إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

تعَلّموا كيف تتعاملون
الكتاب الأول

العبادة والمعاملة



الأنانية العليا والأنانية السفلى:


إن التربية، وتهذيب النفس، وترويضها على الإحسان، في المعاملة، يقتضي المعرفة بطبيعة النفس البشرية بالصورة التي تعين على إيجاد الحافز، والدافع، الذي يدفع الأفراد لتوظيف حياتهم في خدمة الآخرين.. وأول ما تقتضيه المعرفة بطبيعة النفس البشرية في هذا المقام هو أن كل فرد بشري بالضرورة التكوينية أناني، محب لنفسه.. وكماله إنما يكمن في هذه الأنانية، فهي التي تدفع إلى الحركة والعمل، وتقود إلى النمو والتطور.. وأنانية كل أناني تقع في مستويين.. مستوى الأنانية الضيقة المتسفّلة الجاهلة، ومستوى الأنانية الواسعة، المتسامية العالمة.. فالأناني الجاهل يرى مصلحته في أمور تخالف مصالح الجماعة، وهو قد يضحي بمصلحة الجماعة، ليصل إلى ما يظنه مصلحته هو.. وهو بذلك يضيع مصلحته هو الحقيقية كما يضيع مصلحة الجماعة.. وهذا هو ما عليه حال الناس اليوم، بصورة عامة.. وهو السر في أزمة الأخلاق، وفي تفشي سوء المعاملة بين الناس..
أما الأناني العالم فهو لا يرى مصلحته إلاّ فيما يستقيم مع مصلحة الآخرين، فهو لذلك، ومن أجل مصلحته الشخصية، يسعى إلى خدمة الآخرين، وإلى تحقيق مصالحهم، وهذا هو السبيل الوحيد لتحقيق المعاملة الإنسانية الرفيعة.. وهو أمر لا يتم تحقيقه إلاّ عن طريق الإسلام، في مستوى السنة.. وقد وضع الإسلام نفسه، منذ البداية، ضد الأنانية الجاهلة، ومع الأنانية العالمة، فقد قال المعصوم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه).. كما قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به).. وهواه يعني أنانيته الجاهلة.. وفي قوله: (إن أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك)، يعني أن أعدى أعداء نفسك العليا، حيث الأنانية العالمة، نفسك السفلى، حيث الأنانية الجاهلة.. فكل السلوك، والمعاملة الحسنة، إنما يقوم على التخلّي من الأنانية الجاهلة ومحاربتها، والسير في طريق الأنانية العالمة، وهي دائماً في اتجاه مصلحة الآخرين.. وهذا الأمر يحتاج إلى مستوى من دقة الفكر، وقوة الإرادة، لا يتوفّر إلاّ في نهج السنّة..

المعاملة ثمرة العبادة وخلاصتها:


لقد كان كتابنا الأول وكتابنا الثاني من سلسلة (تعلّموا كيف؟) عن الصلاة والصوم، فهما عن العبادة.. أمّا كتابنا هذا فهو عن المعاملة.. وفي الإسلام العبادة والمعاملة وجهان لعملة واحدة.. فالتشريع الإسلامي يقع على مستويين، مستوى الجماعة ومستوى الفرد: فأمّا في مستوى الجماعة فيعرف بتشريع المعاملات وأمّا في مستوى الفرد فبعرف بتشريع العبادات.. والسمة الغالبة على تشريع المعاملات أنه تشريع ينسّق المعاملة بين الفرد والفرد في المجتمع.. والسمة الغالبة على تشريع العبادات أنه تشريع ينسّق العلاقة بين الفرد والرّب، وهما تشريعان مكمّلان لبعضهما، أو هما شطرا شريعة واحدة لا تقوم إلاّ بهما معا.. فليست للعبادة قيمة أن لم تنعكس في معاملتك الجماعة معاملة هي، في حد ذاتها، عبادة.. وقد لخص المعصوم هذا الأمر حيث قال (الدين المعاملة).. فكأنما العبادة في الخلوة مدرسة تعد الفرد الإعداد النظري، ثم هو لا يجد فرصة التطبيق العملي إلاّ في سلوكه في الجماعة، وتمرّسه بمعاملة أفرادها.. ومن هنا تأتي أهمية المعاملة بالنسبة للفرد وتأتي أهمية المجتمع..
فالمجتمع ما كان يمكن أن يقوم، منذ البداية، إلاّ عن طريق تقييد الأنانية السفلى عند الأفراد، عن طريق العرف والقانون، والدين أو الأخلاق.. وقيام المجتمع اقتضى أيضا، منذ البداية أن يخدم الأفراد بعضهم بعضا، وبقدر تجويد هذه الخدمة يكون رقي المجتمع ورقي الأفراد.. وقد صدق الشاعر الذي قال:
الناس للناس من بدو وحاضرة *** بعض لبعض، وإن لم يشعروا، خدم
(فالمجتمع بالنسبة للفرد هو الوسيط الذي فيه يتحرك، ويمارس العبادة، ويمتحن الأخلاق، ويميز القيم.. وفيه يجد الأمن ويستشعر الحب ويباشر التعاون، والعمل، ويحصّل العلم. وبالعلم، والعمل وفق هذا العلم، يتوكّد وجود الفرد، وتنضج شخصيته، وتقوى، وتتحقق حريته، وتتسع حياته وتخصب).. فالمعاملة هي ثمرة العبادة وخلاصتها، والدليل على صحتها أو عدم صحتها.. ونحن في وقتنا الحاضر يجب أن نجعل من العبادة مدرسة فيها نتلقى الطاقة، والمعرفة، التي بها نخلص لخدمة الناس.. وعلينا أن نبحث عن ثمرة عبادتنا في تجدد أنفسنا وفي تجويد معاملتنا للآخرين، فإذا لم نجد من ذلك شيئا، فلنعلم أن ليس لعبادتنا قيمة، وهي عبادة غير صحيحة، ولنبحث عن مواطن العلّة فيها لنصححها، حتى تكون عبادة مثمرة نجد بركتها في عقولنا وقلوبنا وأجسادنا، ويجد الآخرون بركتها فيما يصلهم منّا من خدمة، وحسن معاملة..

