الطبيعية له بصورة حاسمة!! التحدي؟؟ أما أن يحدث تواؤماً بينها وبينه، أو ينقرض!!
والآن!! فإنه، بتمام هذه الاستدارة الزمانية، يعود هذا التحدي بكل حسميته، بيد أن عنصراً جديداً قد دخل الميدان، ذلك إنا اليوم نعرف حقيقة هذه البيئة التي تواجهنا بكل هذا التحدي الرهيب، بعد أن كنا نجهلها أمس، كل الجهل!! إن بيئتنا الطبيعية ليست بيئة مادية، كما نتوهمها، إلى اليوم!! إنها، في الحقيقة، بيئة روحية، ذات مظهر مادي!!)).. وكون بيئتنا الطبيعية بيئة روحية، وليست مادية، كما نتوهمها، أصل من الأصول التي ينبغي أن يتجه التعليم لترسيخها وتثبيتها، لأنها تفتح المجال لاستعمال المعارف الكونية في سبر أغوار النفس البشرية التي حوت الحياة كلها، كما تربط ربطا وثيقا بين التعليم المهنى والتعليم الخلقى اللذين تحدث عنهما الأستاذ في خطابه، أو تربط، بتعبير آخر، بين التربية والتعليم..

التربية والتعليم


ان التعليم غير التربية.. ((فإن غرض التعليم إكساب الفرد الخبرة المهنية التي تجعله مفيدا للمجتمع في الميدان الذي خلق وهو مستعد له بما ركز في فطرته من موهبة.. وهو ضروري ليسلح الأفراد بالقدرات العلمية، والفنية، والادارية، والتكنولوجية، لتنمية حضارة مجتمعهم، وللتسامي بها في مراقي الكفاءة والكفاية. وفي التعليم يقع التخصص، ويقع التمييز، ويسود الاتجاه إلى التخطيط لإنجاب حاجة المجتمع- فيه يقع التمييز بين الرجال، والنساء، ويقع التمييز بين الرجال، والرجال أيضا، ذلك بأنه إنما يرمي إلى تنمية، وتغذية الموهبة عند كل موهوب، حتى يخدم مجتمعه في الميدان الذي خلق وهو مستعد له استعدادا فطريا، بيد أن هذا التمييز الذي يقع في ميادين الاعداد لخدمة المجتمع المدنية لا يحمل معه أي امتياز اجتماعي ترتفع به، تلقائيا، مكانة فرد فوق فرد آخر..)).. ((راجع في هذا المجال كتاب "الرسالة الثانية من الاسلام" تحت عنوان "المساواة الاجتماعية")).. إن التعليم الذي يقوم على تنمية المواهب الطبيعية لدى الموهوبين هو بالضرورة تعليم معين على اصطلاح الناس مع وظائفهم الاجتماعية في مقبل أيامهم، اذ أن الموهبة تجعل العمل أقرب للهواية وهذا مما يقلل كثيرا من مظاهر الاغتراب التي يعانى منها الناس في أعمالهم التي يقومون بها من أجل الكسب..
أما غرض التربية، كما يحدثنا الأستاذ محمود محمد طه، فهو تحرير المواهب الطبيعية: العقل، والقلب، من أسر الأوهام، والأباطيل.. فبسلامة القلب من الخوف، وصفاء الفكر من الأوهام، تتحقق حياة الفكر، وحياة الشعور، وهي غاية كل حي.. وهي مهمة التربية.. وللتربية وظائف كثيرة هي في جملتها نقل الانسان من الاستيحاش إلى الاستيناس، حيث تصبح عاداته جميعها إنسانية، ومهذبة.. وحيث يحاول، بجهد الطاقة، أن يترك كل شئ على صورة أحسن من التي وجده عليها... والتربية، بخلاف التعليم، لا يقع فيها التخصص، ولا التمييز بين الرجال والنساء، وانما هى حق أساسى لكل فرد بشرى، وهي تشمل حتى الطفال، ولا تُحد الا بطاقاتهم على التلقى، والادراك، والتنفيذ.. والقاعدة الذهبية في التربية هي أن تضع الأفراد أمام المسئولية وأن تعينهم، بكل الوسائل، على تحمل المسئولية، ذلك بأن غرض التربية هو إنجاب الأفراد الناضجين...

