إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

تعَلّموا كيف تتعاملون
الكتاب الأول

بسم الله الرحمن الرحيم
(فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرّة شراً يره)..
صدق الله العظيم..

المقدمة:


هذا هو الكتاب السادس الذي نصدره من سلسلة (تعلّموا كيف؟): ونحن نهدف من إصدار هذه السلسة إلى أن نشيع في الناس الأسلوب العلمي والعملي لإنجاز كل عمل يرمي إلى خدمة مصالحهم.. وإلى إخصاب حياتهم مادياً وروحياً.. وهذا الأسلوب العلمي يعني في المقام الأول بخدمة غرض الفرد بإعانته على توحيد القوى المودعة في بنيته، وتنمية مواهبه، بالصورة التي تحقق له الأمن والسعادة.. ثم هو يعني بالجماعة، وإخصاب حياتها، وإقامة العلائق بين أفرادها على أساس من المصالحة، ومن السلام، والمحبة.. وذلك عن طريق تهذيب أفرادها، وإعطاء كل منهم التصور السليم، والمنهاج الذي بممارسته يستيقن أن مصلحته إنما هي في العمل لمصلحة الآخرين، ويصبح محباً للآخرين، كلفاً بتوصيل الخير إليهم، وعالماً بسبل توصيل هذا الخير..

أزمتنا أزمة أخلاق:


إن موضوع كتابنا هذا هو: (تعلموا كيف تتعاملون).. ومعالجة موضوع المعاملة بصورة علمية وموضوعية تقتضي منّا أن ننطلق من الواقع الذي نعيشه.. فنبين حجم المشكلة، ونوضح صورة المفارقة للمعاملة السليمة ثم نقدم المستوى المطلوب من المعاملة، والوسائل العملية لتحقيقها..
إننا يمكن أن نقول، وبكل تأكيد، إن أزمة الإنسانية المعاصرة، وفي كل بقاع الأرض، إنما هي في المكان الأول، أزمة أخلاق.. أزمة معاملة.. وهي أزمة على مستوى من الحدة، ومن التعقيد والشمول، بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ.. ولذلك فهي أزمة حضارة كاملة، فقد وصلت الحضارة الغربية التكنولوجية الحاضرة إلى قمة تطورها المادي، وفشلت في تقديم الحلول لمشاكل الإنسان المعاصر، وأصبحت، كل يوم جديد، تفرز من الأزمات، ومن التناقضات، ما يهدد الحياة بالخطر.. ولذلك أصبحت البشرية اليوم تقف على مفترق الطرق فإما أن تسلك الطريق الصاعد إلى مشارف المدنية والسلام، أو الطريق الهابط إلى مزالق الهمجية والحروب.. وقد أصبحت الحرب اليوم، ومع التطور الرهيب الذي تم في صناعة السلاح تعني الفناء والدمار..
ثم إننا، بفضل الله، ثم بفضل التقدم التكنولوجي، أصبحنا نعيش في كوكب موحد، تقاربت فيه المسافات، بسبب التطور في وسائل المواصلات، والاتصال.. فقد أصبحنا جيراناً متقاربين، مهما بعدت مواقعنا، في أطراف هذا الكوكب الصغير.. فأصبح علينا أن نتحلّى بالأخلاق، وبالمعاملة، التي تليق بحسن الجوار.. أصبح علينا أن نتوحد أخلاقياً، كما توحدنا مادياً..
ولكن واقعنا المعاش هو على العكس من ذلك تماماً، فإننا وفي جميع بقاع الأرض كما ذكرنا نعيش أزمة أخلاق حادة، وتعبّر هذه الأزمة عن نفسها في العديد من صور الانحرافات السلوكية وصور سوء المعاملة التي لا تكاد تحصى.. فلقد انتشرت الحروب وراجت صناعة السلاح، حتى أصبحت سوق السلاح من أكبر الأسواق في العالم.. ويكفي في التدليل على أزمة الحضارة القائمة أن الإنسان أصبح ينفق على السلاح، وعلى وسائل الدمار، أضعاف ما ينفق على وسائل السلام والتعمير.. ويمكن لإيضاح هذه الصورة البشعة أن نورد هنا ميزانية الولايات المتحدة للدفاع لهذا العام، لتعطينا تصوراً لمبلغ ما يصرف على وسائل الدمار، ولحالة الرعب والخوف من الحرب التي يعيش فيها الإنسان المعاصر.. فقد بلغت ميزانية الدفاع في الولايات المتحدة، لهذا العام فقط مائة وستة وثلاثون مليار دولار!! هذه هي ميزانية الولايات المتحدة.. والولايات المتحدة بلد ديمقراطي تناقش ميزانيته في أجهزته الديمقراطية ولذلك فقد أمكن أن نعرف، مخصص الدفاع من ميزانيته.. أمّا روسيا فإننا لا نعرف عن ميزانية دفاعها شيئاً وذلك لأنها بلد تلف السرية أعمالها ولكن قرائن الأحوال تدل على أنها تنفق أكثر من ذلك.. ثم إننا نعيش في عالم قد انتشرت فيه أعمال العنف والإرهاب، والتي تستخدم فيها الأسلحة الحديثة الفتّاكة.. وقد شاعت الجريمة، وانتشرت بصورة رهيبة، وتنوعت مجالاتها وميادينها، وأصبحت تستخدم أحدث الوسائل العلمية.. وأصبح الإرهاب والإجرام، تقوم بهما جماعات سرية منظمة، مما جعل مكافحتهما أمرا شديد الصعوبة.. وأصبح الناس خصوصاً في الدول المتقدمة يعيشون في حالة من عدم الأمن، يشعرون معها بخوف دائم على حياتهم..
ودون هذا المستوى من الفساد والانحراف، فإن الظلم، واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، أصبح هو الظاهرة العامة في كل المجتمعات.. وقد أصبح الأمر الذي يحكم علائق الناس في كل المجتمعات، بما فيها مجتمعاتنا الإسلامية هو المادة.. فقد أصبح الناس ماديين بصورة أهدرت القيم الإنسانية، واختلّ معها مجرّد التصور السليم للفضيلة.. وأصبح تحصيل المادة وبكل سبيل، حتى ولو على حساب الآخرين، هو هم الجميع.. وانتشر الكذب والخداع، والرشوة، واستغلال النفوذ، إلى آخر هذه الصور من الانحرافات..
وكل هذه الإنحرافات التي ذكرناها، تنطبق على الدول، والمجتمعات، في العالم الإسلامي.. فقد فارق المسلمون لباب دينهم، فأصبحوا يعيشون على قشور من الإسلام، وعلى قشور من الحضارة الغربية..

ما السبيل؟


إننا نعيش في عالم مضطرب، متوتر وقلق، متلاحق الأزمات، فهو لا يكاد يخرج من أزمة، إلاّ ويدخل في أزمة أخرى.. ونحن إذا حلّلنا جميع هذه الأزمات ورددناها إلى أسبابها الأساسية، نجد أنها جميعها ترجع إلى أزمة واحدة أساسية هي أزمة الأخلاق.. ولذلك فإن مشاكل الإنسانية المعاصرة، لا يمكن أن تجد حلّها الجذري، إلاّ بقيام مدنية جديدة، تقوم على القيم الداخلية الدقيقة، فترد الناس إلى أصول الأخلاق، بالصورة التي تجعل تحقيق السلام في الأرض ممكناً، فتعين الفرد على تحقيق حريته الداخلية، وتعينه على أن يوظف حياته ليعين أفراد المجتمع الآخرين ليحقق كل منهم حريته..
ونحن نرى أن هذه المدنية، التي ترد الناس إلى أصول الأخلاق، وتحقق السلام، لا تتوفر إلاّ في الإسلام.. في مستوى أصوله، مستوى السنّة.. وهذا ما نحن بصدد توضيحه، وتوكيده..

