إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

عودة المسيح

خاتمــة


نحب في هذه الخاتمة أن نتوجه إلى المسلمين بما نعني بالإسلام في مستواه العلمي، حتى يتفطنوا إلى حقيقة دينهم، فيقبلوا عليه بفهم جديد، في هذا العصر الذي اتسم بالانجازات العلمية المادية الهائلة، حتى صار يعرف بعصر العلم.. فلا بد للدين، في عصر العلم المادي، أن يكشف عن مكنونه من العلم الروحي.. فتتم المزاوجة بين العلم المادي، والعلم الروحي، بعد جفوة مفتعلة طويلة سببها جهل الناس بحقيقة الدين، وحقيقة العلم المادي..
الإسلام في مستواه العلمي هو ما عبر عنه النبي الكريم حين قال (الإسلام دين الفطرة) أخذا من الآية الكريمة (فأقم وجهك للدين حنيفا، فطرة الله التي فطر الناس عليها، لا تبديل لخلق الله، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون).. ثم قال في تفسير الفطرة (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) وهو يعني هنا كل مولود بشري، فالناس كلهم، كفصيلة، يختلفون عن فصائل الحيوانات الأخرى، ولكنهم يتفقون فيما بينهم في الفطرة، وهي العقل، والمقدرة على التفكير.. (وكل مولود يولد على الفطرة) أي يولد بقلب سليم وعقل صاف.. ولا عبرة بالفطرة في هذه الصورة لأنها لا تقوم على التجربة.. فإذا عايش الطفل المجتمع، بدءاً بأسرته تبدأ تجربته، فيأخذ دين أبويه.. حتى إذا درج في مدارج التطور أخذ يزداد خبرة، في المجتمع الكبير، وأخذ يدخل في صراع الحياة اليومي من أجل تأمين نفسه، بدافع الخوف والطمع، فأخذت تلك الفطرة تنطمس، وتنمحي، بما يرين (يغطي) عليها من معايب السلوك مما عبر عنه القرآن بقوله: (كلا!! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون).. وبقدر ما يفقد القلب من سلامته، بقدر ما يفقد العقل من صفائه، فينشل عن التفكير السليم، ويلتوي مع الهوى.. ومن ههنا مشكلة السلام الداخلي في نفس الفرد البشري والتي تنشأ منها وتتسع مشكلة السلام العالمي بأسره.. ووظيفة الإسلام، في مستواه العلمي، بما هو دين الفطرة، أن يرد الناس، كل الناس، إلى سلامة القلب، وصفاء العقل، (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم).. والذي حقق السلام مع نفسه، بذلك، إنما هو قد حقق السلام مع البيئة التي يعيش فيها- كل البيئة، في شتى صورها.. وهو ما نعني بتواؤم الفرد البشري مع البيئة..
الإسلام في هذا المستوى إنما هو علم نفس.. وظيفته تحرير النفس من رواسب الخوف والجهل التي طمست فطرتها.. وهو بهذا إنما يطب للظاهرة العالمية من القلق، والحيرة، والاضطراب، والعقد النفسية، مما صار يعرف (بمرض المدنية)، والذي تفشى في سائر المجتمعات، مما تدل عليه الإحصاءات في عيادات الأمراض النفسية والعصبية في كل العالم.. الإسلام، بهذا المستوى العلمي، كعلم نفس، إنما يرد البشرية إلى طلبتها الأساسية، وهي تستكنه مجاهيل الفضاء، والبحار، والأرض، بوسائل العلم الحديث والتكنولوجيا، وهي لا تشعر أنها إنما تبحث، في الحقيقة عن النفس البشرية.. وبالعلم بالنفس يتم الموعود القرآني (سنريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبين لهم أنه الحق.. أولم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد؟؟).. الإسلام بهذا المعنى إنما يخاطب الفطرة البشرية، من حيث هي بشرية، بغض النظر عن فوارق واختلافات العقيدة، والجنس، والعنصر، واللون، واللسان، والموطن.. وهو بهذا المستوى يمكن أن يجمع كل أهل الديانات، وأهل الفلسفات، حيث لا تجد البشرية حلا لمشاكلها الفردية والجماعية إلا فيه..