التعليم الذاتى


لقد ذكرنا فيما مضى أن من أسباب أزمة التعليم العالمية الانفجار الذي حدث في مجالي العلم والمعرفة، مما خلق مشكلات كثيرة تتعلق بتصفية المعلومات الكثيرة وانتقائها، واستيعابها، وتطبيقها.. ولقد كان في امكانية طالب العلم، فيما غبر من القرون، أن يستوعب كل المعارف البشرية في عصره، وذلك بأخذها على يد أساتذة زمانه.. أما اليوم فان الانفجار الذي تحدثنا عنه قد جعل هذه المسألة في حكم المستحيل... وهي، على أي حال، ليست بمطلوبة.. فإن حشو أدمغة الطلبة بطائفة مختارة من المعلومات المتنوعة والكثيرة، والتى يجلس أحدهم ليجوز الامتحان فيها ليواصل سيره في المراحل المختلفة طريقة فاشلة، وفى الحقيقة مضرة...
ان الانفجار الذي حدث في المعارف الانسانية، بجميع أنواعها، بل أن الحياة نفسها تتطلب من الانسان أن يظل طالب علم طوال حياته.. ولذلك فإن الأستاذ محمود محمد طه يرى ((أن مناهج التعليم التي نرسمها يجب، قبل كل شىء، أن تهدف الى تعليم الطالب كيف يعلم نفسه، وكيف يكلف بمواصلة هذا التعليم، طوال حياته – التعليم الذاتى.... فان نحن استطعنا أن نعطيه، في التعليم النظامي الذي تقيمه الحكومات المتمدينة، الأسلوب العلمي الذي به يستطيع أن يعلم نفسه فقد أعددناه للحياة الاعداد المطلوب)).

نقد التعليم الجامعي


قال الأستاذ محمود محمد طه، عام 1958م، في خطابه الذي نحن بصدده، ما يلي عن التعليم الجامعي: ((إن التعليم الجامعي الحاضر باهظ التكاليف جدا.. وهو غير كبير الجدوى للبلاد.. بل إن الخرجين والجامعيين يكونون طبقة جديدة لا تأبه كثيرا بحالة البؤس التي يعاني منها الشعب، وهم على التحقيق، غير قادرين على السكن في القرى، والأرياف، حتى يستطيعوا أن يتفهموا حالة مواطنيهم، ويعينوا على تطوير حياة الريف)) هذا النقد يكاد ينطبق بحذافيره على وضع التعليم الجامعي اليوم، مما يجعله محتاجا لاعادة نظر شاملة فيما يتعلق بالمناهج وأساس اختيار المعلمين والطلاب.. فان التعليم الجامعي، في بلادنا، امتياز كبير ما ينبغى أن يناله الا من هو على استعداد للبذل والتضحية لسد دين هذا الشعب المسكين الصابر الذي ينفق عليه ما يفوق طاقته..

التعليم الجامعي والأصالة السودانية

يرى الأستاذ محمود محمد طه أن تعليمنا الجامعي يجب أن ((ينبت من طبيعة أرضنا وتفكيرنا، وشخصية قومنا، ثم يتلقى ما يتلقى من أفكار غربية وشرقية، فيهضمها، ويجعلها سودانية أصيلة. أي يستطيع أن ينظر إلى العالم الشرقي، والغربي، من وجهة نظر سودانية، وبذلك يكون تعليمنا أصيلا، لا دخيلا.. ويكون خريجونا إنسانيين، سودانيين، أصلاء يسعون لإسعاد قومهم، ولإسعاد البشرية عامة، كعمل طبيعي، في غير تكلف ولا رياء...))
ان هذا الدور الذي أناطه الأستاذ محمود بالجامعة لهو دور كبير وخطير، ولكنه الدور الوحيد الذي بقيامها به تستحق لقب الجامعة... فان مجرد استلاف واستعارة المعارف الأجنبية عمل يمكن أن تقوم به أى مدرسة عليا أو معهد متخصص... أما أن تستوعب هذه المعارف، وتهضم وتعطى نكهة سودانية نقية تسهم في اثراء التراث الإنساني فهو الدور الذي يجعل الجامعة جامعة بحق.... ولا يقوم بهذا الدور الا العلماء الأجلاء الذين هضموا مواد تخصصهم للدرجة التي امتلكوا فيها القدرة على تبسيطها لرجل الشارع العادى البسيط، والذين امتلكوا من القيم ما يجعلهم يوظفون كفاءاتهم وتخصصاتهم في المنفعة العامة لكل الناس.. فاين نحن من هذا؟؟

