إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

عودة المسيح

بسم الله الرحمن الرحيم
((ونفخ في الصور فصعق من في السموات، ومن في الأرض، إلا من شاء الله، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون  وأشرقت الأرض بنور ربها، ووضع الكتاب، وجيء بالنبيين، والشهداء، وقضي بينهم بالحق، وهم لا يظلمون.))
صدق الله العظيم..

المقدمة:


هذا الكتاب مبشر بقرب مجيء المسيح الأخير.. وذلك في مناسبة الاحتفال بعيد الميلاد المجيد.. وبشارتنا بهذا المجيء ليست تهويما وراء الأخيلة، أو تعزيا بالأماني، مما يؤدي إليه العجز عن مواجهة مشاكل الواقع.. كما هي ليست نظرية فلسفية، أو مجرد نبوءة دينية.. وإنما مجيء المسيح ضرورة يمليها الواقع البشري المعاصر، وتؤدي إليها التطورات التاريخية تأدية طبيعية.. ثم تجيء النصوص الدينية، في سائر الكتب السماوية، لتؤكد هذه الضرورة الحياتية الماثلة.. ثم إن بشارتنا بمجيء المسيح ليست قفزا في الفراغ، وإنما هي تقوم على منهاج عملي يجعل ذلك المجيء ممكنا، ومحتوما..
فالبشرية اليوم إنما تواجه تحديا مباشرا لبقائها لم تشهده من قبل.. تحديا يواجهها كفصيلة من الخلائق عليها أن تتواءم مع بيئتها الجديدة وإلا كان مصيرها الانقراض، كما جرت بذلك سنة الله في الأولين.. أما بيئتها هذه الجديدة فهي تتمثل في الوحدة المكانية التي تمت للبشر بتطور وسائل الاتصال، والمواصلات، مما يقتضي أن يقيم البشر علائقهم على الإسماح، والمحبة، اللذين يليقان بالجيران.. كما تتمثل هذه البيئة الجديدة فيما برهن عليه العلم المادي، بعد فلق الذرة، من أن المادة طاقة مجهولة الكنه، وأن البيئة الطبيعية بيئة غير مادية، وإن كانت مادية المظهر- هي في حقيقتها بيئة (روحية)، أو قل (فكرية).. مما يقتضي أن تقام حياة البشر على وحدة (فكرية) تتواءم مع هذه البيئة (الفكرية)..
ولقد قطعت البشرية شوطا بعيدا نحو الوحدة، وذلك من حيث لا تشعر.. وحاجتها اليوم إنما هي إلى الفكر المسدد، المستقيم، ليوجه هذا التطور المسدد نحو الوحدة، فيسرع بخطاه.. فإن الصراع الدولي قد تمخض أخيرا عن انقسام هذا العالم إلى معسكرين: المعسكر الشيوعي، والمعسكر الرأسمالي، مما لم يتفق للبشرية من قبل بهذه الصورة الشاملة.. وهذه الثنائية إنما هي أقرب المنازل إلى الوحدة.. كما أن البشرية قد توصلت، عبر الصراعات الطويلة من أجل الحقوق الأساسية للإنسان، إلى مؤسسة دولية واحدة تتجه إلى جمع كافة الأمم كأعضاء فيها، ليلتزموا بميثاق واحد، وليحتكموا إلى قانون دولي واحد، وليخدموا المصالح الدولية المشتركة في السلام والرفاهية.. وهي منظمة الأمم المتحدة، والمنظمات الدولية الدائرة في فلكها، كمحكمة العدل الدولية، وهيئة اليونسكو وأخواتها.. وهذه المنظمة الدولية، وعلى قصورها المتمثل في عدم مقدرتها على تنفيذ قراراتها، والمتمثل، أيضا، في خضوعها، بصورة أو بأخرى، لدى اتخاذ القرارات الكبيرة للقوى الكبرى التي تشكل مجلس الأمن، إنما هي خطوة جليلة تعبر عن حاجة البشرية الماثلة إلى الحكومة العالمية التي توحد إدارة الكوكب، وتقيم علائق أممه على القانون الدستوري الذي يلقى التنفيذ والاحترام من سائر الأمم..
