إن الرجل الحر حرية فردية مطلقة هو ذلك الرجل الذي يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويعمل كما يقول، على شرط واحد هو أن يكون كل عمله خيرا، وبرا، واخلاصا، وسلاما، مع الناس..

الأستاذ محمود محمد طه - كتاب (لا إله إلا الله)

menu search

الخفاض الفرعوني

الحركة الوطنية وثورة رفاعة والخفاض الفرعوني:


لقد نشأت الحركة الوطنية، واتجهت إلى العمل السياسي بنشوء مؤتمر الخريجين عام 1938.. وقد جمع المؤتمر شمل المثقفين السودانيين، وبدأ نشاطه في المجال الاجتماعي، أولا، ثم لما نشبت الحرب العالمية الثانية، وأخذ أبناء البلاد المستعمرة المشتركة في الحرب مع الحلفاء، يتطلّعون إلى نيل استقلالهم، صدرت وثيقة الأطلنطي بين الحلفاء تعد شعوب البلاد التي تعاونت معهم بحق تقرير المصير عند الانتصار.. في هذا الوقت، وفى عام 1942، أخذ المؤتمر يسفر عن وجهه السياسي، فتبادل المذكرات السياسية مع الحكومة.. وبدأ منذ يومئذ يتبلور صراع الخريجين على كراسي المؤتمر، وبدا واضحا وجود تيارين متصارعين على قيادة المؤتمر.. ولم يكن خافيا وجود طائفة الختمية وطائفة الأنصار في داخل المؤتمر.

الحركة الوطنية وانعدام المذهبية:


لقد نشأت الحركة الوطنية عندنا وهي تفتقر إلى المذهبية، وتعاني من فراغ الفكر، كما أنها كانت تعاني من فراغ الحماس.. ويرجع السبب في فراغ الفكر عند الحركة الوطنية إلى لجوء الأحزاب السياسية عندنا، إلى الطائفية تلتمس عندها السند الشعبي.. فقد واجهت الحكومة الخريجين بأنها لا تقبل منهم حديثا عن مستقبل السودان السياسي، لأنهم لا يمثلون سواد الشعب السوداني وان الذي يمثل الشعب هم زعماء الطائفية، وزعماء القبائل، وعند ذلك لجأ الخريجون إلى زعماء طائفة الأنصار وزعماء طائفة الختمية يلتمسون عندهم السند الشعبي.. ولذلك ظهر داخل المؤتمر تياران تبلورا أخيرا في الأحزاب الاتحادية وعلى رأسها حزب الأشقاء، والأحزاب الاستقلالية وعلى رأسها حزب الأمة.. وهكذا نشأت الأحزاب في أحضان الطائفية وارتبطت بها، الأمر الذي جعلها أحزابا بلا مذهبية، وهي لا تملك أفكارا محددة ولا تملك تخطيطا وبرمجة. وهذا هو ما جعل الحركة الوطنية بصورة عامة تشكو من فراغ الفكر.
والحزب الجمهوري هو الحزب الوحيد الذي نشأ خارج قبضة الطائفية، ولم يرتبط بها، وسعى منذ البداية إلى ملء فراغ الفكر، وحدد إطاره واتجاهه المذهبي، على هدى الإسلام.. فقد جاء في (السفر الأول) الذي أصدره الجمهوريون في 26 أكتوبر 1945 عن الاتجاه المذهبي للجمهوريين ما نصه:
(نحن اليوم بسبيل حركة وطنية تسير بالبلاد، في شحوب أصيل حياة العالم، هذه المدبرة، إلى فجر حياة جديدة، على هدى من الدين الإسلامي، وبرشد من الفحولة العربية، وبسبب من التكوين الشرقي.. ولسنا ندعو، أول ما ندعو، إلى شيء أكثر، ولا اقل، من إعمال الفكر الحر، فيما نأتي، وما ندع في أمورنا ـ الفكر الحر الذي يضيق بكل قيد، ويسأل عن قيمة كل شيء، فليس شيء بمفلت من البحث، وليس شيء بمفلت من التشكيك.. فلا يظنن أحد أن النهضة الدينية ممكنة بغير الفكر الحر، ولا يظنن أحد أن النهضة الاقتصادية ممكنة بغير الكر الحر، ولا يظنن أحد أن الحياة، نفسها، يمكن أن تكون منتجة ممتعة بغير الفكر الحر!!
إن الحزب الجمهوري لا يسعى إلى الاستقلال كغاية في ذاته وإنما يطلبه لأنه وسيلة إلى الحرية، وهي التي ستكفل للفرد الجو الحر الذي يساعده على إظهار المواهب الكمينة في صدره ورأسه) انتهى.
ولكن لمّا كان الواجب المباشر في ذلك الوقت هو ملء فراغ الحماس ولمّا كان الجمهوريون لا يملكون تفاصيل المذهبية الإسلامية التي يريدون، فقد اتجهوا فورا إلى ملء فراغ الحماس، لما رأوا من خواء الأحزاب، وعدم مواجهتها للإنجليز وانعزالها عن الشعب.. وفيما بعد، وبعد عامين من مقاومة الجمهوريين للإنجليز وملئهم لفراغ الحماس، ودخولهم السجون، عادت الأحزاب الأخرى إلى ميدان الحماس الوطني في عام 1948، وبعد ذلك اتجه الجمهوريون لملء فراغ الفكر وتقديم المذهبية الإسلامية التي يدعون إليها.