المعاملة ما هي؟


إن المعاملة، بمعناها العام والشامل، تعني مواءمة الإنسان بين حياته وبيئته، الطبيعية، والاجتماعية.. ولقيام هذه المعاملة لا بد من المذهبية التي تعطي التصور الصحيح للبيئة.. ولا بد من المنهاج العلمي، والعملي، الذي عن طريقه يستطيع الإنسان أن يوائم بين حياته وبيئته..
وإذا نظرنا إلى البيئة نجد أنها هي في الحقيقة بيئة روحية، ذات مظهر مادي.. فقد أظهر العلم التجريبي أن المادة، كما تظهر لنا، ليست هناك، وإنما هي طاقة.. وهذه الطاقة هي عند الدين (الإرادة).. إرادة الله، خالق الأكوان، وخالق الإنسان.. فالوجود هو إرادة الله تجسّدت.. فنحن إذن نعيش محاطين بالمظاهر الإلهية، وهذه هي بيئتنا.. فلكي نحقق المعاملة المطلوبة، ونحقق السلام، علينا أن نعرف الله، وأن نعرف أسرار صنعه في الوجود وفينا، هذا الصنع الذي هو بيئتنا.. وسر صنع الله في كونه هو الحكمة، قال تعالى: (وما خلقنا السماوات، والأرض وما بينهما لاعبين، ما خلقناهما إلاّ بالحق، ولكن أكثرهم لا يعلمون) فعبارة (ما خلقناهما إلاّ بالحق) تعني إلاّ بالحكمة، والحكمة هي وضع الأشياء في مواضعها.. وهي (نهاية العلم) و(نهاية الرحمة).. وعجزنا عن المواءمة مع بيئتنا، يأتي من جهلنا بالحكمة، وهذا ما يفيده قوله تعالى: (ولكن أكثرهم لا يعلمون).. فالرحمة قد تكون في صورة عذاب، ولكننا، لجهلنا بحكمة العذاب، نرفضها، كما يرفض الطفل المريض الدواء المر، وهو يجهل أن وراء مرارته حلاوة العافية.. وقد قال تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم.. وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم.. وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم.. والله يعلم.. وأنتم لا تعلمون).. فلما كنّا لا نعلم فعلينا أن نؤمن، ريثما نعلم، ولكننا، لجهلنا وادّعائنا، نجعل عقولنا حكما على الأشياء، رغم ما عليه هذه العقول من جهل!! ولذلك نحن نحتاج للمنهاج الذي يروض العقول على التواضع، وعلى الحياد.. وهذا المنهاج، لا يتوفّر إلاّ في الإسلام في مستوى السنّة، فنحن عن طريق تقليد النبي الكريم، نستطيع أن نتأدب مع الله، ونسير خلفه، فندرك حكمته في خلقه، فنرضى بها عن علم، وبذلك تتم لنا المعاملة الصحيحة له تعالى، ولخلقه، ويتم لنا التواؤم مع بيئتنا..
ولما كان أمر المعاملة بهذا المستوى من السموق، ومن الشمول ـ فهو أمر الحياة في جميع مستوياتها وتفاصيلها ـ فإنه ليس من الممكن حصر صور المعاملة في مثل هذا الكتاب الموجز.. ولذلك سنعني أساسا، بإعطاء التصور السليم للمعاملة، وبالدافع الذي يدفع إلى تحقيقها.. كما سنعني بتقديم المنهاج الذي عن طريق أتّباعه بتجويد يتعلّم الفرد كيف يحسن المعاملة مع الآخرين، ومع جميع الأشياء، والأحياء، وذلك من خلال ممارسته لحياته اليومية.. كما إننا سنعرض في هذا الكتاب بعض القواعد الذهبية التي تعين على تجويد المعاملة..