المعاملة هي الصلاة الوسطى:


إن الصلاة هي الصلة بين العبد والرب.. وهذه الصلة تتم من خلال العبادة، ومن خلال المعاملة.. فالمعاملة في الإسلام إنما هي معاملة لله في خلقه، وهي ينبغي أن تتوخى مرضاته تعالى.. ومن هنا يأتي قولنا أن المعاملة هي: في الحقيقة، عبادة، بل هي ثمرة العبادة، وخلاصتها، والدليل على صحتها، وقبولها، أو عدم صحتها، وعدم قبولها.. فأنت إذا أردت أن تعرف حقيقة عبادة العابد، لا تنظر إلى عبادته من صلاة أو صوم، ولكن إلى ما أثمرته هذه العبادة من معاملة وأخلاق، فإن المعاملة الصالحة الرفيعة، لا تأتي إلاّ عن عبادة مجودة، كما أن العبادة، إذا لم تثمر معاملة صالحة، فهي لا عبرة بها، وإن كثرت.. ومن هنا يتضح أن محك التدين هو المعاملة..
ونحن في كتابنا: (تعلّموا كيف تصلّون) قد ذكرنا أن للصلاة حضرتين: حضرة (الإحرام)، وحضرة (السلام).. فحضرة الإحرام هي من تكبيرة الإحرام لوقت الصلاة المعينة، وحتى عبارة (السلام عليكم) التي يكون بها الخروج من الصلاة.. أمّا حضرة السلام، فهي حضرة المعاملة، وهي تبدأ من قولك (السلام عليكم) للخروج من الصلاة المعينة، وحتى تكبيرة الإحرام للدخول في الصلاة المقبلة.. فحضرة السلام هي الصلاة بين الصلاتين، وهي الصلاة الوسطى التي قال عنها تعالى: (حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين).. وهذا الفهم للصلاة الوسطى يأتي من قول المعصوم: (الدين المعاملة) وقوله: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).. فهو بذلك قد جعل الدين كلّه في المعاملة، والأخلاق.. وهذا التخصيص للمعاملة هو الذي يتناسب مع تخصيص الله للصلاة الوسطى، التي أفردها بالعناية الخاصة حين قال: (حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى)..
وجوهر الصلاة الوسطى حضرة (السلام)، أو المعاملة.. هو السلام، ولذلك جعل آخر ما نخرج به من لقائنا لربنا في الصلاة، هو عبارة (السلام عليكم)، وهي نفس العبارة التي علينا أن نحيي بها بعضنا بعضا، مع إضمار نية السلام، والعمل على تحقيقه.. وفي الحديث الشريف: ( لكل شيء قلب، وقلب القرآن يس، ويس لها قلب).. وقد عرف العارفون أن قلب يس هو قوله تعالى: (سلام قولاً من رب رحيم).. وبذلك أصبح السلام هو خلاصة الخلاصة في الإسلام.. والسلام لا يظهر، ويتحقق، إلاّ من خلال المعاملة.. وهذا ما جعلنا نقول إن المعاملة هي خلاصة العبادة.. وفي حديث المعصوم: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وكلمة (المسلمون) في الحديث ينبغي أن تفهم بمعنى الإسلام العام، الذي ورد عنه قوله تعالى: (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السموات والأرض. طوعاً، وكرهاً، وإليه يرجعون؟؟).. فكلمة (المسلمون)، على ذلك، تعني الأحياء، والأشياء.. فالمسلم من سلمت الأحياء، والأشياء، من لسانه ويده..
بهذا الفهم الذي به تصبح المعاملة هي الصلاة الوسطى، يتم التقارب بين عبادتنا وبين عادات حياتنا.. وتصبح العبادة والمعاملة، كل منهما، يكمّل الآخر، ويصححه.. وبذلك نسير في طريق العبودية.. والعبودية هي أن نكون كلّنا لله.. وفي ذلك قال تعالى يأمر نبيه: (قل: إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي، لله، رب العالمين، لا شريك له.. وبذلك أمرت، وأنا أول المسلمين).. فعلينا جميعا أن نكون هكذا.. وسبيلنا إلى ذلك أن نعيش بين حضرتي (الإحرام)، العبادة، و(السلام)، المعاملة، على أن نراعي الأدب في كلتيهما، وهو الحضور مع الله..
والمعاملة التي تقتضيها العبادة المجودة، والمفضية إلى العبودية، تقوم على أن يؤخر العابد نفسه، ويقدم ربه.. ولا يستقيم له ذلك إلا بأن يؤخر نفسه، ويؤخر مصلحته الذاتية، ويقدم الآخرين، ويرعى مصالحهم.. وهذا يقتضي، في السلوك العملي، في الحياة اليومية، الكثير من القيم السلوكية، مثل الكرم، والتواضع، والزهد، والتخلّص من حب السيطرة على الآخرين، إلى آخر هذه الفضائل.. ولكن القاعدة المهمة في المعاملة هي إلاّ يغيب اعتبار الآخرين عن ذهن الإنسان، وعن تصرّفاته.. ون يتوخى دائماً أن يعامل كل فرد كغاية في ذاته، وليس كوسيلة لغيره..
ويجب أن يكون واضحاً فإن العبادة والمعاملة، إنما هما لمصلحة الفرد العابد، في المكان الأول، ولمصلحة الجماعة في المكان الثاني.. أما الله تعالى فهو غني عن العبادة، وعن العباد، وإنما نحن المحتاجون، ولذلك فمن أحسن في عبادته، وفي معاملته، إنما يحسن لنفسه، ومن أساء فعليها.. وفي ذلك يقول تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها.. وما ربّك بظلّام للعبيد).. ويقول: (إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، وإن أسأتم فلها) ويقول: (يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله هو الغني الحميد..)