إن مشكلة العالم اليوم هي مشكلة السلام.. وهي هي المشكلة الناجمة من عجز الفلسفات، والأنظمة العالمية في حل المعادلة الصعبة، وهي التوفيق بين حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة، وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، بحيث يصبح الفرد هو الغاية من كل سعي جماعي، وبحيث تصبح الجماعة أبلغ وسيلة لإنجاب ذلك الفرد الحر. ومشكلة السلام العالمي هي، في الحقيقة، مشكلة السلام الداخلي في نفس كل فرد بشري.. هذه المشكلة التي تتمثل في ظاهرة القلق التي استشرت فغزت كل المجتمعات، حتى صح أن يسمى هذا العصر عصر القلق.. وهذا القلق إنما هو تعبير عن يأس الفرد المعاصر من الفلسفات، والأنظمة، في حل مشاكله المعيشية، وفي التجاوب مع تطلعاته إلى الحرية، وفي الإجابة المقنعة على لغز مصيره المجهول في هذا الوجود، وهو يتطلع إلى التواؤم مع بيئته الاجتماعية، والطبيعية، والحضارية الجديدة.. كما أن هذا القلق، من جهة أخرى، إنما هو بمثابة أوجاع المخاض التي يعقبها الميلاد الجديد للحياة البشرية، وهي تنعم بالسلام والرفاهية، بعد ركام هائل من العذابات عبر القرون..
فالحاجة اليوم إلى السلام تكاد تبلغ الحاجة إلى الماء والهواء.. لا سيما وقد انقسم العالم إلى معسكرين لا يملكان سبيلا لفض الصراع بينهما إلا سبيل الحرب، فبلغا في سباق التسلح بينهما مبلغا أهدرت معه الإمكانيات الاقتصادية العالمية، مما شكل أزمة اقتصادية عالمية لم تشهدها البشرية من قبل، وأهدرت معه، أيضا، سيادة وحرية الدول الصغيرة التي صارت مسرحا للصراع على مناطق النفوذ بين المعسكرين، فصارت كل دولة صغيرة منها إنما هي بالضرورة، أرادت أو لم ترد، دائرة في فلك أحد المعسكرين لحماية نفسها من خطر المعسكر الآخر.. وحتى صار الحد من الأسلحة الاستراتيجية، ناهيك عن نزع السلاح أمرا مستحيلا.. وصارت الحرب العالمية الثالثة خطرا ماثلا.. وهي إنما ستعني نهاية الحضارة البشرية، وانقراض النوع البشري نفسه!!
ومن الجانب الآخر، صار الدين، من حيث هو دين، يواجه نفس التحدي المصيري الحاسم!! فصار عليه إما أن يستوعب هذه المتغيرات الجديدة المذهلة، فيجد الحلول للمشاكل الفردية والجماعية التي تختلف، من جميع الوجوه، عن المشاكل التي توفر الدين في الماضي على حلها، وإما أن يخلي السبيل لتنفلت القافلة البشرية إلى العلمانية وإلى الإلحاد!! التحدي الذي يواجه الدين هو بهذا الحسم.. وبذلك صار العالم مهيئا ومحتاجا ومستجيبا لكل عوامل التغيير.. وهو تغيير لا بد أن يكون جديدا لم يسبق له مثيل حتى يكافئ هذا الواقع الجديد الذي لم يسبق له مثيل أيضا..
العالم يحتاج إلى رجل هو من صفاء الفكر، وسداده، وشموله، بحيث يوحد هذه الأمم، فكريا، في مذهبية واحدة، هي تتويج لكل الديانات، ولكل الفلسفات التي قطعت بالبشرية كل الشوط الماضي الطويل.. رجل يوحد هذه البشرية في حكومة عالمية واحدة تتألف من حكومات قومية تقوم كل منها على دستور إنساني يتوفر على حل التعارض البادي بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة اللتين أشرنا إليهما آنفا.. وبذلك، وبذلك وحده، يحل النظام، ويحل السلام في الأرض..