الدين في هذا المستوى هو محتوى الرسالة الثانية من الإسلام.. وهي مراد الدين الحقيقي في حين أن الرسالة الأولى لم تكن إلا مرحلة نحوه.. لقد جاء محمد، في العهد المكي، (بنبوة أحمدية)، و (رسالة أحمدية)، فدعا إلى الإسلام في مستواه العلمي، فلم يستجب له، وذلك لقصور المجتمع يومئذ، فأمر بالهجرة، وجاء عهد المدينة، ونسخت (الرسالة الأحمدية)، وأحكمت (الرسالة المحمدية)، فأصبح محمد ذا (نبوة أحمدية) و (رسالة محمدية)، فدعا إلى الإسلام، في مستواه العقيدي، فاستجيب له..
وسيجيء المسيح الأخير (بالنبوة الأحمدية)، وهي سنة أحمد خاتم النبيين، و (بالرسالة الأحمدية)، فيدعو إلى الإسلام، في مستواه العلمي، كما دعا إليه النبي في أول أمره في العهد المكي، وسيستجاب له، هذه المرة، وذلك لنضج المجتمع، وطاقته، الفكرية، والمادية، الهائلة.. هذا الفرق بين (الأحمدية) و (المحمدية) هو ما يشير إليه قول المسيح الأول فيما يحكيه القرآن: (وإذ قال عيسى بن مريم: يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم، مصدقا لما بين يدي من التوراة، ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد.. فلما جاءهم بالبينات قالوا: هذا سحر مبين).. فالنبوة هنا، في الحقيقة، إنما هي بمجيء (الرسالة الأحمدية) التي سيطبقها المسيح المحمدي على الناس بعد أن طبق عليهم محمد (الرسالة المحمدية).. ذلك بأن (الرسالة المحمدية) تنزُّل من (الرسالة الأحمدية) اقتضاه حكم الوقت الماضي، ونحن لا نرى إلا أن البشرية قد استعدت اليوم (للرسالة الأحمدية) وهي التي بها يجيء المسيح رسولا!!
لقد ختمت النبوة بمحمد، ولم تختم الرسالة، بمعنى أنه قد جاء بالرسالة الأولى (الرسالة المحمدية) وبالرسالة الثانية (الرسالة الأحمدية)، كليهما، موحى إليه بهما في القرآن، فعاش، في نفسه، الرسالة الثانية (كنبوة أحمدية)، ولم يطبق على مجتمعه إلا الرسالة الأولى (الرسالة المحمدية)، وذلك بعد ظهور قصور ذلك المجتمع عن شأو (الرسالة الأحمدية) مما أوجب الهجرة من مكة إلى المدينة بعد ثلاثة عشر عاما من الدعوة (بالرسالة الأحمدية)- الرسالة الثانية من الإسلام.. وسيجيء المسيح المحمدي ليطبق الرسالة الثانية (الرسالة الأحمدية) على المجتمع المعاصر.. ولذلك فإن الرسالة لم تختم.. ختمت النبوة، ولم تختم الرسالة.. وأدل الدلائل على عدم ختم الرسالة هو بشارة النبي الكريم نفسه بمجيء المسيح ليطبق شريعة الرسالة الثانية، وينظم الحياة البشرية وفقها، فيختم هو الرسالة!!
إننا لا نقدم الدين اليوم إلا في هذا المستوى العلمي الذي يخاطب العقل، ويسعى لإقناعه بالحقائق المستمدة من الواقع البشري، ومن التطلعات البشرية، ومن مجرى التطور في الحياة البشرية.. فنحن لا نتوكأ على النصوص، ولا نستثير العقائد، ولا نطالب بمجرد الإيمان، ولكننا إنما نرى ضرورة، وحتمية، مجيء المسيح، من ضرورة، وحتمية، الحل الذي تتطلع إليه البشرية المعاصرة لجميع مشاكلها، الفردية، والجماعية.. والإنسان الكامل (المسيح) إنما ظل هو متعلق أحلام الفلاسفة، والأدباء، والفنانين، منذ أقدم العصور، كما هو متعلق نبوءات الأنبياء، والقديسين، والصوفية في سائر الأديان.. ففكرة (الرجل الخارق) التي هي، اليوم، مادة فنية مشوقة للإنسان المعاصر إنما تدل، أعمق الدلالة، على ما ينطوي عليه هذا الإنسان من الأشواق إلى مجيء الإنسان المستطيع، الكامل الاستطاعة، الذي تملي مجيئه الضرورة الحياتية الماثلة.. وليست الجماعات التي أخذت تبشر (بالمسيح) في أوربا، وأمريكا، وآسيا، تحت شتى المسميات، إلا، كذلك دلالة على تلك الأشواق المستمدة من ضرورة وحتمية مجيئه..
إن على المسلمين لأن يتفطنوا إلى هذه الحقائق الجليلة التي ينطوي عليها دينهم، والتي أخذت اليوم تظهر، بظهور الحاجة إليها، والطاقة بها، فيتهيئوا لتوقع التغيير، الغريب، الموعود، بذهن مفتوح، وصدر متسع، ونفس سمحة.. إنهم يملكون مفتاح الكنز بأيديهم، فحري بهم أن يكتشفوه، هم، فينشروه، هم، على العالمين، وإلا فإن الوعيد بالإبعاد لهم بالمرصاد: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم)!!