فراغ الحماس:


لقد تمثل فراغ الحماس في الحركة الوطنية عندنا في انعزال الأحزاب عن الشعب، وركونها أولا إلى الطائفية، واعتمادها ثانيا، على دولتي الحكم الثنائي، مصر وبريطانيا، فقد احتضنت مصر الاتحاديين الذين اكتفوا من العمل السياسي بالسفر إلى مصر والإقامة في الفنادق الفخمة على حساب الحكومة المصرية، حيث كانوا يدلون بالتصريحات، ويعقدون المؤتمرات الصحفية، فانعزلوا بذلك عن الشعب السوداني..
وفى الجانب الآخر ركن حزب الأمة إلى الانجليز، فارتضى الاشتراك في مؤسساتهم التشريعية مثل المجلس الاستشاري لشمال السودان، والجمعية التشريعية، وكان رجالهم من المقربين إلى حكومة السودان، تاركين الشعب مجمّد الوعي. وقد كان نضال حزب الأمة والأحزاب الاتحادية هو مجرّد تبادل المذكرات مع دولتي الحكم الثنائي ولقد كانت مذكرات مؤتمر الخريجين منذ البداية متأثرة باتجاه الطائفتين في الركون إلى طرفي الاستعمار مصر وبريطانيا.. ويتضح ذلك جليا من المذكرتين اللتين رفعهما المؤتمر سواء على عهد رئاسة إبراهيم احمد، 3/4/1942 أو على عهد رئاسة إسماعيل الأزهري 23/8/1945. ففي المذكرة الأولى جاء الخطاب إلى الحاكم العام الانجليزي هكذا: (يتشرف مؤتمر الخريجين بأن يرفع لمعاليكم بصفتكم ممثلين لحكومتي صاحب الجلالة الملك جورج السادس ملك بريطانيا العظمى والملك فاروق ملك مصر.. الخ).
أما المذكرة الثانية فقد كانت اضعف من الأولى وجاءت مطالبتها لحكومتي مصر وبريطانيا أن تعلنا موافقتهما على: (قيام حكومة سودانية ديمقراطية في اتحاد مع مصر تحت التاج المصري)!!.
هكذا أفرغ ركون الأحزاب إلى دولتي الحكم الثنائي، الحركة الوطنية من الحماس.. وأصبح نشاط السياسيين هو إرسال المذكرات والوفود!! فبدل أن تستغل الأحزاب الاستقلالية، والاتحادية، مناسبة المفاوضات المصرية الانجليزية ـ مفاوضات صدقي استانجيت ـ حول السودان في مارس 1946 في القاهرة، بدل استغلال هذه المناسبة في إشعال نار الحماس وسط الشعب هنا في السودان، اكتفت هذه الأحزاب بإرسال وفد إلى مصر ليقيم في أفخم الفنادق على حساب مصر ليراقب المفاوضات!! بل أسوأ من ذلك، فإن وفد الأحزاب قد أجهض مطالب السودانيين الحقيقية، ولم يرتفع إلى مستوى النضال المطلوب، ويطالب بالانعتاق التام عن أسر الاستعمار!! فقد نشرت جريدة الرأي العام بتاريخ 28/3/1946 أن الوفد السوداني عقد مؤتمرا صحفيا في القاهرة أعلن فيه:-
(إن مطالب السودانيين تتلخص في:
1) إقامة حكومة سودانية ديمقراطية في اتحاد مع مصر. وقد ترك نوع الاتحاد معلّقا لم يبت فيه.
2) مصر والسودان سيقرّران معا طبيعة هذا الاتحاد.
3) عقد محالفة مع بريطانيا العظمى على ضوء هذا الاتحاد المصري السوداني)!!
وقد رجع ممثلو الأحزاب الاستقلالية، في الوفد، من مصر بعد أن شعروا بفتور معاملة المصريين لهم، وقد اقبل حزب الأمة بعد عودة ممثليه إلى السودان، أكثر مما مضى على التعاون مع الانجليز، والاشتراك في مؤسساتهم التشريعية، المجلس الاستشاري لشمال السودان، والجمعية التشريعية، وكان حزب الأمة يرى أن الحكم الذاتي يمكن أن يتم عن طريق هذا التعاون مع الانجليز، وبالتطور الوئيد لهذه المؤسسات التشريعية.
وعندما انتقلت المفاوضات المصرية الانجليزية إلى لندن بعد سبعة أشهر من انتهاء المفاوضات التمهيدية في القاهرة، بعث حزب الأمة في أكتوبر 1946 بسكرتيره العام عبد الله خليل لمراقبة سير المفاوضات، مفاوضات صدقي- بيفن، وليعمل على إلا تنساق انجلترا إلى جانب المصريين الذين كانوا يساومون حول سيادة السودان.