البشرية تحتاج إلى رجل يقدم من نفسه، نموذجا للكمالات الإنسانية التي يشير، إلى حتميتها وإمكانيتها، رأس سهم التطور البشري منذ الأزل.. وهي الكمالات المتمثلة في كمال الحرية الداخلية من الخوف والجهل، وهما مصدر كل نقائص الحياة البشرية.. البشرية محتاجة إلى رجل استطاع أن يتواءم مع البيئة البشرية، والطبيعية، والحضارية الجديدة، فيتحدث بلغة العصر، وهي السلام، ويملك المفتاح لحل معضلات المشاكل العالمية المستعصية، بالمنهاج العلمي..
البشرية تحتاج إلى رجل يقيم المدنية الجديدة التي تؤلف بين القيم الروحية ومظاهر الوجود المادي، بحيث تضع القيمة المادية في مكانها الطبيعي كوسيلة، فحسب، ولكنها لا غنى عنها، للقيمة الأخلاقية.. كما قال محمد: ((الدنيا مطية الآخرة)).. وكما قال المسيح: ((ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان))..
البشرية محتاجة لرجل يبرهن بكمال فكره، وكمال شعوره، على جدوى ممارسة المنهاج الديني، في العبادة، والمعاملة، وعلى مقدرة الدين التي لا تنفد على استيعاب تطور الحياة مهما تشعب، فيقدم الدين في المستوى العلمي الذي ينفخ الروح في هيكل الحضارة المادية، ويوحد بين الأديان، فيجمع البشرية على دين واحد– وعلى فكرة واحدة.. فينفتح، بذلك، دورة جديدة للحياة البشرية لم تشهدها البشرية من قبل..
البشرية محتاجة إلى رجل يطبق قوانين العدالة الاجتماعية الشاملة، في الرسالة الثانية من الإسلام، والتي تعين كل فرد على تحقيق فرديته، ويبرز منهاج (الفردية) عند النبي محمد، بحيث يرتفق به كل فرد ليبلغ به فرديته الخاصة.. البشرية تحتاج إلى الإنسان الكامل.. المسيح.. المخلِّص، في هذا المستوى العلمي الرفيع..
وأول الدلائل على هذه الحاجة الماثلة إلى المسيح (المخلِّص) هو مشكلة الشرق الأوسط التي تهدد مشكلة السلام العالمي كله.. فمشكلة الشرق الأوسط، في حقيقتها، إنما هي صراع عقيدي بين أهل الديانات الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية، على الأرض التي نشأت عليها هذه الديانات.. أليست مدينة القدس اليوم هي محور هذا الصراع العقيدي؟؟ وهو، في الحقيقة، صراع بين أبناء عمومة واحدة جدّها الأكبر إبراهيم عليه السلام.. وهذا الصراع إنما يعبر عن بلوغ التعصب العقيدي مبلغا صار لا بد للبشرية أن تتجاوزه لمستوى أكبر منه في الدين، حفاظا على بقائها وسلامها.. فالتعصب العقيدي، إلى جانب أنه لا يحل مشكلة، إنما هو مهدد للسلام العالمي بصورة محتومة..
إن مشكلة الشرق الأوسط لا يحلها إلا المسيح، وهو يجيء بالسلام، فيوحد الأديان الثلاثة بعد أن يرى أهل هذه الأديان الحقيقة الواحدة!! فعلى أهل هذه الأديان أن يتفطنوا لدورهم الأساسي في قيادة البشرية بدين السلام، وعليهم أن يمهدوا أرضهم التي يقتتلون اليوم عليها لتكون عرش المملكة السماوية وهي تنزل اليوم إلى الأرض.. طوبى لمن عمل لها، وحلم بها، ولم يهدأ له بال حتى يراها ماثلة.. طوبى له وحسن مآب!!