للمعاملة الحسنة لابد من محاربة الخوف:


والمعاملة الحسنة الحقيقية، هي التي تقوم على أسس ثابتة وأصيلة، وتنبع من داخل الفرد بصورة طبيعية، وهي لا تقف عند مجرّد الخدمة النافعة للجماعة، وإنما ينبغي أن تكون هذه الخدمة النافعة مصحوبة بعاطفة المحبة المتسامية.. هذه المعاملة لكي تتوفّر لا بد من محاربة الأسباب المعوّقة لها داخل النفس البشرية.. وهذه الأسباب ترجع أساسا إلى الخوف.. فالخوف هو الأب الشرعي لكل انحرافات السلوك، ويمكن لأي صورة من صور سوء المعاملة أن تُرد إليه، فلقيام المعاملة الحسنة لا بد من محاربة الخوف.. والخوف ما هو إلاّ نتيجة للجهل، فمحاربته إنما تكون بالعلم ـ العلم بالحقيقة المستورة عنّا بأستار الغيب ــ فإنّا، لو اطّلعنا على الغيب، لهزمنا الخوف.. والغيب عند التناهي إنما هو الله.. فمعرفة أسرار الله ـ (حكمته في فعله) ـ عن طريق تجويد التوحيد، هي السبيل لمحاربة الخوف.. وقد جعل الإسلام وكده محاربة الخوف.. فعبارة المعصوم: (رأس الحكمة مخافة الله) تعني أن بداية العلم أن نجمع مخاوفنا كلّها في الله وحده، لأنه قال: (قل لن يصيبنا إلاّ ما كتب الله لنا، هو مولانا وعلى الله فليتوكّل المؤمنون).. وكلمة التوحيد (لا إله إلاّ الله) التي هي نهج الإسلام، تعني توحيد الخوف، ورده إلى مصدر واحد بعد أن كان يأتي من كل جانب.. والعبد يحارب خوفه من مصائب الحياة بالمجاهدة على الرضا بالله، يقيناً منه بأن الله أعلم بما يصلحه منه، وأن المصائب إنما هي في الحقيقة صديق في ثياب عدو، وتوهّم العداوة إنما يأتي من قلّة علمنا، وغياب حكمة الله في فعله عنّا.. ووسيلة الرضا إنما هي، في المكان الأول، الصلاة: (فاصبر على ما يقولون، وسبّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس، وقبل غروبها، ومن آناء اللّيل، فسبّح، وأطراف النهار لعلّك ترضى!!).. وهذه الآية قد اشتملت على أوقات الصلاة الخمسة وجعلت العلّة منها أن نرضى: (لعلّلك ترضى).. فبالصلاة والصبر على ما نكره، والمجاهدة في مواطن الشدة، بكل أولئك تدركنا عناية الله، وتفتح علينا من فيوض المعرفة به، ما يعيننا على الرضى، والتخلّص من صور السخط، ومظاهر الخوف.. وبالعلم بالله الذي يعين على التخلّص من الخوف تتوفّر لنا أسباب الصحة الداخلية، ويتم القضاء على أمراض السلوك المختلفة، التي تنعكس في سوء معاملتنا للآخرين، هذه الأمراض، مثل البخل، والطمع، والتكبّر، والكراهية، والحقد، إلى آخر هذه الصور.. وعندما نتخلّص من الخوف ومن هذه الأمراض، تنبع معاملتنا للآخرين من نفس سليمة وسوية.. فالصحة النفسية، هي الأساس للمعاملة السوية.. ولتوفير أسباب هذه الصحة النفسية، لا بد من سيادة حكم القانون بحيث تقوم علائق الأفراد في المجتمع على أساس من القانون الدستوري، الذي يوفّق بين حاجة الفرد وحاجة الجماعة في أن واحد.. ولا بد من النظام الاشتراكي الذي يؤمّن الناس على أرزاقهم، ويقضي على أسباب الصراع بسبب الرزق.. ولا بد من النظام الديمقراطي الذي يؤمّن الناس على حرياتهم، ويقضي على أسباب الصراع بسبب السلطة.. والسلطة، والثروة، هما أكبر أسباب العداوة والصراع، بين البشر، عبر تاريخ البشر.. ثم لا بد من محو الفوارق بين الناس بسبب العقيدة، أو الجنس، أو العنصر، أو اللّون، ولا بد من قيام الرأي العام السمح الذي لا يضيق بأنماط الشخصيات المتباينة.. وقبل كل ذلك، وفوق كل ذلك، لتوفير الصحة النفسية، وقيام المعاملة السليمة، لا بد من منهاج التربية الذي يقضي على انحرافات السلوك، وعلى أسبابها، من الخوف، والجهل.. وهذا المنهاج لا يتوفّر إلاّ في الإسلام، في منهاج التوحيد بتجويد الكلمة (لا إله إلاّ الله)، عن طريق تقليد النبي المعصوم..

الفكر هو روح المعاملة:


من أجل تجويد المعاملة لا بد من يقظة الفكر، ورهافة الشعور.. فيكون الإنسان من سعة الخيال، ومن الرّهافة، بحيث يشعر أن الآخرين هم أيضا حساسون، وعليه إلاّ يتسبب في إيذائهم، أو جرح شعورهم، بأي صورة من الصور.. والإنسان الحساس يألم لألم الآخرين، ويفرح لفرحهم، فهو يشعر أن الآخرين ليسوا مجرد وجود خارجه، ومنفصل عنه، وإنما هم امتداد له، يهمه أمرهم، كما يهمه أمر نفسه.. وقد قال المعصوم: (من لم يهتم بأمر المسلمين ليس منهم).. وحياة النبي الكريم تجسيد للرهافة، ورقة الشعور، وقد قال عنه القرآن: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتّم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم..)..
والأمثلة من السيرة، على شدة اهتمام النبي بالمؤمنين، وحرصه عليهم، وعلى رهافة حسّه، لا تحصى، ويمكن أن تراجع في كتب السيرة.. ويمكن أن نورد هنا قوله: (لا يشتاك أحدكم الشوكة إلاّ وجدت ألمها)..
والمعاملة المجودة لا تكون إلاّ عن وعي، وفكر حاضر، ومتيقظ.. فلا مجال للمعاملة الحسنة مع عدم توفّر الخيال القوي، الذي يتصور أذى الآخرين فتجنّبه، ويتصور منفعتهم فيسعى إليها.. وبداية المعاملة الحسنة النية الصالحة.. وأدنى ما تقتضيه هذه المعاملة الفكر المحايد، الذي لا ينحاز للنفس ضد الآخرين، فإنه مع الانحياز لا يوجد عدل.. والعدل هو قاعدة المعاملة: (إن الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى.. وينهى عن الفحشاء، والمنكر، والبغي.. يعظكم لعلّكم تذكرون..).. وحياد الفكر ليس بالأمر الجاهز، عند كل فرد، بل على العكس من ذلك تماماً فإن انحياز الفكر هو الأمر الجاهز عند كل نفس.. فلتحييد الفكر لا بد من تجويد العبادة، ولا بد من مراقبة النفس كي لا تلتوي بالفكر مع أغراضها وأهوائها، ولا بد من المران المتصل على الحياد.. وعن وسيلة اكتساب الفكر المحايد يقول تعالى: (يأيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا..) فالفرقان هو النور في العقل، يستطيع أن يميز به بين قيم الأشياء، تمييزاً واضحاً، لا لبس فيه، فيلتزم الحق، ولا يميل عنه، يمنة، ولا يسرة، وهذا هو الحياد.. فالتقوى إذن هي الوسيلة لتحييد الفكر..
والفكر الدقيق المروّض هو الذي يهدي النفس، ويرقى بها إلى رحاب السلوك الإنساني، بتخليصها من السلوك الحيواني، الذي يقوم على الأنانية السفلى، حيث الاسترسال مع اللّذة العاجلة، وإتّباع الهوى، والعمل بالعادة..
والإسلام، في مستوى السنة، إنما هو نهج لتحرير الفكر، وتسديده، وقد قال تعالى في ذلك: (وأنزلنا إليك الذكر، لتبين للناس ما نزّل إليهم.. ولعلّهم يتفكّرون!!).. فقوله: (وأنزلنا إليك الذكر)، يعنى القرآن كلّه.. وقوله: (لتبين للناس ما نزّل إليهم)، يعني لتوضح للناس، بالتشريع، وبالتفسير، ما نزّل إلى مستواهم من جملة القرآن.. قوله: (ولعلّهم يتفكّرون) تجعل الغرض من إنزال القرآن، ومن إرسال الرسول، هو الفكر المستقيم.. وقد قال المعصوم: (تفكّر ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة).. ويمكن أن يقال إن الفكر هو السنة.. فقد كان النبي الكريم لا يعمل عملا، أو يتركه، إلاّ بفكر.. وهو القائل في حديث: (أوصاني ربّي بتسع أوصيكم بهنّ..).. (أن يكون صمتي فكرا، ونطقي ذكرا، ونظري عبرة).. والسنة النبوية هي المنهاج لمحاربة العادة، وإيقاظ الفكر.. يجري منها هذا في أبسط المستويات، وأيسرها، مما يستوي في المشاركة فيه الأمّيُّ الجاهل، والمتعلّم.. فقد كان النبي في حركاته، وسكناته، يقدّم الميامن على المياسر.. فهو إذا دخل بيت الخلاء، مثلا، يقدّم شماله، وإذا خرج يقدّم يمينه، وإذا دخل المسجد يقدّم يمينه، وإذا خرج يقدّم شماله، وهكذا في كل شئونه.. وبمثل هذا الصنيع البسيط يتحرك الفكر، وينشط، وتدخل في الأعمال، سواء أكانت عبادة، أو معاملة، الروح.. وبهذه البداية البسيطة يسلك الإنسان طريق الحكمة، التي هي وضع الأشياء في مواضعها، وهي تقديم الفاضل على المفضول.. وهذه البداية البسيطة تتداعى إلى أعلى القمم، إذ أن العبودية، وهي أعلى مراتب السلوك، إنما هي وضع الأشياء في مواضعها، وتقديم الفاضل على المفضول.. هي تقديم الرّب وتأخير العبد.. وقد سبق ذكر أن المعاملة، في قمتها، هي تقديم الرّب وتأخير النفس.. وتقديم أمر الرّب، وتأخير هوى النفس.. وأمر الرّب دائماً في اتجاه التوفيق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة.. فمظهر تقديم الرّب في السلوك العملي في الحياة اليومية هو تأخير (الأنا) السفلى، وتقديم (الأنت)..
ومن كل ذلك يتضح أنه لتجويد المعاملة، لا بد من الفكر الدقيق، المستقيم والمحايد.. وإن نهج السنّة هو السبيل لتحقيق هذا الفكر في أدنى المستويات، وفي أعلاها، وهو لذلك الوسيلة الواسلة لتحقيق المعاملة المجودة..