وظيفة التعليم وفائدته


لقد تحدث الأستاذ محمود في خطابه عن التعليم عن قضايا كثيرة ومهمة لم نتمكن من التعرض لها في هذه المقدمة وذلك لضيق الحيز... ولكنا نحب، في خاتمة هذه المقدمة، أن نتصدى للتمييز بين وظيفة التعليم وفائدته الذي أقترحه الأستاذ محمود محمد طه، ولعلاقة ذلك بدعوته لبعث الاسلام...
يقول الأستاذ محمود: ((ان فائدة التعليم لهى في مقدرة المتعلم أن يوائم بين نفسه وبين بيئته... ووظيفة التعليم انما هى أن يأخذ المتعلم صورة كاملة وصحيحة عن البيئة التي يعيش فيها..)).. فاذا كانت وظيفة التعليم تكمن في استيقان هذه الصورة حتى تنعكس في سلوك وحياة المتعلم... وهذا الوضع بدوره يطرح السؤال الكبير: كيف تتحول المعرفة النقلية أو العقلية الى يقين مجسد لنتائج المعرفة؟؟
ان الطريق الى هذا اليقين يكمن في التزام المنهج الديني الذي يسير بالإنسان من الايمان الى الايقان.. وهذا المنهج تلخصه الآية القرآنية: ((واتقوا الله، ويعلمكم الله)).. وتقوى الله هى علم، وعمل بمقتضى العلم.. تسير هذه التقوى بالانسان ليتلقى علمه من المعلم الأول والأوحد.. ليتلقى علمه من مصدر كل شىء... وعلم التقوى، في الوقت الحاضر، هو علم بالسنة (أي عمل النبي في خاصة نفسه)، وعمل في التقليد المتقن والاتباع التام للنبى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.. وهذا الأمر تمليه ضرورة عودة الاسلام ليحل مشكلة الأفراد، ومشكلة الجماعات.. قال صلى الله عليه وسلم: (بدأ الاسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدا... فطوبي للغرباء... قالوا: من الغرباء يا رسول الله؟؟ قال: الذين: يحيون سنتي بعد اندثارها) فبإحياء سنة النبى ينفتح الطريق للترقي الفردي في سلم الاسلام من مراحل الايمان الى مراتب الايقان، كما ينفتح الطريق لتطوير التشريع الذي ينظم أمور الجماعة، في السياسة، والاقتصاد، والاجتماع، مما يجعل من الممكن قيام النظام الذي يوفق بين الاشتراكية والديمقراطية، وهذا مما يمكن بدوره من التوفيق بين حاجة الفرد الى الحرية، وحاجة الجماعة الى العدالة.. وهذه من الأمور، التي سبق أن ذكرنا أن أى تعليم يجب أن يتوفر عليها.. ولذلك فان الأستاذ محمود يدعو الى احياء السنة حتى يعود الاسلام ليرتقى بالأفراد وبالجماعات..
وبعد، لقد حاولنا في هذه المقدمة أن نتوسع قليلا في بعض المسائل التي وردت في الخطاب الذي نحن بصدده.. ولقد اعتمدنا في توسعنا هذا على بعض مؤلفات الأستاذ محمود محمد طه الرئيسية كـ ((الرسالة الثانية من الاسلام))، مثلا.. ولذلك فانا نقترح على القارىء الكريم أن يرجع اليها.. هذا وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر، ولوشاء لهداكم أجمعين....
23/2/76م